تكريم النحّات نعيم ضومط
كلمة الدكتور انطوان ضومط في ندوة تكريم نعيم ضومط
في اطار المهرجان اللبناني للكتاب نكرم اليوم النحات نعيم ضومط
ايها الحضور الكريم
منصات كثيرة اعتليت، من دون ان يرهبَني موقف، او تجنح بي العواطف، وآمل الا يكون اليوم الوضع مختلفا، فمن نكرمه تربطني به قرابةٌ، وجيرةٌ، وطفولةٌ، وشبابٌ، ورفقةُ عمر. وبالتالي تحدوني استعادات من الماضي، تتقاطع فيها عواطف تحمل من الاخوة الشيئَ الكثير، ومن الزمالة ورفقة الدرب محطاتٍ وتعرجاتٍ، واحلاما طفولية، وشغفَ شباب بالمغامرة.
في قرية شوفية وادعة تعانقها تلال خجولة، وتزينها كروم متنوعة وتوشحها بساتين زيتون تشهد على تجذرها ايكاتٌ احد لا يعرف سنييَ عمرها. ويغازلها البحرُ المنساب بعيدا فتخالَ الافقَ سرابا. في المغيرية ولد نعيم حبيب ضومط في 1941، في بيت متواضع. هو اوسط اخويه واختيه، اعالهم والد بنّاء (معلم عمار)، كانت ترفده ارض زراعية ببعض المساعدة. انهى المرحلة الابتدائية في مدرستها، التي لم تعدُ غرفتين متلاصقتين، توزَعها مدرسون ثلاثة:وديع العكاوي، عبد الحفيظ سعد، وعلي حسن سعد، شابهت في بعض مداليلها مدرسةَ تحت السنديانة. وتضمنت مقررات التدريس، او هكذا شاء مدرسوها، ان يحفظ الطلاب المسلمون آيات قرآنيةً عن ظهر قلب، ودفعت سرعة نعيم بحفظها، من دون ان يكون ملزما بذلك، الاستاذ عبد الحفيظ الايعاز اليه مساعدة تلامذة مسلمين كانوا يعثرون بحفظها. فكان ذلك دلالةً على ذاكرة امينة ويقظة، اثر عنه ايضا سرعةَ البديهة، وتوقدَ الذهن، وحسن الادراك. في عام 1955 حاز الشهادة الابتدائية، فكوفئ بساعة يد، ضاهت منزلتهتا انذاك جائزة كبرى. ولاستكمال دراسته انتقل الى صيدا، التي لم يمكث فيها الا سنة واحدة، لتنتهي مرحلة اولى من مسيرته المدرسية.
ايها الاصدقاء، استعيد زمنا غبر، فاذا السنون تتراكم مسرعة العد، ولا تتثاقل خطاها رأفة بالعمر المتقدم. واذ احنّ اليه، آملا استعادة مشاهدَ عبرت، يعصي عليّ منها ما سجنته صناديق النسيان باحكام، وافتنّ بما حفر في حنايا الذاكرة مطارح استكان فيها، خاشعا لوفائه، فهو مؤنسي كلما عبر الحنين الى خبايا الماضي. ذاك الماضي العذب بمجمله، المخدوش رونقه بوخزات مرارة، ومنه استوحي في هذه العجالة بعضا مما عايشته مع نعيم. اعود بالزمن الى نيف وستة عقود حينما كنا اولادا، نتوق الى اللعب، ويظلل الطيش ما اتيح له في مجال رغباتنا واهوائنا. في ذاك الزمن الغابر حُجزنا اخي وانا في كرم نحرسه، كرم ناء عن القرية يشرف على واد يحتضن فيى حناياه نهرا تجف مياهه منذ اواسط الربيع فسمي " بو اليابس". كنا ندرس، نلعب، ونصرخ، نتشاجر، ولا من مؤنس سوى صدى الوادي، واصواتِ الرعيان، واحيانا بعض احاديثِ ومشاحناتِ مالكي الكروم