أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي

       تكريم الدكتور رمزي سلامه 

كلمة الاستاذة الدكتورة جوليات الراسي في ادارة جلسة تكريم البروفسور رمزي سلامة

الحركة الثقافية – انطلياس نهار الخميس الواقع فيه 7 آذار 2019

من الساعة 6-8 مساء

 

أيها الحفل الكريم

أيها الأصدقاء

نرحّب بكم فردًا فردأ، في الحركة الثقافية – أنطلياس،  ويسعدنا أن نتشارك معًا بتكريم علم من أعلامنا اللبنانيين الرواد، ليس في لبنان والعالم العربي فحسب بل في العالم، عنيت به البروفسور رمزي فريد سلامة الذي برع في مجالات عدة سوف أتوقف عند بعض مفاصلها.

وقبل أن أشير إليها أود أن ألفت النظر إلى مسألة استوقفتني كما تستوقف غيري ممن تابع دراسته في فرنسا، وهي أن المواطنين هناك يستعدون للحصول على إجازة سوق، مثلما يتحضرون للشهادات الرسمية. بل أحيانًا كثيرة يرسبون عدة مرات، وطبعًا يحتفلون بالنجاح بعدها كما لو أنهم  نالوا جائزة مالية كبيرة!

تتفهمون جيّدا تعجبي وتعجب غيري بل استغرابي لهذا الأمر في فترة ( أي منذ أكثر من 30 سنة) عندما كان طالب رخصة السوق في لبنان، يحصل عليها وهو قابع في بيته، دون أن يطلع في معظم الأحيان على قوانين السير وشروط السلامة المرورية!

هذا الأمر يستدعي الإدانة وليس فقط الاستغراب عندما ندرك مدى خطورة هذه الخطوة الخطيرة على حامل إجازة السوق نفسه وعلى مجتمعه. وباعتقادي أن قسمًا مهمًا من الاختناق في السير الذي نتمرمر منه كلّ يوم على طرقاتنا هو نتيجة حتمية لهذه الخطوة المخالفة للقوانين.

على أنه هناك مؤسسات في وطننا تعنى بالسلامة المرورية حاليًا، وهناك رواد بدأوا بهذه الخطوة وفي طليعتهم البروفسور رمزي سلامة.

- د. سلامة من خريجي دار المعلمين والمعلمات – بيروت 1961-1964.

- من خريجي الجامعة اللبنانية،  وحائز على دكتوراه في علم النفس من جامعة مونتريال (1979)،

 - يشغل منذ سنة 2016، مركز أمين سرّ المجلس الوطني للسلامة المرورية، التابع  لرئاسة مجلس الوزراء، الحكومة اللبنانية

- 2011-2012 منشىء ومتولي كرسي مؤسسة رينو في إدارة السلامة المرورية ومدير الماستر في إدارة السلامة المرورية في جامعة القديس يوسف – بيروت

- منذ سنة 2008  هو المدير التنفيذي لمكتب الدراسات والاستشراف وتنمية الكفايات (مدارك).

- 2009-2013 مندوب رئيس جامعة القديس يوسف لضمان الجودة في التعليم الجامعي

- 2005- 2006 ممثل منظمة اليونسكو في لبنان وسوريا ومدير مكتب اليونسكوالإقليمي للتربية في الدول العربية - بيروت

- 1994-2008  اختصاصي أول في التعليم العالي وتكوين العاملين في التربية في مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في الدول العربية – بيروت

- 2000-2003 المستشار الرئيسي – وزارة الثقافة – لبنان

- 1977- 1994 أستاذ في جامعة لافال- كيبيك – كندا

- 1973- 1977 أستاذ معيد – جامعة مونتريال – كندا

- 1971- 1977 مستشار لدى مجموعة من المناطق التربوية في مقاطعة كيبيك- كندا

- 1965- 1970 معلم، مدرسة صربا الرسمية – كسروان ، وزارة التربية الوطنية، لبنان.

للبروفسور رمزي سلامة مجموعة وفيرة ( تعد بالمئات) من المؤلفات: محاضرات ومقالات منشورة في لبنان والعالم العربي والدول الأجنبية والمؤسسات الإقليمية والدولية باللغات الثلاث (العربية والفرنسية والانكليزية). وتتناول ميادين متنوعة،

 منها:

- السلامة المرورية

 - ضمان جودة المؤسسات التعليمية العالية

 - تطوير وتجديد الأنظمة التربوية   

تطوير مؤسسات وبرامج التعليم العالي وتقييم أوضاع العاملين في التربية      

 - تطوير السياسات الشبابية

- التربية على التراث

 - تعليم أطفال اللاجئين السوريين في لبنان ودول الجوار  

 

إنّ السيرة الذاتية الكاملة للبروفسور سلامة سوف تنشر في منشورات الحركة الثقافية، فأبحاثه ونشاطاته المتنوعة والرائدة تحتاج إلى ساعات لذكرها.

إلا أنني أود أن أشير إلى مبادرة اجتماعية محلية قام بها البروفسور سلامة وهو تبرعه ببناء ثانوية كفرذبيان الرسمية، 2011، كما أنه يتولى كلفة نقل تلامذة الثانوية منذ ذلك الوقت.

