ندوة حول: أعلام ثلاثة في علم الاجتماع من قضاء جزين
(الدكتور سليم نصر – الدكتور ميشال عواد – الأستاذ بهجت رزق)
تقديم اعلام ثلاثة في علم الاجتماع من قضاء جزين
د. الياس القطّار
رئيس المجلس الثقافي لقضاء جزين
(د. سليم نصر- د. ميشال عوّاد- د. بهجت رزق)
في بلد تكثر فيه الجماعات الدينية والمذهبية، أو العرقية المتنافرة، يصبح علم الاجتماع بفروعه، كما علم النفس، ضرورة وطنية لتفكيك البنى الاساسية لهذه الجماعات، ورصد عقدها التاريخية المزمنة التي بنيت على التراث الشفهي المتناقل، وساهم في بلورتها نتاج تاريخي وأدبي وديني يمجّد الماضي باساطيره وبأحلامه.
ضمن هذا المناخ العلمي الاجتماعي، نلتقي في هذه الامسية، في هذه الندوة، التي تلقي الضوء على حقول ثلاثة من حقول علم الاجتماع، ساهم فيها أعلام ثلاثة من قضاء جزين في الغوص في مضامين التركيب الاجتماعي اللبناني، ورصد دعائمه ومفاصله.
1- المداخلة الأولى للدكتور ملحم شاوول: يحدثنا عن د. سليم نصر من بلدة بكاسين
الدكتور ملحم شاوول المؤمن بالحداثة، والعامل على فهم وتفكيك عناصر التركيب الاجتماعي اللبناني، الاستاذ في الجامعة اللبنانية، خرّيج العلوم الاجتماعية من جامعة السوربون، ومدير مركز الابحاث في معهد العلوم الاجتماعية، ومدير الفرع الثاني في المعهد المذكور. مختص في علم الاجتماع السياسي، وبالتواصل، وعلم الاجتماع المديني، وعضو في عدّة لجان تربوية، وفي برنامج الأمم المتحدة للتنمية وغيرها.
له عدة ابحاث باللغة العربية والفرنسية والانكليزية، نذكر منها الكتب فقط وهي:
- التفكك والانطواء، لبنان ومحيطه على مشارف الالفية.
- قضايا الجامعة اللبنانية واصلاحها (عمل مشترك).
- الافتراق والجمع، ابحاث في المجتمع اللبناني في مرحلة الحرب.
- الخطاب السياسي والوفاق(مشترك) بالفرنسية.
- مسألة الامن في منطقة الخليج العربي بالفرنسية.
تتكامل أبحاث د. ملحم شاوول، بخاصة مقالاته، مع أبحاث د. سليم نصر، وتدور إلى حدّ ما حول محاور وهموم مشتركة، ومن هذا المنطلق، سيحدّثنا عن تجربة د. سليم نصر الاستاذ الجامعي، والدكتور في العلوم الاجتماعية من جامعة السوربون ،الذي انكبّ على دراسة المجتمع اللبناني بطبقاته، ورصد محرّكاته وقواه، وتفكيك مفاصلها بخاصة في ظل الحرب اللبنانية، مستفيدا من هذا الغوص العميق في هذا المجتمع لاستشراف مضمون جديد لحقول متعددة من النظام اللبناني، ولتحديّات التنمية والمواطنة والادارة.
2- المداخلة الثانية للدكتور هنري كريمونا يحدّثنا عن د. ميشال عوّاد من بلدة جرنايا
الدكتور هنري كريمونا الملتزم دينيا، والمتعمّق في اللاهوت وتاريخ الكنيسة، والسابر اغوار الايمان بعقلانية ومحبة، استاذ جامعي مختص في الفلسفة والعلوم الانسانية، والمتخصص في اللاهوت و في العلوم الاجتماعية، هو أستاذ الفلسفة في جامعة الروح القدس في الكسليك، ومعهد الآداب الشرقية - جامعة القديس يوسف، وجامعة الحكمة، و معهد القديس بولس – حريصا والجامعة الأنطونيّة - كلية العلوم اللاهوتيّة.
كاتب مشهور، يعنى بالشأن الديني المسيحي والتربويّ، عرف بمقالاته في مجلة الرعيّة وغيرها من مجلات وصحف لبنانية واوربية، وبمشاركاته في مؤتمرات محليّة ودوليّة، وفي برامج تلفزيونية في مواضيع: روحية وتربوية واجتماعيّة، وهو مؤسس لحركة "أبناء النور والفرح".وعضو في لجان دينية.
له عدة ابحاث باللغة العربية والفرنسية، نذكر منها الكتب فقط وهي:
- "اوريجينيس، عبقري المسيحية الاولى" .
- "الاجوية" على أسئلة السينودس.
- "السينودس، صوت الروح القدس في زمن تمييز الارواح".
- دراسة تحليلية لمقررات مؤتمرات المدارس الكاثوليكية.
"- شرعة التربية والتعليم في المدارس والمعاهد الكاثوليكيّة في لبنان".
"- طريق الصحراء"، تعريب كتاب الأب ميشال حايك (بالاشتراك مع اخرين).
"- نعمة الايمان.
"- طريق السماء" – القديس شربل - (قيد الطباعة).
Réforme ou conversion -
La violence de l’amour -
تتكامل ابحاث د. هنري كريمونا مع أبحاث د. ميشال عواد، وتدور حول محاور وهموم مشتركة، ومن هذا المنطلق، سيحدّثنا عن تجربة د. ميشال عوّاد، الدكتور في العلوم الاجتماعية من جامعة السوربون، والاستاذ في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية الذي انكب على الغوص في البنى الاجتماعية والتربية، وفهم خصائص المجتمع اللبناني، وتحليل الفكر والمجتمع الديني المسيحي، بخاصة الماروني، ومسألة العدل في الديانتين السماويتين. وهو من أبرز المساهمين في الإعداد وفي تحرير نصوص المجمع اللبناني.
3- المداخلة الثالثة للاستاذ جوزيف الحاج يحدّثنا عن د. بهجت رزق من مدينة جزين
الاستاذ جوزيف الحاج، مجاز في الرياضيات وفي الجغرافيا، وحائز دبلوم دراسات عليا في علم المياه الجوفية، وهو يحضّر لدكتوراه عن جغرافية قضاء جزين الطبيعية، بخاصة عن الثروة المائية فيها. ولعلّ المياه، وطبيعة منطقة جزين، بخاصة مربع القرى التي تحيط بقريته الحرف في مشموشه ودير مشموشه وصبّاح وبتدين اللقش والميدان، قد حركت فيه أحاسيس وخيالات، فاضت قصائد شعرية، جمعها في ديوان صدر صيف العام السابق بعنوان "أوّل العنقود". وعناقيد جوزيف الحاج متنوّعة الالوان، بعضها، يعتصر نشاطات فكرية، وثقافة جامعة للأدب والجغرافيا والتاريخ والسوسيولوجيا السياسية التي تشذبها مقاييسه في علم الرياضيات.
ومن منطلق الرياضيات والجغرافيا، مسرح الاحداث التاريخية بباطنها الاجتماعي السياسي، يحدّثنا عن د. بهجت رزق ، الغائب عن جزين وعن لبنان، بحكم توليّه الشؤون الثقافية في بعثة لبنان لدى الاونيسكو في باريس، والحاضر دائما وأبداً، كأنه مقيم في لبنان وبخاصة في جزين، يواكبهما بقلبه وعقله، و حاضر الى جانبهما في الخارج، متابع لانشطتهما، ومكرّسا ما استطاع من وقته لما يخدم المصلحة العامة، من دون طائفية او انتماء دينيي. عشقه للبنان دفعه الى تكريس مؤلفات ونشاطات، شغله الشاغل فيها: الهوية والتعددية اللبنانية، بمضامينها الاجتماعية والثقافية والحضارية.
_______________________________________
كلمة الأستاذ جوزف الحاج
بهجت رزق المفكّر والباحث: قيمة وطنيّة وعالميّة
مقدمة
كم هو صعب أن نتكلّم عن الكبار؟!...، وكم هو أصعب أن لا نتكلّم؟!
فيوم تصبح، التيّارات الفكريّة نقطةَ تحوّلٍ في مسارِ الأزمنة، علينا أن نقرأ علاماتها... علينا، أن نتبصّرَ، ونستلهم... عَلّنا نقوِّمُ ما اعوجّ، ونصلِحُ ما بَليَ، ربما... ربما نبعَثُ من رميم؟!...
بين التطوّر المعيشي والتطوّر الفكري، رِفقةُ عمر... فمنذ الألفيات الأربع التي سبقت المسيح، دأَب روّاد القوم - الفلاسفة والعلماء - على رسم خارطة طريق، تبني على الصَّحّ، وتهدُف الى الأصَحّ. فتأرّخت الأحداث بالأشخاص، ولبِست الأقوام من نسيج الفكر. فذا عصر حمورابي، وتلك حقبة أفلاطون... والشعلة تنتقل من يدٍ الى يد، ومن زمنٍ الى زمن.
يقول د. رضوان السيّد: "تتحمّل النُّخَب الثقافيّة-السياسيّة في الوطن العربي مسؤوليّةً كبرى في استتباب أنظمة الاستبداد، وفي تعملق التطرّف، ... لذلك نحن نحتاج الى تغيير ثقافي كبير وشاسع، في النظم التعليميّة، وفي معرفة العالم ورؤيته، وفي معرفة مجتمعاتنا وطرائق وعيها وحركيّتها"[1]...
اليوم، يطيب لي أن أحمِل على وريقاتٍ قِلال، الكثيرَ من غِلال بهجت رزق...
وأن تكونَ نجمة الصبح الصغيرة قد أدّت رسالتها...
ويطيب لي، قبل الدخول الى جوهر الموضوع، أن أقول:
"لقد أتيحت لي الفرصة مرتين، غانمًا الوفير من رزق العائلة التي لا تخذل كنيتَها في أي ظرف، ومهما غلَت العطاءات:
الأولى، في سنة 2012، حين ساهمتُ في مدرسة راهبات الدليفراند في عاريا، مع زملاء وطلاّب، بإعداد ندوة تكريميّة عن الشاعر والأديب أمين رزق...
والثانية، اليوم، حيث أشارك في الحديث عن المفكّر والباحث بهجت رزق...
جميلٌ هذا المشوار، في رحاب عائلة جوّادة من أمينها الى بهجتها، ومن مطرانها كوكب البيت والقاطع[2]، الى نخبتها السياسيّة الأستاذ إدمون... وأكثر وأكثر..."
يا نِعم عائلةٍ، فَدَتـها الأحرُفُ، تفني السنينَ بيادرًا ومواسمَا!
شمخت، كأنَّ الغيمَ قَزْمٌ، حَدَّها، كَمّ من غيومٍ لا تطالُ القِمَمَا؟...
وأغتنمها مناسبةً لأسجّلَ بادرة وفاءٍ، باسم المجلس الثقافي لمنطقة جزين.