المجاورة. كانت نهارات الصيف الطويلة تنال من صبرنا، وتضعف عزائمنا نحن الصغيرين. نعيم وحده، من نكرمه اليوم، كان يكسر تلك الرتابة، ويعيدنا الى عالم الاولاد الموشح بالفرح، والمحمول ببرأة اللهو. كان احيانا يحمل الينا الطعام، ويلعب معنا. وغالبا يقصدنا لنلهو فقط. به كنا نستعين لصناعة الالعاب لافتقارنا اليها جاهزة، بعجن التراب بالماء وصنع ما تيسر من حيوانات ومعدات زراعية استعرناها من المحيط القروي. كان انتاجه غايةً بالدقة والجمال والتناسق، وما كنا ندري من اين يستمد تلك المهارة، ولماذا نحن نعجز عن مجاراته؟! فحماره يكاد ينهق، وبقرته تخور...ما أشّر على براعته في النحت. وقد يجهل بعضنا ان نحت البرونز يبدأ بعجن الطين ثم نحته، قبل ان يُصّب عليه البرونز. اما براعته بنحت الخشب، المتميز به اليوم، فبدأت بصناعة النقفية، التي تميزت بدقة قوصها وتناسقِه، وتوازنِه، ونعومةِ ملمسه، وجماله. كان بارعا بالرماية بها، فقلما تفوّق عليه اخواه واترابُه ممن كانوا يصطادون بالبندقية، فغلته كانت اجمالا الاغنى. ان نعيما الذي اعرفه ذكي، خلّاق، دائم الحركة، ينزع بطبعه الى الابداع، ثاقب النظر، دقيق جدا في مواعيده وإلتزاماته، ماهر في الالعاب اليدوية لا سيما التي تتطلب اتقانا.
كنا اخي وانا ننتظر منقذنا من الفراغ القاتل بصبر نافذ، اللاعب الاضافي غير العادي المبدع افكارا واساليب، الثائرَ على الرتابة، والنازعَ ابدا الى ابعادنا عن هم حراسة الكرم، باستيلاد الجديد من الالعاب وطرق اللهو. سأكتفي بذكر حادثة واحدة فقط: ذات يوم قررنا طرد الذنابير من عش ابتنته قريبا من عرزالنا، الذي كان مأوانا ومرتَعنا، ومظللَنا بفيئه، لأنها كانت مصدر ازعاج، وتهدد سلامتنا باستمرار، مدفوعين بحب المغامرة. فطاردناها نحن الثلاثة متسلحين بشلوح من الوزال، من دون ان نفلح بالانتصار التام، وعلى الرغم من الخوف من لسعاتها، كنا نركض، ونصرخ، ونغني والسعادة تغمرنا. لم يكن نعيم يوما متسرعا، بل متبصرا بالامور، متبحرا بها، يخطط، ثم ينفذ. فبعد ايام عدة من الكر والفر، اطل علينا من بعيد مسرعا، صائحا وجدت الحل. فقد لفّ باحكام قطعة قماش قديمة على عود غليظ نسبيا، واصطاد بحجر من نقيفته الدبور حارس المدخل، ثم اقفلنا منفذها الوحيد. وهكذا انتصرنا مؤقتا لأن الزنابير افلحت بفتح مخرجٍ آخر.
ايها الحضور الكريم انها بعضا من ذكريات طفولة من نكرّم، قد تبدو اخبارا عاديةً في الشكل، مسليةً، يكتنفها فرح الاولاد الثائرين الغاضبين، التواقين الى الافضل والانسب وفق معاييرهم. انما مضمونها يختزن ملامحَ من شخصيته؛ الحنكةَ، والشجاعةَ، دقةَ الصنع وتناسقَه، الابتكارَ والذكاَء، والوفاء. وأشَّرت جميعُها على موهبة دفينة تختلج في اعماقه، تنتظر عوامل يقظتها.