كما أنشأ جائزة فريد سلامة للتميّز المدرسي. وهو عضو فاعل في الهيأة اللبنانية للعلوم التربوية منذ 2008.

ومؤسس نادي التضامن الثقافي الاجتماعي في كفرذبيان 1963.

ومؤسس الجمعية العربية- الكندية في مونتريال 1976.

 

يبقى أن الهمّ الأساسي الحالي الذي يشغل البروفسور رمزي سلامة ويكرّس له الجهد والوقت هو إعداد "استراتيجية وطنية للسلامة المرورية" في لبنان.

إن نتاج الدكتور سلامة وعطاءاته في الميادين الاكاديمية والتربوية والاجتماعية، على مستوى لبنان والمنطقة، تجعل منه، بحسب معايير حركتنا، علماً من أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي. وهو من هذا المنظور يستحقّ منا كل تقدير وتكريم.

أما خير مَن يحيط بعلَمنا المكرّم ويستطيع أن يفيَه حقّه في سرد سيرته وإبراز مساهماته، فهو صديقه وشريك دربه التربوي بوجه خاص، الدكتور عدنان الأمين الذي سبق لحركتنا ان كرّمته في المهرجان اللبناني للكتاب في العام 2014 الكلمة للدكتور الأمين.

__________________________________________

 

رمزي سلامة

(الحركة الثقافية في انطلياس-7 آذار، 2019)

عدنان الأمين

أيها السيدات والسادة

أنا أعرف أربعة أشخاص اسمهم رمزي سلامة.

رمزي سلامة الأولهو الرجل الجالس بقربي هنا، الآن.

أظن أنني التقيته أول مرة في مكتب اليونسكو، في النصف الأول من التسعينات. وربما التقيت به قبل ذلك في الثمانينات، في مركز الأبحاث اللغوية والتربوية (مالت). أفضل كلمة أظن لأنك عندما تلتقي برمزي سلامة لأول مرة يجعلك تشك بانها أول مرة، وتنتابك الظنون. وهذا ما حصل معي. فهو عندما يتحدث معك يشعرك كأنه يتابع حديثا سبق وقام بينكما، وكأن باب الحديث كان مفتوحا أصلا، ويجعلك تصدق، أو تفضل أن تصدق أن هذه حقيقة وليست وهما. وفي مثل هذه الوضعية لا توجد بداية ولا نهاية. وهل يعرف الواحد منا متى تعرف على أخيه أو أختِهِ لأول مرة؟

هو غادر لبنان في مطلع السبعينات. هناك أنجز الماجستير ثم الدكتوراه وهناك مارس التعليم العالي. ولا أدري لماذا عاد إلى لبنان، رغم أن سيرته هناك تدل على انخراط قوي في الجامعة وفي الهيئات التعليمية والنقابية ومع المدارس، وعلى إنجازات متتابعة مهنيا وعلميا، وعلى أدوار قيادية مارسها، وهو كان أصبح مواطنا كنديا. على الشباب الذين يبحثون عن موقع قدم في بلاد الاغتراب أن يسألوه عن سر عودته. أما أنا الذي من جيله فأجد أن هذه العودة طبيعية جدا. لأنني أحب لبنان أيضا وأحب العيش فيه.

جلساتي مع رمزي لا تعد ولا تحصى. قصيرة وطويلة. ثابتة ومتحركة. بعضها في البيت أو المكتب وبعضها في السيارة أو الطائرة، وبعضها أحاديث سير على الطريق. كنا نسافر معا، إلى الكويت والرياض وصنعاء والقاهرة وغيرها، ونعود معا. ننزل في فندق، نتناول الفطور، والغداء والعشاء، معا. ثم بعد العشاء نمشي في الشوارع المحاذية، معا. مليئة مصاحبةُ رمزي في السفر. لن تفتش عن موضوع معه. هو كتاب مفتوح. في السياسة وعلم الاجتماع وعلم النفس والتربية والتعليم العالي والخدمة الاجتماعية والمنظمات الدولية والتجربة الكندية، قل ما شئت. أتعلم منه في اللغة العربية واللغة الإنكليزية واللغة الفرنسية والأنظمة الدولية. نادرا ما يسألني. ليس عن استصغار بشأني أو بشأن من يخاطبه. بل عن نزعة عنده لاستفزاز عقلك، فاذا ما علّقتَ ووافقتَ أو اعترضتَ انفرجت أساريرُهُ وأخذ يبحث في عينيك وفي كلماتك عن موقع ما تقوله في خريطة أفكاره، ويستعد للرد أو للاستكمال. حالُهُ في ذلك كحال الذي يلعب كرة السلة وحده على سبيل التحمية ثم ينخرط بنشاط في اللعب مع الآخر.

رمزي سلامة الثانيهو زميلي في مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في البلدان العربية.

استعمل كلمة زميلي من الباب المهني وليس من الباب الوظيفي. فنحن لم نعلم سويا في أية جامعة. ولم أعمل متفرغا في مكتب اليونسكو إلا بعد أن تقاعد هو من المكتب وبعدما استقلت أنا من الجامعة اللبنانية.   