نعم، يكفينا جَزاءً، أن يقول بهجت رزق في صدور كتاب "أعلام الثقافة في منطقة جزين "أنّه لحَدَث ثقافيّ بكل ما للكلمة من معنى، سياقًا وشمولاً وغنىً..." لقد أثنى على جهود وإشراف د. الياس القطار وفريق العمل، في خلال مقال[3] نشر في 15 أيلول 2018 على موقع libanews... في هذه الدراسة الموجزة، ما يكفل نجاح الكتاب والمباركة له.
من هو بهجت رزق؟
هو من أعطاه الربّ وزناتٍ عديدة، ثمّرها، وكسَب... لتصبحَ وزناتٍ تملأ مكتبات العالم وتشغَل منابر الكلام الـمُحاضِر.
في خاتمة كتابه، "الهُويّة اللبنانيّة المتعدّدة الثقافة"، يذكر الشاب بهجت، أنه ابن البيت والبلدة والوطن[4]... كلٌّ، في أوانه وإيوانه، وجهٌ لمفهوم لقاء الثقافات، مصدرًا ودورًا.
إنّه ابن إدمون رزق، المعلِّم والقدوة، الواسع المعرفة، والجوّاد المتقِن لصنعة السياسة الحكيمة... ناصُّ الطائف وموثِق الوثيقة الدستورية... يطول الحديث يا أستاذ... ونبقى في قُصور، والدته السيدة رينه المثقفة، المتخصصة في التربية والفلسفة وعلم النفس.
نعم، فبين مارونيّة الوالد وأثوذوكسيّة الوالدة، مزجٌ مميّز كالخمر والماء، فيه التواضع الماروني وزخرفة الجماليّة البيزنطيّة، فيه عِناد أبناء الجبل والثقافة المسكونيّة، وفيه صمت ناسكٍ متصومِع وطلاقة يوحنا الدّمشقي.
وهو أيضًا بين عائلتَيْ رزق وناصيف، توارثَ القيَمَ والقلم. فلقب البك (البيك) لم يؤلْ إلاّ الى خدمة الناس، (وهذه ظاهرة كريمة لبكوات جزين) والقلم المذهَّب لم يدمع إلاّ لخيرهم.
وبهجت رزق هو تلميذ الأب سليم عبو[5]، هذا الرجل الاستثناء في تاريخ الفلسفة اللبنانية، غرف من مَداه عظيم المعرفة، وأخذ عنه تلك الطاقة الفكرية، والكاريزما العلمية والروحانية المتواضعة، حتى وجدناه في مقدّمة كتابه Les paramètres d’Hérodote، متبنّياً لطروحاته على المستوى العالمي.
بهجت رزق، يختصر أزمانًا ومواقعَ، وحضارات... ليبتدعَ منها رؤيةً إنسانية سامية.
إنّه رجل العامّية الجديدة، التي تعزّز الصيغة اللبنانية بالمفهوم العلمي والنظرة الحضارية. ونحن في إنطلياس اليوم، نعرف جيّدًا عَظمة هذه الصيغة-القسَم...
وعلى مسرح الأخوين رحباني، نردّد مع عاصي ومنصور: "ليش مَرّات منحِسّ إنّو الظلم اللّي وقع على أيّ واحد بالأرض ،كإنو وقع علينا؟..."
في ضمير بهجت رزق، لـمْحاتٌ من الأناشيد الطوبايّة الهندوسيّة - مُلهِمة غاندي، ومقاطعُ من موعظة الجبل للسيّد المسيح، وطوبى لفاعلي السلام. كما في قلبه حماس Las Casasالذي ساهم بتحرير الانسان في أميركا اللاتينية دفاعًا عن الكرامة الإنسانية.
إنّه نَدّ هيرودوت اليوناني... وسوف نتوسّع بهذه الفكرة في ما بعد.
دراساته:
من "الشانفيل" الى "الجمهور" الى ليسه جان-باتيست ساي في باريس، ثم الى كلّية الحقوق في الجامعة اليسوعية حيث تخرّج بدرجة جيد، ليتابع تخصّصه في القانون الدولي والشرع الاسلامي في جامعة لندن London University، حائزاً درجة L.L.M.عاد بعدها الى بيروت ليحوز شهادَتَي دراسات عليا Maitrisesفي العلوم السياسية وفي الفلسفة من الجامعة اليسوعية، ثم يضيف اليها شهادة دراسات عليا رابعة في الأدب المقارن Littératurecomparéeمن جامعة السوربون في باريس.
خلال تلك المرحلة، كما قبلها وبعدها، تولّى بهجت رزق تدريس مواد القانون وتاريخ العالم المعاصر، باللغة الانكليزية، في ثلاث جامعات لبنانية هي: الجامعة الأميركية A.U.B.وجامعة السيدة في اللويزة N.D.U.وجامعة هايكازيان Haykazianالى جانب تعليم الفلسفة في مدرسة أتينيه بيروتAthénéede Beyrouth متابعاً نشاطه في النادي الفلسفيClub philosophiqueالى جانب الأب البروفسور سليم عبو والبروفسور جاد حاتم.
مؤلّفاته: L’identité en fuite,
Passions,
Mères intérieures,
L'Identité pluriculturelle libanaise,
Monologues intérieurs
التعددية اللبنانية في الهُويّة والنظام،
وLes paramètres d’Hérodote ou les identités culturelles collectives
وفي ما يلي يتركّز البحث حول مؤلّفاته التي تتناول المشروعَ الإنساني إنطلاقًا من التجربة اللبنانيّة.
صدام الحضارات
في بداية التسعينات، الى جانب كونه محامياً في الاستئناف، تولّى بهجت رزق الشؤون الثقافية في بعثة لبنان الدائمة لدى الاونيسكو – باريس، بالتعاقد مع وزارة الخارجية اللبنانية،وفي هذه الفترة، شهِد العالم ولادة عِدّة نظريّات سياسيّة، قرأَت الواقعَ المستجِدّ، واستقرأت المستقبل... وأشهرها:
1- فرانسيس فوكوياما[6] نظرية عنوانها: "نهاية التاريخ والإنسان الأخير".
2- صامويل هنتِنغتون[7]وكتابه: "صدام الحضارات، وإعادة تشكيل النظام العالمي[8]"،
وفيه يقول: بما أنّ الخصائص الثقافيّة لا يمكن تغييرها كالانتماءات الأيديولوجية، فسوف نشهد سريعًا، على نمو الهويّات الإثنيّة والثقافيّة للحضارات، والتي بدورها سوف تتغلّبُ على الاختلافات الأيديولوجية.
ولكي (تظبط التبصيره) فقد بدا هنتِنغتون، عَقِب هجمات 11 أيلول2011 كما لو كان نبيًّا... لقد أصابت توقّعاته مكمَن القلق عند الغرب... وكان ما كان.
وفي اعتراف الكثيرين، هناك ما يستحق التقدير في أطروحته، ولكنْ، في الوقت ذاته، فيها الكثير من المشاكل...
في المقابل، لمع اسم إدوار سعيد[9]، المفكّر العربي، من بين الكثيرين الّذين انتقدوا أطروحة صراع الحضارات، بحيث رأى "أن توقيتَها يُخفي وراءه العديد من الخفايا والأسرار"!...
ويخلص إدوارد سعيد في تحليله الى القول أن: «أطروحة صدام الحضارات خدعة مثل حرب العوالم، تعزّز الكبرياء الدفاعي الذاتي، أكثر من الفهم النقدي للترابط الغامض لعصرنا».
ولعقلنة النقاش، سمعنا صوتين من لبنان: أحدهما للمفكر والباحث د.غسان سلامة[10]، والثاني للمفكّر والباحث د. بهجت رزق، وكان رزق الوحيد الذي تميّز بوضع أسس نظرية متكاملة، مُسْنَدة الى بحوث دقيقة وعمل دؤوب، ونظرية مواجهة "صراع الحضارات" بـ"حوار الثقافات". وقد توسّع في الموضوع وتعمّق حتى بات رائداً عالمياً في هذا المضمار، وتُعتبر مداخلاته وتحليلاته، مؤلفاته ومحاضراته، مرجعاً أساسياً لموضوع "الهُويّات المركّبة".
الثقافة: مفهومٌ وحلّ
تقوم نظرية بهجت رزق على معادلة التفاهم بين المتعدّدين والتسوية بين المختلفين، فيحدّد هذه المعادلة في حديث له:
"بدل أن يؤدّي الانتماء الثقافي إلى صراع حضاري وثقافي، يجب أن يؤدّي إلى منافسة حضارية وبنّاءة تقوم على احترام الآخر في إطار احترام القواعد"[11].
في مقالته[12] Le culturel et le politique، يركّز بهجت رزق على دور الثقافة في حياة الشعوب. هي التي تؤسّس للسياسة، وفي المقابل السياسة تجسّد الثقافة.
هي التي تبني هُويّة الشعوب من جوانبَ متعدّدة.
هي التي تطال الأقرب الى قلوبنا ومشاعرنا، في فكرنا الواعي واللّاواعي، الفردي كما الجَماعي...
لا تُختصَر الثقافة بالقليل من الاجتماعيّات والظرفيّات بل تعكس صورة المجتمع الحيّة، من خلال الأنماط الحياتيّة، العلاقات، التواصل، الحرّيات... وغيرِها.
بهجت رزق هو الذي يفرح بغَلبة الثقافة على السياسة، ومدينة أفلاطون الفاضلة على ثورة ماكيافيلي كما جاء في كلمته في غياب سمير فرنجية[13].
ويفرح لكل لِبنَة انفتاحٍ في مداميك العلاقات بين الشعوب والدول والمدن... فهو ابن جزين ولادةً، وابن كومبيانيو Compiègneاختيارًا وميلاً[14]. وحين يتحدّث عن بيته، تراه يشارك الحجر المقصوب في عمارةٍ تاريخيّة اختصر فيها ذاكرة العائلة، والذِّكرَ الجميل[15].
في مقال "الحجاب"[16]... ، يتساءل بهجت رزق: "إن كان مجتمعٌ يفتّش عن وحدته، التي باتت مستحيلة في زمن العولمة... فهل من الممكن أن نجمع هذه التجارب التاريخية في إطار ثقافي واسع؟... أم أنّ صراع الحضارات هو القدر المحتوم لعالم مهدّد بالتدمير الذاتي؟ بالطبع، جوابك هو ما ورد في إحدى تحليلاته: "يجب أن يستمرّ لبنان في أداء دور الوسيط والمحاور بين الأمم والشعوب على سطح كوكبنا الواحد والوحيد".
والجواب من البيت أيضًا، كما يقول الاستاذ إدمون[17]، من منطلق أن "لا عوالم مغلقة في الإنسانيّة، بل عالم واحد للجميع،وبما أن جميع الحضارات قد عرفت في تاريخها، أشكالاً من الحوار والتفاهم والقبول، فمن الطبيعي أن تسعى النّخب السياسيّة والاجتماعيّة الى إرساء قواعد، تضبط العلاقات، وتحفظ الاتّزان، تطبيقًا لا يُبطِل المودّة في القيم الروحيّة".