يا اصدقاء نعيم، رب صدفة خير من ميعاد، او ضارة نافعة. احدث زلزال 1956، دمارا كبيرا لا سيما في قضاء الشوف وجواره. واعتقد اهلُنا ان المدارس في صيدا لن تتمكن من فتح ابوابهِا لما اصاب بعضَها من تصدع، فانتقلنا نحن الثلاثة وآخرون من قريتنا الى مدرسة الدمور الرسمية التي لم تصب باذى. ومن حسن حظ نعيم كانت الغرفة التي سكناها تجاور بيت الرسام المبدع ميشال عقل المقعد، فتعرفنا به عن طريق ابني اخيه شديد وايلي، من كنا نلعب معهما. وكأن نعيما وجد ضالته فصار يقصده باستمرار، مستوضحا امورا تتعلق بتقنيات الرسم. فآنس به ميشال واخضعه الى نوع من امتحان كشف موهبته بالرسم، فاعجب به، ولقنه مبادئ اساسية في هذا الفن. شغف نعيم بالرسم حتى الثمالة، واهمل نسبيا دروسه المدرسية، لاسيما المواد العلمية، التي لم يكن على وفاق معها. بلغ به الشغف درجة جعلته يترصدَني، بينما كنت ادرس يكبّ على الرسم، مقتنصا بعض وضعياتي: مستلقيا، او جالسا على كرسي، او غير ذلك، ويستميحني عذرا الاّ اتحرك ليكملَ المشهد، او الصورة.
كثيرون حتى اقرب المقربين اليه لا يعرفون انه كان يستثيغ الشعر، ويقرض بعضه باللغة العامية، واعتقد انه فرّط بهذه الملكة. ذات مرة طلب استاذنا الشاعر انطوان عون، من تلامذة صفنا كتابة قصة فلاح، او اي موضوع نرغب به، نثرا او شعرا، فصيحا او بالعامية، ودهشنا جميعنا عندما طلب الاستاذ عون من نعيم القاء قصيدته امامنا جميعنا، لأنها حازت اعجابه.
بما انه لم يكن بارعا جدا في المدرسة، وتأمينا لمستقبله، اشار عليه والده الالتحاق باحد الاسلاك العسكرية، ولكن اخاه البكر اسعد، الذي كان ما يزال مدرسا في مديرية التعليم الابتدائي، قبل ان يصبح مفتشا اداريا عاما، اخذه على عاتقه، على رغم تواضع راتبه، وادخله معهد ألكسي بطرس -جامعة الألبا اليوم-. هناك عاش عالمه المنشود، واجتهد بتحقيق امنياته، فلم يكتف بدراسة المقررات المطلوبة، بل تعداها، فنهل الكثير الكثير من تاريخ الرسم والنحت، واصولِه، وانواعِه، وتطورِه، وتعمّق بدراسة اشهر الرسامين والنحاتين العالميين، مكونا ثقافة فنية عامة غنية، انعكست ايجابا على شخصيته، وزادت ثقته بنفسه، فمخر عباب عالم الفن من دون التلفت الى الوراء.
لاحت في الافق فرصةٌ نادرة، بتقديم ايطاليا منحة للنحت، عبر وزارة التربية الوطنية، وليس من خلال سفارتها وحدها، ما اتاح الفرصة لكل راغب الاشتراك في المباراة، بمن فيهم من درسوا في المعاهد الاوروبية، او نالوا منحا قصيرة الامد، والمجازين في في هذا الميدان. ما افقد المساواة بين المتبارين. ادهش نعيم بعض الفنانين الكبار واساتذتِه، بحلوله في المرتبة الاولى.
سافر الى ايطاليا، بادئا رحلة العمر في الميدان الذي طالما طمح اليه، وعاد متخصصا بنحت الخشب والحجر معا، ولكل منهما خاصاتُه وتقنياتُه. وبدأ حياته المهنية بالتعليم في دار المعلمين والمعلمات في الاشرفية، وفي كلية الفنون في الجامعة اللبنانية، وعدد من الجامعات الخاصة.