جاء إلى اليونسكو من كندا في العام 1994. وأخذ على عاتقه مسؤوليات كثيرة ومتغيرة مع الزمن: نائب مدير المكتب، تنسيق أعمال مكاتب اليونسكو في المنطقة، تنظيم مؤتمرات وزراء التربية والتعليم العالي في البلدان العربية، الإشراف على صياغة وتنفيذ برامج المكتب ومشاريعه، رئاسة تحرير مجلة التربية الجديدة، هذا فضلا عن المهمة الأصلية التي جاء لها كأخصائي أول للتعليم العالي وتكوين العاملين في التربية. وهذه المهمة تضمنت بدورها الكثير من المسؤوليات التنظيمية والفكرية، بما في ذلك تقديم الخدمات الاستشارية للدول العربية. والدكتور سلامة هو الذي نسق أعمال المؤتمر الإقليمي العربي التحضيري حول التعليم العالي الذي عقد في بيروت في العام 1998، ووضع مسودة وثيقته الرئيسية.

من اليوم الأول لعمله في اليونسكو كان سلامة يتصرف كأنه وُلد هنا: بسهولة، بعلاقات عامة ممتازة، بمساهمات معرفية مستمرة، كمصدر غني للمعلومات، وكمولد للأفكار.  واضح، سلس، غير متوتر، حاضر دائما، متعدد المواهب، وموسوعي.

وكريم. نعم كريم. ليس لديه ما يخبئه. يزودك بسهولة بما يعرفه وما يملكه من وثائق ومعلومات. لأن العبرة عنده ليس في أن يسبقك أو تسبقه، ولا أن يمارس عليك أي سلطة. العبرة عنده أن المعرفة إذا ما حُجر عليها تخلفت، وإذا ما انتشرت وتم تشاركها ازدهرت. وهو سيكون سعيدا بهذين الانتشار والازدهار. وأنه ليس من يملك الوثائق هو الأقوى، بل من يتمكن من حسن استخراج الأفكار منها. وهو سوف يكونا سعيدا لو شعر أنك استفدت من الوثائق التي زودك بها. وسوف يكون أكثر سعادة لو وفر موارد مالية ووضعها بتصرف زملاء له أكثر عددا.  

لا أعرف ما أو من الذي أوحى في أحد الأيام من العام 2002 لإبراهيم قبيسيبعد استلامه رئاسة الجامعة اللبنانية بالاتصال بي والطلب مني أن أجري تقييما ذاتيا للجامعة اللبنانية، وأن يوافق على أن إطلاق يدي في إدارة المشروع.  أنا الذي كسبت عداء الرئيس الذي سبقه في الجامعة وعداء معظم أعضاء اللجنة التنفيذية لرابطة الأساتذة المتفرغين في فترة الرئيس السابق له. المهم أن مكتب اليونسكو في بيروت وافق على تقديم الدعم المالي لهذا المشروع، الذي شارك فيه 137 زميلا من الجامعة، وأن الدكتور رمزي سلامة قام بمتابعته بكل حماس وحضور فكري وعملي. والمهم أيضا أنه عندما انجز التقرير في نهاية العام 2003، تحول بقدرة قادر إلى مجرد كتاب. أي لم ينتج عنه أي تدبير تطويري في الجامعة حسب ما كان مفترضا أن يحصل.  

كان التعاون قويا بيننا أيضا في المشروع الكبير الذي نسقتُهُ على مدى ثلاث سنوات في الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية، بين العامين 2001 و2003، بعنوان تقييم المناهج اللبنانية الجديدة.  والناتج عن هذا المشروع كان تقريرا من ستة أجزاء بلغ مجموعها 6919 صفحة. هذه المرة وجدنا أنفسنا أنا ورمزي أمام نهاية أكثر دراماتيكية، فقد رفضت الرئيسة الجديدة للمركز التربوي للبحوث والانماء في ذلك الوقت تسلم التقرير.

أما عندما تعاونا في وضع كتاب مشترك، بعنوان "دراسة جدوى حول سبل العمل المشترك لضمان جودة التعليم العالي في البلدان العربية" صادر عن مكتب اليونسكو بنتيجة استقصاء اجريناه على عدة دول عربية، فالنتيجة كانت على قدر التوقع. توقعنا كتابا وانجزنا كتابا.

إذا أردنا يا زميلي أن نقيّم نتائج جهودنا المشتركة بصفتنا أعضاء في جبهة افتراضية شعارها الإصلاح التربوي في لبنان والدول العربية، جبهة تضم زملاء كثرا غيرنا، فأظن أن النتيجة غير مشجعة. ربما يجب أن نعقد خلوة، نحن أعضاء هذه الجبهة، حتى نرى في أمرنا من مجتمعاتنا وفي أمر مجتمعاتنا منا.  

أما إذا نظرنا إلى الموضوع من ناحية المساهمة الفكرية، فاللوحة مختلفة.

رمزي سلامة الثالثهو الذي كتب وقرأتُ له.  

هو غزير الإنتاج.

في اللائحة غير الكاملة لأعماله نجد 216 نصا، كتبت بين العامين 1975 و2018. أي بمعدل 5 نصوص في السنة.