بهجت رزق يتسلّح، بمقولة البابا، وتقرير الأونيسكو سنة 2000، ورغبة الرئيس الإيراني المصلِح محمد خاتمي... ليقول: التعدّدية الثقافيّة تُكسِب لبنان حصانةً دوليّة ومكانةً يمكن تثميرها[18]. فلا عودة الى الوراء، ولا تخاذل في مهمّة رسوليّة.
الثقافة، والنموذج اللبناني
فيما يبيّن التقرير العالمي لمنظمة الأونيسكو عن الثقافة، الصادر في العام 2000، تحت عنوان "التنوّع الثقافي، صراع وتعدديّة"، أن معظم الصراعات التي تحدث في أيّامنا هذه، لها جانب، أو عامل، (وربما أكثر) ثقافي... يرى بهجت رزق أن العامل الثقافي أصبح مع العولمة، (وأكثر من أي يوم مضى)، عاملاً سياسيًّا، لا بل تخطّاه وأسّس له. وهذا التعارض بين الثقافيّ والسياسيّ قد أدّى سريعًا الى نشوء أيديولوجيّةٍ جديدة لمفهوم الثقافة واستغلالها في السياسة (ورد الاستشهاد بكلامه هذا، في التقرير العالمي للأونيسكو سنة 2009).
وأمام بحر من الأسئلة التي تتناول إدارةَ الهجرات الجديدة، وغير الشرعية بمعظمها، نقلَ المعلومات والسلع وإلغاءَ الحدود، ومدى تأثير التيّارات الغريبة وقدرتها على اختراق النمط الحياتي، والنظرة الخاصة للمفاهيم... لا بدّ من مواجهةِ الانجرافات والانحرافات المجتمعية، والانبعاثات الأصولية، لكي تنجحَ التعدّديةُ والعيش المشترك...
ويعود بهجت رزق دائما للتجربة اللبنانية، حيث الجغرافيا الوحيدة والخاصة لهذا البلد، قد أسّست مساحة مؤاتية لتلاقي الحضارات. هي التي سمحت للفينيقيّين باستنباط الأبجدية الصوتيّة، وهي الأولى من حيث التواصل في التاريخ... وأن يصبحوا وسطاء ثقافيّين وتجاريّين بين دول المتوسط وشعوبها. وحديثًا، لقد سنحت التجربة الفريدة لثماني عشرة طائفة ومذهب، أن تجِدَ صيغة، عن حَقّ، قابلة للحياة، في مجتمع تعدّدي.
كم يسهل علينا تقييم كتاب الهُويّة اللبنانية المتعددة الثقافة، حين يعتزُّ الوالد الـمُترجِم من الفرنسية الى العربية بقوله "إنّ سعادتي بترجمة كتابِك تفوق سعادتي بمجموع كتبي".
بعد قراءة أولى وثانية... وربما عاشرة، أسمح لنفسي بالقول:
إنّه (الكتاب) فصل من فصول الرؤية السياسيّة للبنان، وتتعدّاه ليصبح نموذجَ اقتداء.
إنه من غربة المعاناة الى معاناة الغربة... إنه بحث في التاريخ، لاستنباط حقيقة مقنِعة.
إنه كفالة لوطن، حيث النسيج المتنوّع والملوّن هو عامل إثراء للهُويّة الوطنية.
لقد أراد المؤلِف أن يجعلَ من لبنان، في القِمّة الفرنكوفونيّة، قيمةً تعالج الصراع والتعدّدية من خلال تصوّرٍ - على غرار التعدّدية الثقافية اللبنانية - يحمي ويبني...
كم هو رائع قوله: "إذا كنّا نتفاوض بشراسة، حول تسوية سياسيّة، فعلينا مناقشة هذه التسوية وتسويغُها بقبول اختلافاتنا الثقافيّة... لنقومَ بحوارٍ على مستوى القِيم الثقافيّة، بدلاً من المساومة على تحقيق مكاسب في السلطة السياسيّة[19].
وبفكرٍ علميّ أكاديمي يدرِج مراحلَ العمل في سياقها الصحيح[20]. أليس هذا بيان وزاري يُعتمد؟
مقتنعٌ بهجت رزق بأنّ قَدَر لبنان هو الحوار، وأن ما يوضع في إناء الثقافة سوف يطيب، على عكس إناء السياسة.
هو واثقٌ، ولو قيل: "أن نفيَين لا يصنعان أمّة"، بأنّ باستطاعة ثماني عشرة طائفة، أن تشكّل وَحدةً.
لا للقهر، لا للإلغاء، ولا للتقلّبات السياسيّة الهمايونيّة... فلبلوغ قمّة التلاقي لكل المظاهر الاجتماعية، علينا المضيّ حتى النهاية، والاعتراف بهويتنا الجَذرية، ودمجُها في التربية، تاريخًا وجغرافيا. شرط أن لا نهمِل أو نسقِط أيّ مرحلة منه، كما لفت رزق الى غياب المرحلة العثمانية بأكملها عن المتحف الوطني[21]،...
أيّها اللبنانيّون: اكتبوا تاريخكم كاملاً، ليكون لكم القدرة على طرح تجربتكم التاريخيّة على العالم... من يجرؤ على ذلك؟...
وكم يصبح بهجت رزق رسولَ الإنسانيّة الحَقّة، ومُشبعًا بعناصر الفكر المسيحيّ، الجبليّ، اللبنانيّ، حين يقول: أنا في قرارة نفسي أستميت بدفاعي عن ثقافتي... ولكنْ، عليّي أن أستميتَ بالتوجّه نحو ثقافة الآخر.
لقد أصدر بهجت رزق، "إخراجَ قيد عالمي"، صُنعَ في لبنان، نموذجًا لائقًا بالعولمة.
ألَــم نسمع من قبل بنبيّ (جبران)[22] ؟
و"عبدالله (أنطون غطّاس كرم) "[23] ؟
ومردادِ (نعيمه)[24] ؟
اليوم، بهجت رزق، هو المصطفى وعبدالله ومرداد معًا... جمعَهم في معادلة ذكيَّة، صادقة، وعملانية. تجربته في الأونيسكو لحوالي ثلاثين عامًا، وأبحاثه في السياسة والعلوم الإنسانية كافة، قد ساهمت في تكوين الرأي، والنظريّة والرشد.
هو القارئ في سيرورة العالم، وتحوّل أنظمته... هو الخائف على القيم، من مِـحدلة التكنولوجيا، وعلى الروابط الإنسانيّة من تشدّد المصالِح.
هو الـمُعتبِر من كلِّ حدث، والفَخور بكلِّ سطرٍ كُتب في السجلِّ الذهبيّ، والمرتدِع من هفَواتٍ كانت قاتلة في بعض الأحيان... فمن أرض كنعان الى الإمام موسى الصّدر، ومن لغة الضّاد الى لغة الرسوليّين... يسعى لأن يرمّمَ الصورة لأنّه عارف بقدسيّتها.
لبنان في عين العاصفة، "العولمة"، وعينه على لبنان
في سياق المشاكل العديدة التي تُلقي بثقلها على البشرية جمعاء، نستخلص أن لا أحد مرتاح... لا الغني ولا الفقير، لا الزراعي ولا الصناعي، لا الريفيّ ولا الـمُدني... وما من حلٍّ سحري تسهل وصفتُه وتضمن نتائجه...
وهذا بالفعل ما شغل بهجت رزق، منذ أكثر من عشرين عامًا درسًا وتمحيصًا، بغية الوصول الى هيكيليّة مستقلّة تصلح لحوارات ناجعة. وللتوظيف الصحيح وجَب التوصيف الصحيح: أين؟ كيف؟ لماذا؟...
الى أن جاءت القِمّة الفرنكوفونيّة في بيروت، كلحظة مناسبةٍ، ليُطلقَ التجربة اللبنانيّة كمختبرٍ ناجح لحوار الثقافات.
فلبنان بنظر بهجت رزق، كامل الأوصاف، وامتحانات السنوات الطوال قد أضافت الى سجلّه شهادة تفوّق، علينا أن نقتنع بهذا اللبنان كما أقتنع هو به، أو على الأقل فلنسمع له... لنقتنِع.
لبنانه بالأمس، أطلق الأبجدية الصوتيّة مع قدموس، فكتب بها الكثيرون وعبّروا ، ولبنانه اليوم قادر على إطلاق أبجديّة التواصل الثقافي، لينطِق بها الكثيرون ويعملوا.
لبنانه بالأمس، أرسى التجارة الدولية، وفينيقيّوه السّمر لعبوا دور الوسيط الثقافي التجاري. ألم يعتمد الفرس اللغة الكنعانية في مختلف المعاملات الإدارية لأمبراطوريّتهم؟
لبنانه بالأمس، بنى مدن الساحل المتوسطي، وأعلاها أبراجًا وجسورًا وهياكلا... ولبنانه اليوم قادر أن يكون مشاركًا أصيلاً في أرقى دور المعرفة في العالم.
فمن هذه القناعات وغيرها، رصد بهجت رزق سنين الشباب الفيّاض، في تعميق أبحاثه، وكلما شعر بحاجة الى تفوّق ما، أردف عِلمًا جديدًا وبحثًا فريدًا. من الماضي أم من الحاضر، من الشرق أم من الغرب... لقد عاش رسولًا تائهًا، كالضوء، ليهدي من هم في الظلمة، إلى أن وقع نظرُه على هيرودوت.
هيرودوت والثوابت الأربع
هيرودوت، هذا اليوناني العالِم[25]، الذي اضطر الى ترك بلدته يافعًا، لسبب سياسيّ، لحربٍ بين اليونان والفرس، فأرّخ الأحداث عِلمًا، لأوّل مرّة في التاريخ. ومن خلال الموضوعيّة والمنهجيّة المبتكرتين، استحقّ جملة ألقاب: أبو التاريخ والجغرافيا، والإتنولوجيا، والإعلام وغيرها. كما أنّه هذا الفيلسوف المنسيّ، الذي لم يبخل علينا بدواحض مقنعة في كل ما كتب.
ألم يخطر ببالِكم، وأنا أسردُ بعض جوانب هيرودوت، أن المقصود هو بهجت رزق؟
فهو أيضًا، ترك لبنان في مقتبل العمر، هربًا من نار الحرب، وأكمل دراسته في فرنسا... ثم عاد ودرس هنا، ودرّس في الجامعات ليعود ويستقر في محيط الثقافة الأول في العالمKالأونيسكو في باريس، حاصِدًا شهاداتٍ عديدة ومتنوعة في الفلسفة، والدّين، والحقوق والعلوم السياسية، والأدب المقارن، وغيرها... لذلك نحن أمام قيمة فكرية تجمع المحامي، والمشرّع، والمحاضِر والباحِث والمعلّم...