ايها الاصدقاء ان تكريم مبدع هو فعلُ ايمان حضاري، وصلاةُ مثقفين خاشعة نرفعها على مذبح الخالدين، واليوم هو انحناء لتزاوج ابداعي لاحاسيس مرهفة مع الألوان، ووفاء لازميل لا يعرف الكلل، ينفث حياة في الحجر الجامد، الاصم، ويطوّع اخشابا صلبة فتستحيلَ جميعها اشكالاً رائعة تنبض بشتى الاحاسيس، الباسمة، الحزينة، الفرحة... وتحاكي مشاعر الناظر اليها وتذكيها؛ فتختال رقة حينا، وحياء حينا آخر، وجرأة مرة ثالثة، وتروي حكاياتٍ مغناجةً باساليب فنيةٍ رائعة، ترقى بناحتها الى عالم المبدعين الخالدين.
جوزيف ابي ضاهر
احار ايَّ لقب اسبغ على جوزيف ابي ضاهر: الشاعر، الصحافي، الاعلامي، الرسام، النحات، المسرحي، السيناريست، او الناشر، ولعل مناداتَه ب"الصديق" يجنبني الاحراج. بدأ عمله الصحافي في مجلة الدبور ثم صار رئيس تحريرها. كتب مقالات بانتظام في عدد من الصحف والمجلات اللبنانية. واسس عددا من المجلات ودور النشر من ابرزها دار كنعان 1975-2001، واشرف على منشورات اكثر من دار. شارك ولمّا يزل في عدد من المحافل الادبية والفنية، وانضم الى بعضها اذكر منها: جمعية الملحنين وناشري الموسيقى منذ العام 1985، ونقابة الفنانين المحترفين... وامين سر عصبة الشعر اللبناني...
جوزيف ابي ضاهر شاعر مرهف الاحساس، نظم اغنيات لعدد من المشاهير كوديع الصافي، وتجاوزت دواوينه الثلاثين، وكتبه السبعين، تُرجم بعضها الى الانكليزية والفرنسية، اذكر منها "ع البركة" و"يوميات في المنفى" الذي صدر بالانكليزية وترجم الى الفرنسية. ولعل "موسوعة الزجل اللبناني"احدى اهم الانجازات في مضمارها. له اياد بيضاء في حقلي التلفيزيون والاذاعة اذ اربت حلقاته على ستة آلاف حلقة.
تخطى خياله المرهف تلك العوالم، على اهميتها، الى فني الرسم والنحت، وابدع بهما، فقد شارك في عدد من المعارض المحلية والعالمية: في البرازيل واستراليا وغيرهما. واستحق عددا من الاوسمة والجوائز، لعل ابرزها: وسام المؤسسة الفرنسية للتشجيع على التقدم. ونأمل ان يحظى باوسمة ويكرّم على اعلى المستويات في لبنان. فمن يبدع في هذه الميادين كافة لعمري هو انسان فذّ وخلاّق.
_________________________________________
ناســك زمن الضجيج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جوزف أبي ضاهر
«يوم تكريم نعيم ضومط»
الحركة الثقافيّة – أنطلياس
4 آذار 2019
قَبل ما يبلّش العيد، عْزَمتن يجو
عنّا صُوَر. عنّا حكي عَم ينكتب بْ اللون
عنّا عينين بيعشقو قاماتهن... ما اهتمّو
وصل العيد وما إجو.
والناسك القاعد بفيّة المعرفه، الما بتنعطى إلاّ لـ المختارين، ما سمحلن يتركو مطرحن.
العقل بيتدخّل. انتبهو: مش كّل شي بيلمع هوّي النور الـ بيوصّل لأبعد من شهره، صارت موضه... بتخلص قَبل ما تكون الشمس كمّلت مشوارا، بآخر النهار.
الناسك، من القلال بْ زمن الضجيج، بيرسم، وما بيحكي. بينحت القصايد الـ بتخلّي العقل يقرّب صوب الجمال يوشوشو: ما تكشف كلّ وراقك.