في الفترة الكندية، كتب في عشرين سنة 18 نصا، معظمها مقالات، في علم النفس، وباللغة الفرنسية.

في فترة اليونسكو، كتب في 14 سنة 116 نصا، أي بمعدل 8.2 نصوص في السنة. موزعة بين تقارير، ووثائق، وفصول في كتب، ومحاضرات، وأوراق في ورش عمل ومؤتمرات. والغلبة فيها للغة العربية.

وأكثر ما كتب في التعليم العالي، 83 نصا. وفيه كتب وثائق توجيهية، وتقاريرا وفصولا في كتب، وألقى محاضرات وغيرها. وفيه عالج قضايا الجودة والحوكمة والتنظيم والاعتراف بالشهادات وتكافؤ الفرص والجندر، والتطوير المهني، وخدمة المجتمع، والتنمية، والعولمة، والتقييم، والتشريعات، والبحث العلمي، والتجديد، ومؤهلات الخريجين، والهيئة التعليمية، والحريات الأكاديمية، وغيرها. وقد ساهم عمله في الجامعة اليسوعية كمستشار لشؤون الجودة في استمرار اهتمامه بشؤون الاعتماد خصوصا. كما اهتم بموضوع المعرفة واقتصاد المعرفة في الفصول والتقارير التي شارك فيها في سياق تقارير التنمية الثقافية العربية.

وقد بلغتنوع المواضيع أشده في مرحلة اليونسكو هذه، على الأرجح بسبب الأدوار المتعددة التي لعبها بصفته خبيرا أو ممثلا للمكتب أو مستشارا أو غيرها. ومن المواضيع التي ظهرت في هذه الفترة فقط، موضوع الثقافة والتراث. على الأرجح بسبب الدور المساعد الذي لعبه إلى جانب شقيقه الوزير غسان سلامة بين العامين 2000 و2003.

في فترة التقاعد، أي بين العامين 2009 و2918، لم ينخفض بتاتا معدل إنتاجه السنوي. فقد كتب 82 نصا، موزعة بالطريقة نفسها التي كانت في الفترة السابقة. كان تقاعده وظيفيا فقط لكنه لم يتقاعد مهنيا. وفي هذه الفترة أضاف سلامة موضوعين على لائحة مؤلفاته. الموضوع الأول هو تعليم اللاجئين السوريين. والموضوع الثاني هو السلامة المرورية. بل كان هذا الأخير الموضوع الأثير عنده في هذه الفترة لدرجة أنه تفوق على التعليم العالي: 28 نصا من 82، مقابل 24 للتعليم العالي.

ما كتبه البروفسور رمزي سلامة مكتبة قائمة بذاتها. إذا أردت أن تفتش فيها عن نصوص تصنف في باب الأبحاث العلمية، أي التي تنشر في الدوريات الإقليمية والدولية، فسوف تجدها خاصة في المرحلة الكندية. أما إذا كنت تبحث عن أفكار واجتهادات وتوجهات استراتيجية ومعلومات ووثائق ونماذج، من مؤلف يعرف تماما الحقول التي يكتب فيها، وله فيها مساهمات قيمة، فما عليك إلا الدخول إلى هذه المكتبة الغنية.  

رمزي سلامة الرابعهو الشخصية العامة.

سألته أكثر من مرة في السنوات الأخيرة، وبلهجة فيها شيء من العتاب: لماذا نقلت اهتمامك إلى السلامة المرورية، بعيدا عن التربية؟ فكان ينظر إليّ ويبتسم ولا يجيب.

لم أفهم فعلا سر هذا الانتقال، خاصة أن سلامة لا يبحث في الموضوع الجديد عن مورد مالي، ولا عن منصب، ولا عن شهرة، وهو موضوع بعيد عن كل اهتماماته السابقة. صحيح أن في الموضوعٍ تربيةٌ، بصورة برنامج الماجستير الذي وضعه وأشرف عليه وعلم فيه في الجامعة اليسوعية، أو بصورة التعبئة والتنشئة حول الموضوع لدى المواطنين. لكن الصحيح أيضا أن فيه شؤونا قانونية وقيادة مركبات وأمنا وإدارة عامة وغيرها، شؤونا لا تنتمي إلى مجال التربية.  

لم أعرف الجواب إلا بعد التأمل في نطاق نشاطه في المجتمع.

في المرحلة الكندية نراه منغمسا في شؤون الهيئة العلمية الكندية وأوضاعها المهنية والنقابية، ويضع مشاريع تتعلق بالترقية والتأمين الصحي والضمان الاجتماعي، ويؤسس الهيئة العربية الكندية في مونتريال. وفي مرحلة اليونسكو، نراه يوزع مساهماته بين خبراء ومعلمين وطلاب وأهالي، بما فيها ترؤس لجنة الأهل في الليسيه الفرنسية حيث كان أولاده يتعلمون. وكان يعطي اهتماما خاصا لدعم الفعاليات في التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية ويقدم مساهمات في النوادي والجمعيات والاتحادات حول المرأة والشباب. ويشارك في تأسيس الجمعية اللبنانية لعلم النفس.