إثر الحرب بين اليونان والفرس، ماذا يقول هيرودوت؟
..." بالرغم من المنافسة بين سبارطة وأثينا، إلاّ أن روابط اللغة، والدمّ، والمعتقد الديني، والعادات والتقاليد الاجتماعية هي هي. إنّها الهُويّة الثقافية من خلال الثوابت الأربع.
وبعد 2500 سنة، نجد في شرعة الأونيسكو وجوب احترام حقوق الإنسان دون تمييز باللغة، بالعرق، بالدين أو بالجنس. وهذا ما ورد تحت عنوان "الاستثمار في التنوّع الثقافي، والحوار العابر للثقافات"، حيث يتبنّى تقرير الأونيسكو الثوابت الأربع التي أطلقها بهجت رزق في 2009[26].
بين ثوابت هيرودوت وشرعة الأونيسكو تماثلٌ وتعارض. فمع الأولى نحن أمام هُويّة يونانيّة مجزّأة، ضمن جسم واحد، أو اضطر لوحدتِه. أما مع الثانية، فنحن في سعي الى تحقيق الهُويّة الانسانية من خلال الانسان قبل الجماعة، لكي تكتملَ العناصر الصالحة في الشخصيّة المنفردة وتثبِتَ وجودها وتطمئنّ إليه، حتى في مرحلة لاحقة، نتحرّر مع بلوغ الهُويّة الانسانية.
إذا ما نظرنا الى الصراعات القائمة من إفغانستان الى الشرق الأوسط، وأفريقيا ... وأخيرًا فنزويلا، نستنتج أن أحد هذه الثوابت وربما أكثر، هو في أساس خلافاتها. الحق مش على الثوابت، إنما على من يتولّى إدارة الشأن العام في هذه الدّول.
في الخمسين سنة الأخيرة، عبَرت الخلافات من الدينية الى العقائديّة، ومنها الى السياسيّة، وهكذا دواليك... وقد توصّلت شعوب عديدة الى توافق ما، حافظ على التنوّع، ووحّد الأهداف كما في الولايات المتحدة، كندا،... وغيرها. بالمقابل، نرى شعوبًا، قد وقف التاريخ فيها عند صِدام ما، ليحصُدَ مع كل هبّة اشتعال، ضحايا وخرابًا وتشرذمًا.
يقول بهجت رزق: إن البُعد السياسيّ والثقافي لديانةٍ ما لا يستوعب التجربة. فهو منزّل قبولاً واحتراما، وبمجرد المساس بإحد رموزه، نحرّك المارد النائم في لاوعي الأمّة وانفعالاتها. وتكون ردّة الفعل، إمّا الخنوع وإمّا الانتفاضة. وفي قراءاته للصراع العربي الاسرائيلي، يرى دلالةً ثقافيّة بحتة، والمرتجى أن نحمي هذه المساحات الثقافية لإرساء حوار بنّاء[27].
أما في ما خصّ العادات والتقاليد، فله فيها تحليل وليس انتقادًا. يعتبرها جزءًا من الهُويّة الاجتماعية، موروثاتها تصل الى حدّ التأليه، ويحتاج التغيير الراديكالي فيها الى شبه الثورة الفرنسية، 1789 أو ربيع 1968 في فرنسا. هل يُقنع الغربُ شرقَنا بمثال المرأة؟ وهل يُقنع شرقُنا الغربَ بمثال العائلة... حتى الآن لا جواب[28]!...
نصل الى اللغة، الثابتة الثالثة، وفي توصيفه لها، يعطيها هالة الليتورجيا والتنزيل، لذلك تصبح مع الوقت وسيلة الفرح والحزن والتصاقنا بالأم، تارة إتنية لغوية، وتارة أخرى لغة مقدّسة. وفي الحالتين، نلهج بها ونعشقُها[29]....
وفي الثابتة الرابعة العِرق، يطرح تساؤلاً مهضومًا: كم يصعب علينا أن نطلب من ذوات البشرة السمراء أن يتعبّدوا لمسيح وعذراء شقراوين، لهما عيون زرقاء[30]!...
يرى بهجت رزق، في عصر العولمة، أننا كلبنانيّين، بحاجة الى التحرّر من مادّية جانحة، لنستعيدَ تجربة الستينات حيث بات اللبناني وسيطًا فاضلاً كما أسلافه الفينيقيّين، بفلسفة لبنانيّة، ورسالة لبنان الرسولية كما يسمّيها كمال يوسف الحاج[31]،
في عصر العولمة، بإمكاننا أن نكون مركز أبحاث فكريّ وإنسانيّ، وثقافيّ... وما أبشع تجربة الحرب الأخيرة التي أفقدتنا وأنهكتنا وما زلنا في حوار طرشان حتى الساعة.
في قراءته التحليليّة لمعايير التطوّر في الشرق كما في الغرب، يتلمّس بهجت رزق فوارق عاموديّة، هي نتيجة التكيّف (أم عدمِه) مع المعطيات الحالية والتحاور في إطار واقعي متّزن... والحواجز النفسيّة التي تنشأ هنا وهناك، بإمكانها أن تؤدّي سريعًا الى جولات عنف ورفض وإلغاء... وأحيانًا الى الغريزة. فالشرق والغرب، والآخرون مدعوون لتبنّي قِيمٍ مشتركة ضمانةً للاستمرارية وحِفاظًا على الخصائص الثقافية.
الانترنيت توحّدنا، فتح الحدود وسهولة الإتصال والتواصل تختصر الدروب...، ولكنْ، كل هذا، ليس إلاّ سيفًا ذا حدّين...
نعود الى الثوابت، وهي لبناء هويّة جماعيّة من خلال الدين، اللغة، العرق، والعادات... والانتماء الى هذه الهُويّة قد تصبح هدّامة للأقليّات والأفراد، والأمثلة كثيرة: طغيان، استعباد، تطهير عِرقي...
يشدّد بهجت رزق على جعل التنوّع كمصدر غِنى للشعوب، وأن تكون العناصر جامعة.
ما من ثبات في تحديد الهُويّة، لأنّ الحياة والحريّة في ديناميّة دائمة، بينما الثوابت لا تتغيّر...
التعدّدية بحد ذاتها هي صفة لا سلببيّة ولا إيجابيّة، هي حقيقة عالميّة، ومع العولمة، يجب علينا الإفادة منها، هي انفتاح وليس انطواء، أو خوف...
مع مساعي الأونيسكو، وهي صاحبة الدور الطليعي في إطلاق ورش الحوار[32]، نشعر وكأنّ ارتقاء الانسان قد بلغ مستوىً مثاليّا، وحين نقارب النِّقاش بروح سامية، نسمع النزاعات تقرع أبواب المتحاورين... يا للمفارقة!...
"أن نعيش معًا، هو أن نتقاسم كلّ شيء، ويكون هذا الكُّل قاعدةً مشتركة لصيغة حُرّة، ولمشروع سياسيّ يجسّدها على أرض الواقع".
لقد برز في الآونة الأخيرة، مفكّرون وباحثون في العديد من مطارح الأرض، همّهم الأساس مصير الشعوب والعدالة في ظل استعمار جديد، غير منظور كثاني أوكسيد الكربون، ومن بينهم نوام تشومسكي[33] الذي يعرّفنا على الكواليس في الحكومة الأميركية، حيث توجد مكائد حقيقية تتّجه نحو تأسيس الإمبريالية الأميركية، في جميع أنحاء العالم ، التي لا تتردّد في سحق أي رغبة شعبية في تشكيل حركات العمال، على أساس التضامن وابتداع الإستراتيجيات للتحكم بالشعوب. لكن حكومة الولايات المتحدة لا يمكنها مواصلة هذه السياسة إلا من خلال خِداع شعبها...
كما أن معضلة إريك فروم في كتابه "الملكية والكيان"[34]، Avoir ou êtreفإن الاختيار الذي ستجنيه البشرية بين هذين الاتجاهين من الوجود يعتمد على بقائها. لأن عالمنا محكوم بشغف الملكية، ويركّز على المكاسب ، والقوة المادية، والعدوانية، في حين أن سبيل خلاصه هو الحب، والتكامل الروحي، وفرح الاشتراكية الحقيقيّة من خلال أعمالٍ مجدية ومثمرة. إذا لم تدرك الانسانية مدى جِدية هذا الاختيار، فسوف تواجه كارثة نفسيّة وبيئيّة لم يسبق لها مثيل...
من خلال التجربة اللبنانيّة كجغرافيّة لبنان وتاريخه، وبحسب المعادلة الرياضيّة الحسابيّة التي تقول: "لكل جسم هندسيّ، نقطة مركزيّة، تلتقي عندها القوى بمجموع صفر[35]، تسمّى في الفيزياء مركز الثقل"، هكذا يرى بهجت رزق لبنان بكل مكوّناته بالرغم من صعوبة الخلط بين المثيل والمختلف، بين الانتماء الطائفي والانتماء الوطني، وأن يُظهروا للعالم أنه متعدّد الثقافات (وليس الطوائف) كتهيئةٍ صالحةٍ لقمّة حوار الثقافات[36].
العلمنة ليست بجديدة على طاولة البحث السياسيّ في لبنان. فقد دعا إلى اعتمادها أنطون سعاده، لمشروع متوازن اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا... وأفقٍ أوسع على الساحة الاقليميّة والدوليّة... كما أن الرئيس فؤاد شها، قد سعى الى خلق نظام اجتماعي-علماني، يعتمد على المؤسسات والكفاءات وتوازن الفرص... أبعد من ذلك، يؤمن بهجت رزق بلبنان – الرسالة، وبالطاقة الحضاريّة الكامنة في شعبه، ومن خلال الهُويّة المتعدّدة الثقافة أن نصوغ نموذجًا مميّزا للسلام في زمن العولمة[37]. نعم، لبناننا هذا هو خِيارُنا المولود، الطبيعي المستمرّ، ورهانُ العُمر، هو لبنان اللبناني[38].
إنّ التجربة اللبنانية كفيلة لثقافةِ "العيش معًا"، الى أن تتجسّد في "دولة العيش معًا"[39]... وصولاً الى عروبة وعالميّة العيش معًا.
كم يرنّ في أذنيَ اليوم، صوت غسان تويني يقول: "دعوا وطني يعيش..." وبهجت رزق يعرف كيف يعيش هذا اللبنان، وكيف تعيش أممٌ كثيرة، تقليدًا لاجتهاده.
من لا ذاكرة له، لا غدَ ينتظرُه، فالشعوب بحاجة الى أن تعيَ حقيقة ماضيها، لكي تطلّ على المستقبل[40].وبحسب اللاهوتي الفيلسوف المطران جورج خضر:
"نحن نحتاج إلى فلسفة جديدة لوجودنا كوطن ودولة، وهذا يتضمن تجاوز الطائفية، سياسية كانت أم فكرية[41].