قبل ما تكتمل الدهشه، بيكون الـزْميل ومطرقة الخشب أخدو مطرحن. كمّلو لعبة الخلق الـبتوصّل عَ الزيح المرسوم قدّام عينينا. الزيح البيفصل بين السما والأرض.
... ويا حظ الـ بيوصل قبل غيرو، وبيشارك بْرسم هَـ الزيح. بتنعطالو مفاتيح الدهشه.
بيفتح بواب صومعتو. بيقول لَمستحقين المعرفه:
فوتو، جوّا المدى ما إلو حدود... والفرح ما إلو حدود.
بتغمز المنحوته أختها، وعَ صوت ما بيشبه الحكي، بِسمَع:
قولِك صابيع النحاتين والرسامين إلهن عينين عاشق، بيخلّوكي توقّعي تيابك..؟
لَشو التياب، ما الدفا عم يمشي بعروقك... ردّلك الحياة.
الـ فاتو ع صومعة هَـ الناسك، فاتت المعرفه معن، مشيت حدّن، عرفو كيف الجمال بينده، من اللحظه اللي بيتكوّن فيا... بيوسّع المدى.
***
مين هَـ الناسك؟
كيف سبقنا وقطف من قدّامنا جمالات، كنّا نشوفا، بس ما عرفنا ننغرم فيا، ولا عرفنا نخلّيا تنغرم فينا؟
السؤال مَرَق بِ بالي، متل ما عم يمرق بِ بالكن.
بتقول الحكايه:
بْ ليله، والصيف بْ عزّو، ناصب عرزالو لضوّ القمر... حطّ «المعلّم حبيب» مطرقتو وزْميلو، يرتاحو، بعد نهار من التعب:
بكره في عَتبة بيت رح تنرفع وتاخد مطرحا.
وين؟
قبل ما يمرق بْ بالو المطرح، سمع صرخة طفل جوّات بيتو:
«جانا صبي... مبروك».
عِرف «المعلّم حبيب» إنّو العتبه التانيه انحطّت مطرحا:
... وينطر الحجر، وتنطر الإيد البدّا تصلّب عَ العتبه... وسكت.
بكره، شو رح يطلع؟ شو بدّو يكون؟
... ويكون البدّو يكونو، «خْلقه كامله نعمه زايده».
سَجّلو بْ دفتر المعموديّه تاريخ: 18 آب 1941.
بلّش الفرح مشوارو.
الفرح هوّي النعمه المقدّسه البيسمّوا مرّات: الموهبه.
***
أوّل ما سمْعت الأرض دعسات الولد الزغير، خيطولو مريول بْ لون العتم، وبيت لَـ الكتب بيشبهو بْ اللون، بس ما فيه كتب، في لوح زغير أسود وطبشوره، وعروس زعتر وزيت.
انفتح قدّامو أوّل باب، شاف الأبجديه بْ كلّ حروفا ناطره الولاد الزغار، تَ تكون زوادتن بْ المشوار الطويل صوب المعرفه.
«أبجد هوّز»... بلشو الإيدين الزغار يدلو العينين ع المشوار الرح يرافقن كلّ العمر، من مدرسة الضيعه لمدينة الأبجديه الفتحت شبّاك النور للعالم كلّو.
بْ صيدا تعلّم الولد العم يكبر عَ مهل. تعلّم يكون مستعد يروح للأبعد، نقل من مدرسه لأكاديميّه، لَ السَفَر عَ بلاد كرّس الفن مجدها، وصيّرا علامة جمال، بيعجز العقل عن تحديدو.
سَفْرتو عَ روما ما انعطت بْ بطاقة ترضيه. أخدها بْ أوّل نجاح كان العلامه اللي انضافت عَ سجلو الصيّرو بْ مدّه قصيري «المعلّم»... تعمّد مرّه تانيه بْ التواضع.