وفي المرحلة الثالثة أسس رابطة الإنماء المستدام في كفردبيان، 2011، وتبرع لبناء ثانويّة كفردبيان الرسمية، وتولى كلفة نقل تلامذة ثانويّة كفردبيان الرسميّة، منذ 2011، وأنشأ جائزة فريد سلامه السنويّة للتميّز المدرسي في العام 2010.

قبل ذلك كله، أي قبل أن يغادر إلى كندا، كان أحد مؤسّسي رابطة خرّيجي مدرسة مار يوحنا – الخنشارة، في العام 1969، وأحد مؤسّسي نادي النجوم الرياضي في حارة صخر، 1966، وأحد مؤسّسي الجمعيّة الخيريّة للمصابين بعاهات دائمة في أيديهم وأقدامهم، ومؤسّس نادي التضامن الثقافي الاجتماعي في كفردبيان، في العام 1963.

هو رجل ملتزم مجتمعيا. كان كذلك منذ شبابه.

هذا هو الجواب، الذي امتنع عن قوله لأن مثل هذا الالتزام لا يصح فيه الإشهار وكأنه عضو في حزب أو في جماعة. هي نزعة في النفس أن يكون المرء مفيدا في مجتمعه. أكان في كفردبيان أو في لبنان أو في الدول العربية او في كندا. لذلك يجب قراءة الكثير من كتاباته على هذه النحو أيضا، أي من باب الالتزام المجتمعي.

أيها السيدات والسادة

عندما يعرف الواحد منا، أنه كلما ذهب إلى نشاط يتعلق بالحفاظ على المساحات العامة سوف يجد دنيا، ابنته، هناك، في الطليعة. وعندما يعرف أنها من أجل إعداد رسالتها في الماجستير اختارت بملء أرادتها أن تأتي من كندا وتقيم مع الفقراء واللاجئين في مخيم نهر البارد مدة سبعة أشهر بين تشرين الأول 2013 ونيسان 2014، في فترة لم يكن الأمن في تلك المنطقة مشجعا،

وعندما يعرف أن ريتا معلوف، زوجته، تعمل في مكتبها في شمعة كأنها في بيتها، وتتابع العمل في بيتها كأنها في مكتبها، وأنها دائمة الحركة، تسير بخطى سريعة وثابتة وكأن كل صغيرة وكبيرة تستحق القدر نفسه من الاهتمام والجدية والمسؤولية،

وعندما تتعرف إلى فريد ونايا، وتجد أن أي ميزة فيهما يمكن أن تنسب إلى أي من الوالدين،

عندما تضع كل قطع البازل تكتمل الصورة.

 ليست السلامة المرورية سوى تعبير إضافي عن عالم رمزي سلامة الملتزم فكريا واجتماعيا ومهنيا وأخلاقيا.

اعتز بك دوما يا صديقي المتدفق خيرا في هذا العالم.

__________________________________________

كلمة الدكتور رمزي سلامه

في حفل التكريم الذي خصّته به الحركة الثقافيّة في انطلياس

الخميس، 7 آذار 2019

أيّها الزملاء، أيّها الأصدقاء، أيّها الحفل الكريم، أسعدتم مساءً.

دعوني أولًا أرحّبُ بكم جميعًا فردًا فردًا واسمحوا لي أن أخصّ بالترحيب أصحاب السعادة ....

* * *

سألني أحدهم قال: عمّا ستتكلّم في مداخلتك يوم تكريمك في الحركة الثقافيّة في انطلياس؟ لا شكّ بأنّ صديقك عدنان سيُوفيكَ ما تستحقُّ كعلَمٍ من أعلام التربية والتعليم العالي في لبنان والمنطقة العربيّة. لكنّنا نعرف أنّه لم يرُق لعدنان انعطافُك نحو السلامة المروريّة في السنين الأخيرة. لذلك، لا أظنّ أنّه سيوفيك ما تستحقّ في هذا المجال. وقلَّ من يعرفون أنّ الكثيرين يعتبرونك (Monsieur Sécurité Routière)، أحد أبطال السلامة المروريّة الأساسيّين في لبنان. أستُعوّض عن ذلك في مداخلتك أم أنّ لديك أشياء أخرى تقولها؟ قلت: ألن تشارك في اللقاء الأمسيّة؟ قال: بالطبع بلى. قلت: إفتح أذنيك آنذاك فتسمع ما سأدلي به.

لكن، كما سمعتم، لقد كفّى ووفّى الزميل عدنان والأصدقاء الكرام نقدًا وإطراءً. ولم يخفَ عليهم إلا القليل ممّا هو معروف عنّي أو مذكور في سيرتي الذاتيّة، حتى في ما يخصّ السلامة المروريّة. فأشكركم جميعًا على كلّ ما عبّرتم عنه، وقد وفّرتم عليّ العودة إلى هذه الأمور.

نظرًا ليقيني أنّ ذلك سيحدث، أردت أن تتطرّق كلمتي إلى عيّنة من بعض غير المعلوم. فإليكم إيّاها في حوالى الخمس عشرة دقيقة، تليها مفاجأة كلاميّة تستغرق حوالى الثماني دقائق آمل أن تنال إعجابكم. كما أرجو ألا تملّوا من كلامي.