الخاتمة
يقول إدمون رزق[42]: لبنانُ شارل قرم جبلٌ مُلْهَم. لبنان ميشال شيحا دولةٌ حضارية. كلاهما قيمةٌ قائمة.وأنا أضيف لبنان بهجت رزق التعدديّة الثقافيّة والدّور الرّياديّ،... والثالثة ثابتة!..
إن فكرَه هو تتويج لمسار التجربة اللبنانية التاريخي، وهو جدير أن يُدرَس ويدَرَّس بإمعان ويدخلَ في مناهج التعليم، لأنه ينقل لبنان من مربَّع الصراع الطائفي الى آفاق التكامل الثقافي والمستوى العالمي.
وحين نستعيد ذهنيّة اللبناني "المنفتحة الآفاق"، كما وصّفها شارل مالك[43]، كم تشدّنا المسؤوليّة لأن نحمل الرّسالة لوطن-رسالة، ونبني أنّى نشأْ لبنانا[44].
في النهاية، عندما سئل رشيد نخله، كيف تستطيع وضع نشيد وطني للبنان المقسّم بين طوائف، وفئات وتحزّبات؟ كان جوابه بسيطًا وكافيًا: نقول كلّنا للوطن... نعم، هذه ال"كلّنا" لا تلغي أحدًا، ولا تنتقص من دور أحد، تجمعنا البوصلة وهي الوطن لإعلاء شأنه...
هنيئًا لمن يسمو بفكره الى هذا المستوى، دون الإدّعاء بأنّه يتفوّق بمعرفته!...
إنّ عظمة بهجت رزق، هي في تواضعه، وليونة مقترحاته، بحيث يشعر فيها جانبا الحوار أنهما قد وجدا بنية تضامنيّة، كلٌّ له فيها دورٌ ومساحةٌ وأفق.
وأختم مع جبران خليل جبران، إذا أردتم أن تكرّموا العظماء، خذوا منهم...
بهجت رزق: نِعمَ العطاء، جزين تعتزّ بك، ويفخر لبنان.
وشكرًا
جوزيف الحاج - انطلياس في 7 آذار 2019
المحتويات
الثقافة، والنموذج اللبناني. 13
لبنان في عين العاصفة، "العولمة". 17
[1] دراسات وأبحاث، المؤتمر الثاني للفكر العربي، "إستشراف المستقبل العربي"، بيروت 2003، صفحة 57.
[2] المطران يوسف رزق.
[3]Les porteurs de la culture dans la région de Jezzine. www.libanews.com, 15/ 9/ 2018.
[4]الهُويّة الاللبنانية المتعددة الثقافة، من أجل حوار ثقافات حقيقي 2002، صفحة 73.
[5]libanews.com, Le père Salim Abou : paternité spirituelle et engagement patriotique, 27/9/2018
[6]في العام 1993، طرح فرانسيس فوكوياما نظرية عنوانها: "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، توصّل فيها الى أن الديمقراطية الليبرالية سوف تكون الشكل الغالب على الأنظمة حول العالم.
[7] صامويل هنتنغتون: عالم سياسيّ أميركيّ، بروفسور في جامعة هارفارد لـ 58 عاماً، ومفكر محافظ. عَمل في عدة مجالات فرعية منبثقة من العلوم السياسية والأعمال... تصفه جامعة هارفارد بمعلم جيل من العلماء في مجالات متباينة على نطاق واسع، وأحد أكثر علماء السياسة تأثيراً في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو الذي رأى من جانبه أن نظرة فوكوياما قاصرة، وأكّد بأن صراعاتِ ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القوميةوإختلافاتها السياسية والإقتصادية، بل ستكون الاختلافاتُ الثقافية هي المحرِّك الرئيس للنزاعات بين البشر في السنين القادمة. توسّعَ هنتِنغتون في مقالته، وألَّف في ما بعد، كتاباً بعنوان "صراع الحضارات، وإعادة تشكيل النظام العالمي". وفيه يأخذ النزاع المقبل، شكلاً مختلفاً، ويكون بين حضارات محتملة ومتعدّدة. وقد صنّفها على النحو التالي: وهي :الحضارة الغربية، الحضارة اللاتينية، الحضارة اليابانية، الحضارة الصينية، الحضارة الهندية، الحضارة (الإسلامية (كل الدول ذات الأغلبية المسلمة، الحضارة الأرثوذكسية، الحضارة الأفريقية، الحضارة البوذية
[8] لقد شكّل كتاب صموئيل هنتنغتون عن صراع الحضارات، عاملا ايجابيا في تحفيز ابحاث بهجت رزق، الى كونه مصدر قلق على صعيد العلاقات الدولية، الأمر الذي حدا به، سنة 2009، الى ابتداع شبكة قراءة لحركة بناء الهويات الثقافية، من خلال التداخلات القائمة بين اربعة مكونات: الدين، العادات والطبائع الاجتماعية، اللغة والعرق. هكذا ادخل رزق تركيبة المجتمع اللبنانية في النقاش حول العولمة ( من خطاب مستشار التعاون والثقافة في السفارة الفرنسية هنري لوبروتون، لقد تقليد بهجت رزق "وسام الآداب والفنون" الفرنسي، 13/3/2014، بيروت).
[9]مُنظّر أدبي فلسطيني-أمريكي، يُعد أحد أهم المثقفين الفلسطينيين وحتى العرب في القرن العشرين سواءً من حيث عمق تأثيره أو من حيث تنوع نشاطاته. كان أستاذاً جامعياً للغة الإنكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك ومن الشخصيات المؤسسة لدراسات مرحلة الاستعمار.
[10] وفي معرضٍ آخر، يقول د. غسان سلامه (وزير الثقافة اللبناني) في مؤتمر الجامعة العربية: لا ال(أنا) العربية مكتملة ككيان دولي فاعل، ولا الآخر الغربي مستقر في كيانه، وإن كانت صورة طرفَيْ المعادلة مشوّشة الى هذا الحدّ، فكيف تنجو العلاقة نفسُها من التشوّش؟... ثمّ يخلص في تحليله الى الاستنتاج التالي: "علينا أن نخرجَ بحزم من منطق الخلوة الثنائية بيننا وبين الغرب، والعالم مكوّن من حضارات عديدة... لنعمل مع الآخرين لتعزيز التنوّع الثقافي وبين الغرب، والعالم مكوّن من حضارات عديدة... لنعمل مع الآخرين لتعزيز التنوّع الثقافي وتعدّد مراكز القوى في عالم الغد.
وفي حديث آخر: "أنا اعتقد أن الحوار شكل من أشكال الصراع. لكن الصراع هو صراع مع الآخر بينما الحوار هو صراع مع الذات لجعلها تقبل أولاً بوجود الآخر، ثم لجعلها تقبل ثانية بشرعية اختلافه الديني واللغوي والحضاري والثقافي عنك، وثالثاً لتجعل الذات تقبل بأن الدخول في حوار هو الدخول في مغامرة غير محسوبة ( دراسات وأبحاث – المؤتمر الأول للفكر العربي، القاهرة 2002، صفحة 67.)
[11]مقتطف من برنامج "سهرات باريسية في راديو مونت كارلو الدولي"، 26/7/2014
[12]Le culturel et le politique, www.libanews.com, 16/1/2019
[13] La priorité de l’intellectuel sur le politique, l’Orient-le-jour, 14/04/2017
[14]libanews.com, Autour du récent jumelage de Jezzine et Compiègne. 12/1/2019
[15] libanews.com, La maison, 25/7/2018
[16]الحجابووحدة الممجتمع الفرنسي؟ الهم اللغوي الإتني في أميركا والديني في فرنسا، صفحة 67، (نشر في النهار في 6/1/2004).
[17] من خطاب الأستاذ إدمون رزق في عمان، الأردن، نشرته النهار، الجمعة 13 كانون الأول 2002.
[18] من مقال بعنوان الاعتراف العالمي والحلم اللبناني، النهار 19/7/2004.
[19] الهُويّة اللبنانية المتعددة الثقافة، حوار ثقافات أو حوار طرشان، صفحة 17، (نشر في النهار في 14/1/2001).
[20] وضع النقاش في إطار ثقافي، الاعتراف متبادل، التجذّر في لاوعيٍ جماعي، الرغبة الحقيقيّة في العيش معًا، المشاركة، لا للتوزيع والتسييج... وأخيرًا، فصل الثقافيّ عن السياسيّ.
[21] وتساءل "كيف يمكن أن نجعل من قصر بيت الدين مقرًّا للرئاسة الأولى، أو من ساحة دير القمر، إرثًا معنيًّا ويملأنا فخرًا، ومن جهة ثانية تتوقّف ذاكرة الوطن عند عتبة المماليك"، ويختم بالقول: إن قيام لبنان الحديث هو من ضمن تاريخ طويل، لا مجزوء ولا مسلوخ" من مقال التعدّدية اللبنانية في الهُويّة والنظام، المتحف الوطني وذاكرة الوطن، صفحة 39. (نشر في النهار في 4/1/2003).
[22] ... الذي تكلّم في كلِّ خوالج النفس ليخلق ثقافة عامة، أسّس لها المصطفى المؤمن بوحدة الوجود، وبأن الروح تتعطش للعودة إلى مصدرِها، وبأن الحُبَّ هو جوهر الحياة؟...من كتاب "النبي" لجبران خليل جبران 1923، 75 صفحة.
[23] الذي بمقدوره أن يساعد اللبنانيين المختلفين حول صورة الوطن، وأن يعثروا في ادبه، ونضارة فكره، على ما يجسّد روح لبنان وجوهره ومعناه، وأن يهتفَ كل منهم بلسان توأمِه عبدالله:"انا الشرق/ انا الغرب/ انا نقطة اللقاء والمنعطف، من "كتاب عبدالله" أنطون غطاس كرم، دار المكشوف 1969، 135 صفحة.
[24] الذي يركّز في حواره مع خصمه "شمادم"، وفي خطابه لكلِّ من يسمعه، على كلمة "الفهم" التي يعتبرها مفتاحيّة، في إدراك المرء سواء لما يحيط به، أو لما يدور في داخل نفسه؟؟؟ من كتاب "مرداد" لناسك الشخروب ميخائيل نعيمة 1952، 330 صفحة.
[25] (هيرودوت أو هيرودوتس(باليونانية: Ἡρόδοτος) ،باللاتينية: Herodotus) كان مؤرخا إغريقيا يونانيا ًآسيوياً عاش في القرن الخامس قبل الميلاد (حوالي 484 ق.م - 425 ق.م). اشتهر بالأوصاف التي كتبها لأماكن عدّة زارها حول العالم المعروف آنذاك ، وأناس قابلهم في رحلاته وكتبه العديدة.عرف هيرودوتس بفضل كتابه (تاريخ هيرودوتس) الذي يصف فيه أحوال البلاد والأشخاص التي لاقاها في ترحاله حول حوض البحر المتوسط. كما زار مختلف أنواع مسارح المعارك كما إن موضوع كتابه الأساسي هو الحروب بين الإغريق والفُرس أو الميديين، ولعله كان حاضراً شخصياً في بعض المعارك...قام بعدة رحلات استكشافية في حوض المتوسط...