وحدن الكبار، بيعرفو غِنى التواضع ومجدو.
التفت ع مطرقة «المعلّم حبيب» مَسَح الغبار عنّا، نَقَلا لـ خزانة الأمانات، علامة إحترام، متل كلّ الـ ربيو عَ خبز مَعجن البركه.
***
أخدني الحكي عْ الماضي؟ لأ.
الحياة بتضجّر بْ السكوت، قدّ ما بتضجّر البشاعه.
رحت صوبو؟
رحت صوب الناسك القاعد بفيّة السكوت بْ زمن الضجيج.
دقّيت باب المحترف... بْروس صابيعي دقّيت، انفتح قدّامي بابين.
بْ الأوّل استقبلني، وبالكاد سمعت صوتو.
النسّاك ما بيحكو كتير، دفا حضورن وحدو اللي بيحكي.
بْ أوّل فشخه للباب التاني وقفت.
فْركت عينيي، فْركتن منيح.
أف ... صرخت:
حابس الشمس جوّا؟ ليش؟
مين قلّو الشمس إلو... إلو وحدو؟
وكلّ هالقامات الموقّفا نواطير ما بتتعب؟
تَ تضل مطرحا بشو عم يغريا؟
اتطلّعت بْ كفوف إيديه، بْ صابيعو الما بيضجرو:
من وين بدّي بلّش؟
أيا منحوته بحكي معا بْ الأوّل؟
... وهوي؟
واقف، عم يتطلّع، وما يقول شي. ابتسامتو تومي: ما بَقَى تسأل.
رجعت فركت عينيي بْ صابيع الإيدتين. اتطلّعت بْ صابيع إيديه... متل الـ كأني سمعت أصوات جايي من غابات بعيده:
السجره أقوى من اللي زَرعا، بتعيش أكتر منّو، حتّى بعد ما تختير، بتمرق عليا إيد عاشق، بيوقعو تيابا، بتصير الرغبه لحياة جديده مِلْك هَـ العاشق.
وحدو بيعرف كيف، باسم الحب... بتقدر الموهبه تشارك الله بْ الخلق.
دقّات عقارب القلب بتصير دقات عقارب لحظة الإبداع.
الإبداع هوّي النعمه البتنعطى لأصحاب الموهبه.
هنّي وحدن قادرين يقتلو وحش البشاعه. يوسّعو بْ هالأرض مساحات الجمال.
***
قرّبت أكتر. مدّيت إيدي:
عَ مين بسلّم بْ الأوّل؟
رَجّعتها... وما سلّمت.
شفت الحكي مكدّس فوق بعضو. قسم كتبو العقل، وقسم كَتَبتو لهفة القلب.
الشفّتين اختلفو مع بعضن، وسوا صرخو: آه.
... والناسك الواقف جوّات ابتسامتو قبالي، ترك الحكي لعينيه.
سمعتن قالو: قرّب. هون إذا ما بتخلق من جديد، ما بتستحق نعمة التمتّع بْ الجمال.
من دون ما اترك الكلام جوّاتي يروح للأبعد، مشيت بين القامات ومش مصدّق... هنّي العم يغروني، أو اللهفه التوّجتني عاشق؟
بْ عمركن شفتو عاشق، بيعرف لوين رح يوصل بْ موعد حبّ؟
***
يا هـ الناسك، أنا من لحم، ودم، من حبر ولون.
مرّه تانيه، اتطلّعت بْ عروق العرايس الحابسن جوّات الحبّ، واتطلعت بْ طرف عينيي بْ عروق إيديه.
كلّن بيقربوك؟
مين حكّمك فين؟
مين علّمن هالقد ينغرمو فيك... ويضلّو خاضعين لطاعتك؟
شي من جوّا شَدّ بْ صوتي:
ما بقى تسألو... النسّاك ما بيحبّو الحكي... هنّي بس، بيعرفو يحبّو.
... وبيحبّو وسع عَقلن وقَلبن.