* * *

"من أين لي، أنا المعروف بحيائي الشديد، الجرأةُ لأقف اليوم أمامكم لأعبّر لكم عن امتناني لحضوركم هذا اللقاء..."

كانت هذه أولى كلماتِ خطابٍ ألقيتُه في الجمع الذي أمّ منزلنا التراثي في كفردبيان للمشاركة في الوليمة التي أقامها والداي بمناسبة حصول ثلاثة منّا على شهادة السرتفيكا، ولم أكن قد تجاوزت العاشرة من العمر إلا بثلاثة أشهر. وقد انبرى عند ذاك شعراءُ القرية ينشدون العتابا والميجانا ويتبارَون في نظمِ أبيات الزجل لهذه المناسبة. وممّا قاله أحدُ هؤلاء، إميل حدّاد المتوفّى منذ شهر ونيّف، بيتَي الشعر الآتيَين الوحيدَين اللذين لا زلتُ أذكرُهما:

يا رمزي جيب الهمزة    وحطّا تحت الحاجب

بتصير الهمزة غمزة     وبتلبّي عند الواجب

وأنا عملتُ بنصيحته. فكم من المرّات في حَياتي أتيت بالهمزات ووضعتها تحت الحاجب في لبنان وأوروبا وكندا، قبلَ أن التقيَ شريكة حياتي الدائمة ريتا منذ ثلاثين سنة ونيّف، بعد أن كانت الهمزات قد نفِدَت من قواميسي كلّها. وما أكثرها!

وكان أبي، أحدُ روّاد التعليم الرسمي في لبنان في أوّل عهد الاستقلال، وصاحبُ فكرة عيد المعلّم، ومؤسّسُ ومديرُ المدرسة الرسميّة في جورة البلوط حيث ولدت، وفي كفردبيان حيث ترعرعت، في أعالي كسروان، عرينِ الإكليروس الماروني المعارض للمدارس الرسميّة، يأبى إلا أن أكتب خطابي بنفسي تحضيرًا لهذا اللقاء مع أهل القرية. ولمّا كانت فروضُ الإنشاءِ عندي في ذلك الوقت لا تتجاوز عادةً السبعةَ أسطر، لجأتُ بإيعاز من أمي إلى أختي الكبرى، مي، لتمدَّني بأفكارٍ يمكنُ أن أضمّنَها خطابي. (خلّي أختك تساعدك بدون ما تخبّروا بيّك). وكعادتها، وسنواتٍ قبل أن تعرف أيّ شيء عن ديالكتيّة سقراط وأن تمارس التعليم لأكثر من أربعين عامًا، استطاعت أختي بفضلِ التساؤلات التي طرحَتها عليّ أن تجعلني أستنبطُ أفكارًا عديدة ضمّنتُها في خطابي. ومن هذه التساؤلات: "ما بدّك تشكر بيّك اللي دايمًا بيحزّرك حزازير بالحساب والقواعد والإملاء والتاريخ والجغرافيا ودروس الأشياء؛ وهيك صرت شاطر بالمدرسة ونجحت بالسرتفيكا؟ ما بدّك تشكر المعلّمين اللي علّموك وخصوصي استاذ أسعد الحلو من الجنوب، إللي دارس فلسفة، واستاذ سالم طوط المسلم من القلمون، خرّيج دار المعلّمين؛ تيعرفوا أهل الضيعة إنّو المدرسة الرسميّة بتجيب أحسن الأساتذة من وين ما كانوا بلبنان؟ ألا تريد أن تقول أنّ النجاح في الشهادة الرسميّة أعطاك الشجاعة لتلقي خطابك؟ هل ستنسى أن تذكر الرعاية التي تحيطنا بها أمّنا في كلّ حين؟" إلى آخره. "وما تنسى بالآخر تقول: "عاش العلم! عاشت المدرسة الرسميّة! وعاش لبنان! تيزقفولك".

وكنت، كلّما بادرتني أختي بسؤال أدوّن الفكرة بتأنٍّ وأعيد صياغتها بمساعدتها، بحيث تخطّى خطابي السبعة أسطر المعهودة، من دون أن يتضمّن كلمات منمّقة لم أستسغها كان أحد أساتذتي يريدني أن أطعّم خطابي بها كما كان شائعًا في تلك الحقبة.

كانت هذه محطّتي الأولى مع الخطابات تعلّمت منها أنّك عندما تريد أن تلقي خطابًا أو تتكلّم في مجموعة، عليك أن تطرح على نفسك أسئلة تساعدك على تنظيم أفكارك، وعدم نسيان المهمّ منها، مع الاقتصاد في الكلام والتخلّي عن الحشو الذي لا فائدة منه. وهذا ما مارسته في ما بعد طيلة حياتي المهنيّة. كما تعلّمت من هذه المحطّة أن أكتب خطاباتي بنفسي وألا أقرأ خطابًا لم أصُغ كلماتِه كما يفعل عادةً المسؤولون الحكوميّون ومدراء المنظمات الدوليّة كالذين التقيتهم في مشواري المهني الطويل. بل بالعكس، أصبحت أكتب الخطابات لهؤلاء المسؤولين والمدراء ويتنعّمون بإلقائها.