[26]Rapport mondial de l’Unesco, 2010, page 38.
[27] Les paramètres d’Hérodote ou les identités culturelles collectives, édition l’Orient-le-jour, 2009, pages 26-27
[28]Même référence, page 49
[29] Même référence, page 61
[30] Même référence, page 67
[31] "... متقوّية بخبرتها الحيّة والمتراكمة عبر العصور. هذه الفلسفة هي عصب الحياة ومصل البقاء للبنانٍ واثق، مشرق، رائد، رافد ومُرتفِد، في محيطه العربيّ وفي الفضاء العالميّ..." من كتاب فلسفة اللغة للدكتور كمال يوسف الحاج.
[32] وقد سجّل التاريخ مؤتمرين رائدين، الأول مع Lévi Straussالملقّب بأبي الأنتروبولوجيا الحديثة 1952 تحت عنوان الأعراق والتاريخ (Race et Histoire)، والثاني 1971تحت عنوان الأعراق والثقافة (Races et Culture)ومن بعدها أُسقطَ هذا النقاش لمدة 35 سنة...
[33]Noam Chomski, «Les dessous de la politique de l'Oncle Sam », Montréal, Écosociété, 1996
[34] Erich Fromm, Avoir ou être, Avoir ou être : un choix dont dépend l'avenir de l'homme, traduit de l'américain par Théo Carlier, postface de Ruth Nanda Anshen, Paris, Robert Laffont, coll. « Réponses », 1978, 43 p. ; 20 cm. Titre original : To have or to be ?, édité chez Harper & Row en 1976
[35] Barycentre d’un n’importe quelle forme plane ou solide
[36]التعدّدية اللبنانية في الهُويّة والنظام، حوار الثقافات أم حوار طرشان، صفحة 18، (نشر في النهار في 14/4/2001).
[37]التعدّدية اللبنانية في الهُويّة والنظام، قراءة دقيقة ونقد بنّاء، محمود شريح والهُويّة المتعدّدة الثقافة. صفحة 26، (نشر في النهار في 5/9/2002)
[38]تعويذة الوحدة وجزر السلام – ادمــون رزق، مجلة الزمان، 24/10/2016.
[39] نداء من شخصيات مسيحية “الى مسيحيي لبنان والعالم العربي”:”عروبة العيش معاً” من دون ايديولوجيات، مجلة Commercial28/5/2011.
[40]التعدّدية اللبنانية في الهُويّة والنظام، من برلين الى بيروت، مسؤولية الذاكرة، صفحة 50، (نشر في النهار في 23/9/2003).
[41]آخـر "الحـروب مـن أجـل الآخـريـن"…أم سـلام "مـن أجـل الآخـريـن" كـذلـك؟ النهار 29 تموز 2006.
[42] مقال بعنوان: "ميشال شيحا مُلْهَمٌ في حالِ نِعمة" نشر في مجلة المركز التربوي للبحوث والانماء، العدد 51، نيسان 2012.
[43]"وهي التي كانت رائدة البحار ونجمة الشواطئ المتوسّطية أيّام الفينيقيّين..." من كتاب لبنان في ذاته للدكتور شارل مالك صفحة 45.
[44] من قصيدة الشاعر الكبير سعيد عقل: "سوف نبقى" من ديوان قدموس 1950.
_______________________________
الحركة الثقافيّة – انطلياس
المهرجان اللبناني للكتاب
ندوة بعنوان : "أعلامٌ ثلاثة في علم الإجتماع من قضاء جزين"
د. سليم نصر - د. ميشال عوّاد - د. بهجت رزق
7 آذار 2019 - الساعة الرابعة
دير مار الياس، مسرح الأخوين رحباني.
كلمة الدكتور هنري كريمونا
نِعمَ التواجد في هذا المهرجان اللبناني للكتاب، بإشراف حركة ثقافيّة ومجلس ثقافيّ، وتحت مظلة كبير من بلادنا المعلم بطرس البستاني، وبمبادرة مبارَكة من الدكتور الياس القطّار. وإني لأخشع أمام أيّة حركة ثقافيّة تتجلّى بأناقة مُستعذبة، فيها يتعانق الفكر مع ذاته دون حاجة الى غيره، ليرسم بالوان العلوم والفلسفة والآداب والشعر واللاهوت والعلوم الإجتماعية والفنون، إيقونة بهيّة تعلق على صدر لبنان بفخر واعتزاز، تُنعش قلوبنا وعقولنا، وتجدّد فينا نسمة حياة لهذا الوطن.
في إطار أجواء فكرية مشابهة للتي ذكرت، التقيت منذ ما يقارب الخمسين سنة مع صديقي الدكتور ميشال عوّاد، وكنا على مقاعد الدراسة الجامعيّة، فوُلدت بيننا، بعفويّة صافية، صداقة، تزاوجت مع الفلسفة واللاهوت، فمشينا نرتحل سوية في الفكر، ليعبر هو من الفلسفة الى العلوم الإجتماعيّة، واستمريت مسترسلا في متّسعات الفلسفة، نتكامل في تبادل الأفكار والمعرفة بأبهى ما يمكن أن ترسمه لوحات الصداقة المتلونة بالفلسفة واللاهوت والعلوم الإجتماعية.
لكي اُبرز شخصيّة صديقي ميشال، لآ بدّ لي من أن أتامل معكم في أسمى العلاقات البشريّة وهي الصداقة. ثمّة أطر متنوّعة يمكن أن تجمع الأشخاص بعضهم مع بعض، أكان في العمل أم في الإدارة أم في التعليم أم في السياسة أو في أي نضال حياتيّ، وهي لقاءات يمكن ان تبني صداقات متعدّدة، تدوم أو تضمحل ضمن توافق معيّن. إنما الصداقة التي بُنيت بيننا، تلاحمت فيها الحرية والمحبة، بأفضل صورها، فأضحت في مسيرة الحياة التي جمعتنا، إيقونة أخرى إنسانية روحيّة، رسمناها بجلل من المجانيّة والبساطة العلائقيّة، حتى جاورت نفحات الروح الإلهيّة.
تلقى الدكتور عوّاد علومه وثقافته في مدارس وجامعات كاثوليكيّة، لدى الآباء اليسوعيين، ونهل العلم والمعرفة في جامعة القديس يوسف، ومن بعدها في جامعة الروح القدس، ثم انتقل الى الجامعة اللبنانية ومن بعدها الى جامعة باريس ألصوربون، حيث نال شهادة الدكتورا في العلوم الاجتماعية، في توجّه اختصاص نحو علم الإجتماع المدينيّ sociologie urbaine وعلم الأنتروبولوجيا.
مارس الدكتور عوّاد التعليم الجامعي في الجامعة اللبنانيّة، وفي جامعة الروح القدس، والجامعة اليسوعيّة وفي معهد القديس بولس في حريصا. وأهم المواد التي وفّرها للطلاب تمحورت حول مفهوم علم الإجتماع العام والمدينيّ، والجغرافيا الإنسانيّة، والانتربولوجيا، ومنهجيّة البحث في العلوم الإجتماعيّة، كما وجّه الطلاب في أبحاثهم العلميّة على مستوى الكفاءة والدكتورا.
لم يكتفِ الدكتور عوّاد باكتناز المعرفة لذاته، ولا الإكتفاء بالتعليم الجامعيّ، إذ كانت روحه الوثابة تدفعه الى ما بعد هذه كلها. فكان على مثال المُجلين، الذين يصفهم أفلاطون في الجمهوريّة حيث يقول : "عليهم أن يُكملوا المسيرة حتى النهاية وأن يرفعوا القسم الأسمى من نفسهم نحو الكائن الذي ينير كل شيء، وعندما يتأملون الخير في ذاته، فإنهم يتخذونه مثالاً لتنظيم المدينة، والأفراد وذواتهم، كل بدوره، طوال حياتهم الباقية" (أفلاطون، الجمهورية،الكتاب السابع، 539 ه – 540 ه).
أدرك الدكتور عوّاد، بما يشبه رسالة حياته، أن النور الذي تأمله، أكان على المستوى الإيمانيّ أم على المستوى الفكريّ، يشكل المرجعيّة الوحيدة التي يُبنى على أساسها الوجود البشري بكل مستوياته. هذا الخير في ذاته، هو النور الذي أشرق في قلبه، فاستودعه في سراج ووضعه على المنارة ليضيء جميع الذين في البيت (متى 5 / 15). فتبيّنت أمام ناظريه أبعاد ثلاثيّة، إلتزم بها وعرف أنها تتكامل في ما بينها، فأراد العمل فيها بحميّة وقناعة وصلابة، وهي : البُعد الإجتماعي، البُعد الكنسي، والبُعد السياسيّ.
فكانت له مشاركة فاعلة في مراكز الأبحاث المتعدّدة في لبنان، وكان مديرًا، لمدة عشرين سنة، لمركز الأبحاث في كلية العلوم الإجتماعية في الجامعة اللبنانية، وعضو في لجنة البحوث للانماء والسلام في جامعة الروح القدس، وعضو في المجمع العلمي في الجامعة اللبنانية، ومؤسس مشارك لحركة عدالة ومحبة التي تُعنى بترجمة ونشر تعليم الكنيسة الإجتماعي والرسائل البابويّة.
نشر الدكتور عوّاد دراساته وأبحاثه في كتب متعدّدة، أذكر عناوين البعض منها :
* "جلجلة شعب : المحصلات الإجتماعية للحرب في لبنان" Le calvaire d'un peuple
* "ألمجتمع اللبناني الجديد في رؤية الفعاليات" بالإشتراك مع آخرين، وهي دراسة منشورة في 3 أجزاء.La nouvelle société libanaise dans la perception des Fa'aliyat
* دراسة حول سوق العمل في لبنان. Etude du marché de l'emploi au Liban
* الثقافة الإجتماعية والمدرسة والمجتمع (دراسات في المركز التربوي للبحوث والإنماء.
* سلسلة كتب مدرسية للصفوف النهائية في مادة العلوم الإجتماعية والإقتصاد.
* ترجمة ودراسة تحليليّة لرسالة البابا لاون الثالث عشر في "الشؤون الحديثة" في إطار "حركة عدالة ومحبة".