قدرتن عَ الخلق ما خَضَعت لـ «حكاية التفاحه والمرا» الما كان إلها وظيفه إلاَ: تعلّم آدم يدوق... وداق.
بعدا؟
تتخربط اللعبه... أو تبلّش... ما بتفرق.
يبسو عروق الحكايه، وبعدن عم يخبروها ويجرّبو يقنعونا فيا.
هَـ الناسك، عطيو «المعلّم حبيب» اسم، في شي من عطر حكاية «المرا والتفاحه»: نعيم.
... وعطيو هويّه.
أوّل حرف فيا، كان ضربة «زميل»، رافق صوتو صوت نَبْض إيديه وقلبو وعقلو.
راح صوب المعرفه. تْعلّم وعَلّم. وحَفَر ملامحو بْ الما بينمحى.
بْ البساطه الصعبه اشتغل الشكل. بْ دِقّه زادت توهّج الجمال الحافظ ع الجوهر، وترك كلّ شي برّاتو يوقع عَ التراب... يلمّو النمل، وما بيتعب.
لغة التجريد أصعب من اللغة الـما قدرت تنضّف حالها من الثرثره، تَ ينلهفلها العقل، ويوسّعلها المطرح البيليق فيا.
التجريد هوّي السرّ البيقدّم حالو لأصحاب المعرفه، ولو قلال.
مطرحو؟ وحدو الـ بيقررو.
أكيد، مش عَ الرصيف العم يجمع الورق اليابس، تَ يبرطل الهوا، وينغرم فيه.
بين المنحوته واللوحه في قرابه. الزيح ما بيفصل بينن، تَ تضلّ المقدره نُصّا موهبه، والنصّ التاني معرفه غنيّه بْ الثقافه والعلم... وتتبارك لعبة الخَلق.
المخلوق الـ توّجتو الموهبه، بيقدر يشارك الخالق، يجسّد الحركه، يصيّرا قامه، وقيمه، لمواضيع فيا شي من روحانيّه بتخلّي الحياة تفتحلها الباب الواسع. تفوت... وتاخد مطرحا.
***
الدخول لـ «فرح النسّاك»، صعب كتر ما فيه دفا.
بين الرسم والنحت بتلبس الموهبه تياب شفافه، وما بتستحي، لأنّو مش أي إيد بتنمد لعراويها بتقدر تفكّ زرّ من زرار قميصها المعرّق، تَ تشوفها متل ما العقل والقلب شافوها.
بْ عزّ هالبساطه عِرف الناسك إنّو للتواضع أكتر من صِفَه. هوّي جزء أساس من الموهبه المشغوله عَ نول التجارب.
وقّع التفاصيل الزغيري، الما بتضيف شي، وزاد عَ الجوهر بْ صياغة حِرَفي متميز، زاد من موهبتو، ومن تكرّسو لروحانيّة الإبداع.
***
عم إحكي... وإحكي... والناسك؟
ولا كلمه قال.
ما عرفت قبلو ناسك بيتنسّك بْ المدى، وبيترك عينيه وعقلو وقلبو دوّارين عم يفتشو عن خطوط ومسام، بعد ما أخدها تَ يغريا... تقبل تصير فردوس جديد هوّي خلقو، وسيّجو بْ زوغة الفرح المقدّس.
بيعرفوه كلّ اللي داقو طعم الموهبه.
الجمال بيوجّع. صدقوني: بيوجّع.
... وبساطة النور الـ بيندهنا، منلاقي جوّاتا مسافه، ما كنّا قادرين نشوفا من دونو، مش بْسهوله منقدر نوصل لعندو.
***
قبل ما اترك المحترف، ويتسكّر الباب خلفي، حسّيت بْ الفرح محاوطني. حسّيت بدقات قلبي راكضي، متل وقت اللي انفتح الباب قدّامي عَ صوت الناسك هوّي وعم يقلّي: فوت.
فتت... وشفت ع صوتو مكتوب اسم: نعيم ضومط.