* * *

محطّتي الثانية مع الخطابات كانت في الصف التكميلي الثالث. من أجل اكتشاف المواهب المكنونة عند التلامذة وتشجيعًا للإبداع، وبمبادرة من رئيس مدرسة مار يوحنا في الخنشارة للآباء الشويريّين، الأب فكتور حداد، أحد أوائل معرّبي "سلة الفاكهة" للشاعر الهندي رابندرانات طاغور، الحائز على جائزة نوبل للآداب في العام 1913،[1] وبدعم من معلّم اللغة الفرنسية الذي كان يدعى (Monsieur Jourdain) تمامًا مثل شخصيّة (Le bourgeois gentilhomme) من تأليف موليير، أسّسَت إدارة المدرسة، ناديًا مدرسيًّا سمّي "حديقة الورود" (La roseraie) كان يجمع تلامذة المدرسة في المرحلتين التكميليّة والثانويّة في يوم محدّد من الشهر المدرسي يتبارى فيه التلامذة على قول الشعر، أو قراءة قصّة قصيرة من تأليف التلميذ نفسه، أو التباري في الحساب والتاريخ والجغرافيا، أو التحضير لتمثيل مسرحيّة، وغير ذلك من الأنشطة الثقافيّة.

حاولت مرّة سلوك درب المتنبّي ونظمَ القوافي على منوال "عيد بأيّة حال عدت يا عيد" لأقدّم شيئًا من هذا القبيل في أحد لقاءات حديقة الورود. لكنّني لم أفلح في كتابة أيّ بيت جديد. فطويت الصفحة على مضض، على قناعة أنّ الشعر لا ينحت، بل عليه أن يأتي مع السجيّة ولا فائدة من المحاولة إذا لم تأتِ السجيّة. ولم تأتِ السجيّة صوبي إلا بعد وقت طويل كما ستكتشفون في ما بعد.

فاخترت عندذاك أن أقدّم قصّة من خيالي عنونتها "البنفسجة الطموح" مستلهمًا البنفسجات التي كنا نلتقطها في أواخر شهر آذار من كلّ سنة من إحدى حدائقنا في كفردبيان وكان والدي يجمعها في باقات صغيرة ويرسلها للبيع في سوق الإفرنج في بيروت. وكنا نحرص على الحفاظ على شتولها كي نقطف أزهارها مجدّدًا في كل سنة.

ففكّرت بهذه البنفسجات القابعات في الظلّ في أسفل حيطان الجلالي، واللواتي لا تبصرن النور إلا في بيوت الذوات في بيروت لمدّة لا تتجاوز الأسبوعين قبل أن تَذبُل وتُزبَل. وقلت في نفسي وفي القصة التي وضعتها أنّ لا بدّ من أن تحلم إحدى هذه البنفسجات بالانتقال من العتمة إلى النور وبالصعود إلى أعلى الهضبة التي يقوم عليها البستان. ولا شكّ بأنّ حيائي المفرط في تلك الحقبة جعلني أتماهى مع تلك البنفسجة القابعة في الظلّ.

فعرضت فكرتي على منظمي لقاءات "حديقة الورود"؛ فقوبلت بالترحيب. وبينما كنت أقرأ في اليوم المقرّر وصف المعاناة الشديدة والآلام المبرِّحة التي كانت هذه البنفسجة تمرّ بها للصعود من جلّ إلى جلّ، كان الأب رئيس المدرسة يضحك بملء فمه لهذا الخيال السيريالي. وانتهى الأمر بتلك البنفسجة أن وصلت إلى أعلى القمّة؛ لكن أصابها ما أصاب إيكار في الميثولوجيا الإغريقيّة.

وليس إلا بعد سنين أن علمت أنّ جبران وضع قصّة مماثلة مع النهاية نفسها - وكانت كتابات جبران في ذلك الحين غير متاحة في المدرسة بل على اللائحة السوداء. كما علمت أنّ الإغريق حكموا بالموت على إيكار وعلى أمثاله ممّن يجرؤون التقرّب من الشمس. وعندما بدأت دراسة علم النفس في الجامعة اللبنانيّة أظهرت اهتمامًا خاصًّا بما دعا إليه الطبيب النفساني السويسري كارل يونغ، المنشقّ عن فرويد، لدراسة التصوّرات المخزّنة في اللاوعي البشري (Les archétypes) والتي غالبًا ما لا تظهر إلا في الأحلام وفي التصوّرات الخياليّة. فكّروا أنّ إبن ثلاث عشرة سنة يستعيد من الوجدان البشري الجماعي أسطورة إيكار ولم يكن قد سمع بها من قبل. ولا شكّ بأنّ الضغوط المدرسيّة التي كانت تمارس عليّ من أجل بلوغ أعلى مستويات الأداء، بينما كان رفاقي أكبر منّي بسنوات ولا تمارس عليهم مثلُ هذه الضغوط، ساهمت بتخيّل المعاناة الشديدة المصاحبة للارتقاء بالأداء، وأدّت إلى النهاية الحزينة التي أصابت تلك البنفسجة. وكأنّي كنت أقول لأولئك الذين يمارسون الضغوط عليّ: دعوني وشأني، وكُفّوا عن مضايقتي، فإنّكم ستلقَون بي إلى التهلُكة.