توزّعت دراساته والمقالات العديدة والمساهمات في المؤتمرات والمحاضرات في لبنان وفي الخارج، على مواضيع متعددة، نُشرت في إصدارات جامعيّة، وفي مجلات محليّة منها : المشرق – نور وحياة – بيبليا - المنارة – أوراق رهبانية – المجلة البطريركية – المجلة الكهنوتية. وألقى محاضرات عديدة في مؤسسات إجتماعيّة وكنسيّة طوال ثلاثين من السنين. فكنا نراه ونستمع اليه أو نقرأ ما كتبه في الإطار الثقافي الأكاديمي الإجتماعي والتربوي في :
* لجنة البحوث في جامعة الروح القدس
* جامعة الحكمة
* المركز الماروني للتوثيق والابحاث
* المركز التربوي للبحوث والإنماء
* الحركة الثقافية في انطلياس
* دار العمل
* معهد غوته
* المكتب التربوي للراهبات الأنطونيات
* نادي لاجوكوند
* المجلس النسائي اللبناني
وفي الإطار الكنسي كان حاضرًا في :
* البطريركية المارونية
* المركز الكاثوليكي للإعلام
* مجلس الرؤساء العامين والرئيسات العامات للرهبانيات في لبنان
* حركة كنيسة من أجل عالمنا
* حركة عدالة ومحبة
* مطرانية انطلياس المارونية
* الرابطة الكهنوتية
* مؤسسة كاريتاس لبنان
* المركز الكاثوليكي للحوار والتبادل
* معهد الليترجيا في جامعة الروح القدس
* رابطة الكليات والمعاهد اللاهوتية في الشرق الأوسط ATIME
صلابة فكر صديقي ميشال ووضوح طروحاته، غالبًا ما شكلت لمحاوريه رهبة فكريّة، قلّ الذين يتخطونها معه. حجته قويّة يجمع فيها عناصر متعدّدة، ومن اوجه مختلفة، ويضع بينها علائق متنوّعة تفتح آفاقًا للنقاش، مما يغنيه، فيسترسل فيها مع محاوريه، بثقة ونبرة صوتيّة حازمة، ويستمر فيها الى حين إقتناع محاوره بما أراد تبيانه. يتميّز فكر صديقي ميشال بخاصيّة تعبّر عن شموليّة طروحاته، ذلك أنه يجمع دومًا بين الفكر النظريّ والوجود العمليّ. بالنسبة له، الكلمة إذا لم تكن متجسّدة تبقى باطلة. هو يعتقد أن الحقيقة ليست أفكارًا مجرّدة فقط، بل هي جسد حيّ في الواقع البشريّ. هذا الترابط بين الكلمة والواقع، بين الروح والجسد، بين الحقيقة والحياة، شكّل أطارًا لمقومات نجاحه في مجال العلوم الإجتماعية وجلب له الاحترام والإصغاء لما يطرحه من مقولات علميّة وواقعيّة.
سأسعى في ما يلي لأستعرض باقتضاب بعض العناوين التي عالجها في محاوراته ومحاضراته وكتاباته، على المستويات التي ذكرت : الإجتماعي والكنسيّ والسياسيّ.
أولا على المستوى الإجتماعي والتربوي: آلمته، كما نحن جميعًا، وقائع الحرب في لبنان، فتمعّن فيها، دارسًا ومعالجًا آثارها على أوضاع الشبيبة، ساعيًا الى تلمّس ثقافة السلام والتحديات التي يطرحها، واسترسل في دراسة أطر التغيير الإجتماعي التي ولدتها روحيّة المقاومة اللبنانيّة. فانبرى يدرس مفهوم العدالة الإجتماعية في الفكر المسيحي، على المستوى النظريّ حتمًا، ثم ذهب، تدعيمًا لهذا المفهوم، الى دراسات عملانيّة في العديد من البلدات والقرى اللبنانية خاصة في البقاع في راشيا وزحلة وقرى عكار وبعلبك الهرمل. إنكبّ أيضًا، وفي المنحى ذاته، على دراسة واقع الإقتصاد في لبنان وارتباطه بحالات الفقر وعلاقته بالكرامة الانسانية. كما اهتمّ أيضًا بدراسة مسألة الهجرة والتعدّد اللغوي والثقافي، وعلاقة الإنسان بالبيئة.
ثانيًا على المستوى الكنسيّ: ترافقنا سويّة في هذا المضمار، فكانت لنا حوارات ومناقشات وأبحاث عديدة، كنا نتبادل ونتقاسم فيها تطلعاتنا الكنسيّة في أبعادها التاريخيّة والروحيّة والمؤسساتيّة، والتحدي الذي يطرحه علينا أيماننا في كيفية إعلان البشارة في عالمنا العربيّ.
كانت للدكتور عوّاد دراسات عديدة في هذا المجال الكنسيّ، خاصة بما يتعلّق بصورة الكنيسة في المجتمع اللبنانيّ على مستوى المؤسسات التربويّة والإجتماعيّة. بناءً على هذه الصورة، نادى بضرورة التجدّد في الأطر الكنسيّة، وقد تبيّن وأظهر، من خلال مواقف جريئة، اهمية دور الكنيسة الإجتماعي والسياسي، خاصة في إعلان شأن القيم السامية في المجتمع، لمناهضة العنف، وحتميّة إرساء التربية على السلم تجاه البُنى العنفيّة في المجتمع الشرقي. من هنا إنكبّ الدكتور عوّاد على التعمّق في معاني الوجود المسيحي في لبنان وفي الشرق، ومراميه على الصُعد كافة. ففي مقاربته لمصير ومستقبل الوجود المسيحي، إستلهم التاريخ، وتدارس معاناة الأجداد وصمودهم عبر الزمن، فبانت له ثلاثية صلبة شكّلت عمق الإستمرارية التاريخية، وهي التلازم بين الكنيسة والأرض والشعب. هذا الإرتباط شكّل، بالنسبة له ضمانة الوجود والإستمرار والوثوب نحو بناء المستقبل. إهتمّ أيضًا بواقع الكهنة في لبنان وفي الكنيسة المارونية، وله مقالات متعدّدة حول واقع الرعايا في لبنان، والتحديات التي يواجهها الكهنة ومسألة حضور الراهب في الإطار الكنسيّ والمجتمعيّ، من حيث معاني وسموّ نذوره وعلاقته بديره ورسالته.
ولم يغب عن باله معالجة مسألة رسالة العلمانيين في الكنيسة ومفهوم العلمانيّة في الواقع اللبناني. واهتمّ بصورة مباشرة في نشر وتعليم رسائل الباباوات في الشأن الإجتماعي، وبصورة خاصة، كما ذكرنا سابقًا، رسالة البابا لاون الثالث عشر في الشؤون الحديثة التي أسست لهذا التعليم منذ أواخر القرن التاسع عشر، وهو تعليم ردّده وتوسّع به تكرارًا الباباوات طوال القرن العشرين، وأهميّة تعميمه ونشره. وعندما أعلن البابا القديس يوحنا بولس الثاني عقد السينودس من أجل لبنان إسترسل صديقي وكنت بمعيّته مع جماعة من المفكرين، نتفحّص ونتدارس الطروحات الواجب تقديمها الى حاضرة الفاتيكان، مساهمة منا في إحياء السينودس.
ثالثًا على المستوى السياسي: تدارس الدكتور عواد الأزمات السياسيّة والتداخل بين السياسة والإقتصاد في لبنان والشرق الأوسط، تلك الأزمات التي عصفت في لبنان وما تزال، ومعاني الإلتزام السياسي لدى الشبيبة والمسؤولين، بحثًا عن هوّية لبنان الحضاريّة. وفي التزامه السياسي الخاص، أهتمّ بصورة معمّقة، بدراسة واقع المقاومة اللبنانيّة في وجودها ودورها وآفاق المستقبل لها وللوطن. ومن ثمّ إنكبّ على دراسة تيّار المقاومة في إطار القوات اللبنانية وكيف تحوّلت الى حزب سياسيّ.
في الختام، أودّ ان اشكر الدكتور ميشال عوّاد على صداقته الشخصيّة والفكريّة، فقد كان لصداقته الدعامة الأكيدة لمسيرتي في رفقته ولكل ما تمكنا من تحقيقه سوية. فالصداقة لا تُثمّن، لأنها تعكس وجهًا من وجوه الله.
____________________________________________
سليم نصر
كلمة الدكتور ملحم شاوول
· تقديم المسار البحثي لسليم نصر.
سليم نصر شخصية قلقة تعيش توتر من يريد أن يفهم وأن يعمل وأن يتدخل. هو ينتمي إلى جيل من البحاثة اللبنانيين اعتبر أن العلاقة مع المجال العام وشؤونه جزء من مكونات المسار الخاص وفرادته. فإذا به يجمع في شخصه أضلعاً ثلاثة كمعلم وباحث وإداري. الإداري الناظم والمنظم، مهندس وضابط إيقاع الأوركسترا البحثيّة.
من ينظر إلى مسار سليم نصر يرى أولاً شغف المعرفة العلمية، معرفة المجتمع وآليات عمله وتطوره وقواعد العلاقات التي أرادها هذا المجتمع لذاته. ويرى ثانيًا إرادة التدخل، عملاً بنظرية أستاذه وأستاذي، ألان تورين الذي يقول " لا علم اجتماع بدون مشروع للتدخل الاجتماعي".
لنتعرف إذًا على سليم، المعلم والباحث والمتدخل.
· سليم نصر: مُعَلم وباحث
لقد اكتشَفَت بداغوجيا التعليم العالي للعلوم الإنسانية الاجتماعية منذ فترة وجيزة أن لا تعليم عاليًا بدون أبحاث، ولا أبحاث إلّا إذا انصبّت بشكل أو بآخر في التعليم. لكن سليم نصر جمع هاتين المهمتين بشكل طبيعي منذ ما قبل تنصيبهما قانونًا في الجامعات. وبالنظر إلى مساراته نلاحظ أيضًا كيف دمج التجربتين التعليميتين والبحثيتين الفرنسية والأميركبة، وكيف تمكّن من أن يكون هو توليفتهما.
بدأ أستاذ علم اجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، من 1984 إلى 1987. ليتألق من ثم في الولايات المتحدة أستاذًا زائرًا في علم الاجتماع في جامعة " تافتس" Tufts University، كلية القانون والدبلوماسية، عام1988-1987وأستاذاً مكلّفًا في جامعةGeorgetownفي واشنطن عام 1989-1990.
أما الباحث فهو قد سبق الإستاذ /المعلم وبدأ مساره في هذا المجال في فرنسا لمقاربة الواقع اللبناني والعربي منذ أن بدأ هذا الواقع يتصدع ويتحول ويتحرك أمام أعين البحاثة وعلماء الاجتماع منذ بدايات السبعينات. أدرك سليم ومعه مجموعة صغيرة من البحاثة أن الظرف هو ظرف تاريخي يُقدم مواد اختبارية قابلة للملاحظة المباشرة لمن يريد معاينتها وتحليلها وفهمها. من هنا تمكنّ أن يقنع القيّمين على "المركز الوطني الفرنسي للأبحاث " CNRS(Paris)- حيث عمل باحثًا مساعدًا بين 1977-7919- بإنشاء مركز خاص للدراسات والأبحاث حول الشرق الأوسط المعاصر في بيروت (سوف نتكلم عنه لاحقًا). أما في الولايات المتحدة فنجده باحثاً في مؤسسة Brookings، في واشنطن 1988-1989 .
نتوقف هنا لمعاينة أبرز انتاجاته البحثية ومنشوراته الأكاديمية. تتمحور هذه حول عناوين ثلاثة: المجتمع اللبناني في بناه وتحولاته، النظام السياسي اللبناني بين الكوابح والتغيير، المدن في تجلياتها وتعابيرها.
تنتمي باكورة أعماله إلى ما يمكن تسميته مجال سوسيولوجيا التشريح الاجتماعي وهو بعنوان "الطبقات الاجتماعية في لبنان". صدر بالفرنسية عام ١٩٧٦ بالاشتراك مع عالم الاجتماع الفرنسي كلود دوبار وصدرت الطبعة العربية منه عام ١٩٨٥ عن دار الفارابي. شكل هذا الكتاب محطة تأسيسيّة لعلم اجتماع اعتبر أن وحدة التفكير ومادة المقاربة هما التشكُل الاجتماعي اللبناني في كنف الدولة اللبنانية. وافترض أيضًا أن النظام الاقتصادي اللبناني انتج بنى اجتماعية – هي تلك الطبقات – جديرة بالمعاينة بصفتها هذه وليس بصفتها امتدادًا لأي تركيبات أو هياكل اجتماعية خارج الكيان اللبناني. يستعرض الكتاب أصول تشكل البنى الطبقية في لبنان مركزاً على قطبين، البرجوازية والقوى العاملة. فأظهر مدى تبعية الأولى للأسواق الأوروبية ولقوة رساميلها ومدى هشاشة الثانية ضمن نظام اقتصادي يعزز الرأسمال المالي التجاري على حساب الانتاجين الصناعي والزراعي. المقصد العلمي البحثي من هذه المقاربة محاولة تعيين ما أسميه " مسودات طبقات اجتماعية" من ثنايا المجتمع الأهلي/ العُرفي. هذا لأن سليم نصر كان يؤمن إيمانًا عميقًا في سبعينات القرن الماضي أن المدخل الرئيسي إلى الحداثة الحقيقية يكمن في تحديث الاقتصاد ليصبح منتجًا، فيقوّي بالتالي الطبقة الراعية لهذا الاقتصاد، أي بورجوازية لبنانية صناعية. فيصبح المجال متاحًا لتهميش القوى الطائفية والعائلية وفرز هيكلية تعمل وفق ديناميات المصالح والصراعات الاجتماعية تمامًا كما في التشكلات الاجتماعية الأوروبية.
وحتى بدايات ثمانينات القرن الماضي بقي هاجسه ومحرك أبحاثه المسألة الاجتماعية وسوسيولوجيا الفاعلين العاملين على تقدم المجتمع. ويبدو لي أن الباحث ثبّت مشروعه البحثي الملتزم في حيّزين متلازمين: حيّز المدينة وتوسعها وحيّز المسألة الاجتماعية. فكان العمل على بيروت الكبرى ( وهو أول من استخدم المصطلح في سبعينات القرن الماضي قبل أن يصبح مصطلحًا رسميًا في تسعيناته)، ومن ثم " التركيب الاجتماعي لضاحية بيروت الشرقية عشية الحرب" حيث دلّ بالأرقام والمعلومات الإحصائية على حجم التفاوت والنمو غير المتكافئ بين الفئات الاجتماعية و بين المناطق والمدن.
لكن، طالت الحرب وتمددت ونصّبت نفسها عاملاً محددًا يفرض نفسه بالعنف الحقيقي على أرض الواقع وبالعنف الرمزي على مكونات التحليل السوسيولوجي. ما فعلته الحرب بمشروع سليم نصر- وبنا نحن كبحاثة في علم الاجتماع- هو تحوير الرسم المنظوريperspective، دون المساس طبعا بمضمونه ومناهجه. بطبيعته المتفائلة كان منظور أبحاثه يتمحور حول النظرة إلى عالم أفضل، متطور، قائم على فلسفة التقدم. وكان يعمل على نبش مرتكزات التغيير معتبرًا أن المحدد الأخير لهذا التوجه هو الاقتصاد والتنمية البشرية. فإذا بسليم في القسم الثاني من الثمانينات يبحث في كيفية فهم الحرب وأسباب انخراط الفئات الاجتماعية فيها، وكيف تُخاض من خلال الكيانات الطائفية والعصبيات. في هذا الإطار أنتج سليم نصر أفضل دراسة وُضعت حول تحولات الحرب وهي على تقاطع تحول ميزان القوى بين الطوائف من جهة وسوسيولوجيا المدينة/العاصمة التي تعاني من العنف من جهة ثانية، وهي بعنوان : " الانتقال الشيعي إلى بيروت، تحولات اجتماعية وتعبئة طائفية عشية العام ١٩٧٥"، نُشرت بالفرنسية عام ١٩٨٥ ونُقلت إلى العربية ونُشرت إلى جانب مجموعة دراسات أخرى في دار النهار عام ٢٠١٣ بعنوان (ولهذا دلالاته الكبيرة) " سوسيولوجيا الحرب في لبنان". وهو كان قد مهد لهذا العمل في دراسة نُشرت عام ١٩٧٩ بعنوان " أشكال إعادة التموضع التقليدي في مجتمع بيروت" في كتاب مشترك صدر بالفرنسية بعنوان "الفضاء الاجتماعي للمدينة العربية" بإشراف دومينيك شوفالييه. فبات المشروع الاستراتيجي، إذا جاز التعبير، إيقاف الحرب ودورة العنف والعودة إلى بناء الدولة والمصالحة والإعمار. من هنا نلحظ مجموعة الدراسات التي صدرت في تلك الفترة حتى بداية التسعينات وهي تتناول "نظام الحرب" ،" والإقتصاد في زمن الحرب" و "التنقل السكاني واليد العاملة" و "أوضاع المرأة زمن الحرب"، الخ.
لقد بات الباحث يعي بوضوح أن الحرب ومنطقها طوت صفحة الأبحاث في التركيب الطبقي الخالص للمجتمع اللبناني وأصبح هذا المجتمع في كتابات سليم نصر نهاية الثمانينات وبداية التسعينات أشبه بطاولة " داما " حيث البنى التقليدية تخترق البنى الطبقية والعكس ممكن.
· سليم نصر: مصمم ومدير مؤسسات بحثية
الناظم والمنظم، مهندس وضابط إيقاع الأوركسترا البحثيّة. هكذا وصّفته في مستهل هذا التقديم. في هذا البعد من شخصيته البحثية يترجم سليم نصر إرادة التدخل في تحَمُلِه مسؤولية مؤسسة بحثية وتوظيف أعمالها وشغلها للتأثير في إدارة الشأن العام وإطلاق أفكار جديدة وبرامج تنفيذية والعمل مع المعنيين على وضعها موضع التنفيذ. فمن خلال عمله هذا، إنه يبني الممرات ومسالك العبور بين البحاثة وأشغالهم وبين هؤلاء ومصادر تمويلهم ورعاية مساراتهم.
هنا نجده بداية مدير الأبحاث، في مركز الدراسات والأبحاث للشرق الأوسط المعاصر CERMOCفي بيروت ، (1979-1985) حيث أشرف على إصدار سلسلة من الدراسات تتعلق بلبنان والعالم العربي في المشرق حول سياسات التصنيع والتنقل السكاني واليد العاملة، وعلاقات التركيبات الطائفية والفضاءات المدينية في لبنان وبعض البلدان العربية.
ثم انتقل إلى واشنطن حيث أسس وأدار " مركز السلام وإعادة البناء في لبنان" ، 1988-1990 .وقد دعا هذا المركز إلى مؤتمر عالمي حول لبنان فيما كان مشروع مؤتمر الطائف ينضج وبات في مرحلة التنفيذ.
وما أن انتهت أعمال الطائف واتفاقيته حتى عُين سليم عام ١٩٩١ مسؤول برامج الأبحاث في العلوم الاجتماعية والسياسات العامة للعالم العربي في مؤسسة فورد Ford foundationحتى ١٩٩٩. وفي الوقت نفسه تأسس في لبنان " المركز اللبناني للدراسات" الذي تخصص في مواضيع الحاكمية وسوسيولوجيا الاقتراع والانتخابات النيابية والبلدية وسياسات الشأن العام. وقد تعاونتُ شخصيًا مع هذا المركز وكنت أعلم أن مؤسسة فورد التي يديرها سليم نصر من القاهرة هي الداعم الرئيسي لهذا المركز ولمشاريعه البحثية. هذا ما أتاح لي أن أتابع عن كثب آليات عمل سليم نصر مخططًّا ومنفذًّا ومتدخلاً في تحديد الإشكاليات والتساؤلات ومناهج العمل؛ كان يقترح دون أن يفرض، يناقش فيُقنع أو يقتنع. كما بات معلوما أنه لم يكنفي من خلال موقعه في مؤسسة " فورد" بدعم المركز اللبناني للدراسات ولكنه أيضًا لعب دورًا حاسما في عملية دعم وإطلاق " جمعية باحثات" ومشاريعها البحثية و "الجمعية اللبنانية للأبحاث التربوية" المعروفة ب LAESوالتي تُعد من أهم المؤسسات البحثيّة غير الحكومية في هذا المجال.
وبعد عودته من القاهرة عام ١٩٩٩ تسلم هو إدارة المركز اللبناني للدراسات LCPS حتى عام ٢٠٠٤ وعرفته في تلك الفترة عن قرب إذ كنّا نلتقي ونتبادل الأفكار والمشاريع البحثية وموضوعات المؤتمرات و ورش العمل. كانت هواجسه في تلك المرحلة تتمحور حول مَلفَّي الإعمار والمصالحة. وكان يربط الملفًّين بهاجس أهمية إعادة اللحمة إلى النسيج الاجتماعي من خلال العمل الجدي لقيام دولة ديمقراطية تحضن الجميع، لديها رؤية للسياسات الاجتماعية ولاقتصاد منتج قائم على تراكم القيم المضافة. من هذا المنطلق أيضًا كان سليم مستشارًا ومخططاً و داعماً "لبرنامج انتظارات الشباب" إلى جانب الأب مارون عطالله وناشطين أخرين واستمرّ في هذا الالتزام حتى النهاية.
هذا هو سليم نصر الذي عرفته شخصيًا، ربما متأخرًا، لكنه أتاح لي المجال كي أكتشف وراء الشخصية التي تبدو منطوية على نفسها في الظاهر، إنسانًا قريبًا من العقل والقلب، مراقبًا لشؤون الناس وشجونهم ، متحسسًا لمشاكلهم، وشغوفًا من أجل إيجاد الحلول المناسبة للمجتمع اللبناني قبل الحرب وأثناءها وبعدها.
ملحم شاوول