أمّا مساهمتي في حديقة الورود في السنة التالية فكانت مناحةً لأهالي أغادير في المغرب التي دمّرها زلزال هائل، وفتح عيناي على التضامن الإنساني وعلى البعد العربي لانتماءاتي المتعدّدة.

* * *

محطّتي الثالثة مع الخطابة كانت حوالى بلوغي الثامنة عشرة من العمر. كنت وقتذاك طالبًا في دار المعلّمين والمعلّمات في بئر حسن. وكنت أتنقّل بوسائل النقل الجماعي بين حيثما كانت عائلتي تسكن في زوق مكايل ودار المعلّمين في بير حسن في بيروت.

ذات يوم، بينما كنت أنتظر السرفيس على ساحة البرج بادرني شخص مقطوع الذراع بالقول: إسمي ميشال؛ بشتغل بالأسورنس؛ مكتبي عالصيفي قريب من هون. بشوفك من مدّة بهالمنطقة. شو بتعمل؟ قلتلّو: أنا طالب بدار المعلّمين. قال: بشوفك بتعرج؛ عندك عطل دايم بإجريك؟ قلتلّلو: إيه. قال: عم نأسس جمعيّة تجمع إللي عندون عاهات دايمة بإيديهن وإجريهن. بدّك تجي معنا؟ قلت: بس أنا بعد ما صار عمري تمانتعشر سنة تكون بالجمعيّة. قال: معليش. بدنا ناس متلك معلَّمين. أغلب اللي معنا هلّق بالكاد معون سرتيفيكا. وعايزينك تساعدنا تنأسّس الجمعيّة.

وهكذا تجمّعنا، مسيحيّين عربًا وأرمن ومسلمين ودروز، من دون أن ننظر كليًّا إلى هذه الانتماءات، وأسّسنا جمعيّة أسميناها، كما كانت اللغة شائعة في تلك الحقبة: "الجمعيّة الخيريّة للمصابين بعاهات دائمة بأيديهم وأقدامهم" كان مقرّها في البناية المركزية خلف بناية العازريّة في بيروت. وكانت عرّابة الجمعيّة التي دعمتها ومنحتها رعايتها السيدة أليس حلو، زوجة أخ رئيس الجمهوريّة آنذاك، شارل حلو. كما أنّ الجمعيّة حظيت بترحيب من سعيد عقل، ورشدي المعلوف، ووجدي الملاط، وزير الشؤون الاجتماعيّة آنذاك، وإميل سلهب، من حزب الكتلة الوطنيّة، وعباس خلف، من الحزب التقدّمي الاشتراكي، وجوزف الهاشم، من حزب الكتائب اللبنانيّة، وغيرهم. كما حصلت على تجاوب سخيّ من الفنانين نصري شمس الدين، وعبّود عبد العال، ونور الهدى، وفريال كريم، ومحمد جمال، وغيرهم كثر، الذين أحيوا من دون مقابل حفلات عديدة كان ريعها يعود للجمعيّة. وكانت هذه الجمعيّة السبّاقة في الدفاع عن حقوق المعوّقين في لبنان.

وممّا قاله سعيد عقل في إحدى المناسبات: "كلّ واحد منّا معاق إن قيس بشكسبير أو أنشتاين أو على الأخص بأرثور كلارك" (مؤلّف (2001: L’Odyssée de l’espace) التي أخرجها ستانلي كوبريك بعد سنوات قليلة في فيلم شهير). ويتابع سعيد عقل قائلًا: "لكنّ المجتمع لا يقولها إلا على الذين تبلغ إعاقتهم ما يخفضهم عن مستوى أداء آخر إنسان سوي. القرن العشرون ارتفع إلى الشعور بأنّ التخلّي عن المعاقين إثم. يفرحني هذا الوعي الجديد في بلادي؛ إنّه موصلنا يومًا إلى الاهتمام بالمعاقين الذين مثلي ومثلِك"، يعني بهم الأصحّاء.

وكانت مناسبة إلقاء خطابي الأوّل باللغة الفرنسيّة إقامة الجمعيّة حفلة خيريّة في القاعة الكبرى في كازينو لبنان برعاية فخامة رئيس الجمهوريّة. وكان المطرب الرئيسي الذي أحياها كاهن فرنسي يدعى الأب ديدييه. ولمّا لم يكن أحد من اللجنة الإداريّة للجمعيّة يتقن الفرنسيّة، وقع الخيار عليّ لإجراء مقابلة تلفزيونيّة على القنال 9 باللغة الفرنسيّة ولإلقاء كلمة الجمعيّة في الحفلة بالكازينو.

فانكبيّت على كتابة الخطاب يساعدني في ذلك أستاذي السابق الكولونيل أسعد الحلو، مسؤول العلاقات مع الانتربول في المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي. ولمّا كانت الحفلة برعاية رئيس الجمهوريّة حرصت السيدة أليس الحلو، الرئيسة الفخريّة للجمعيّة، على أن تطّلع على الخطاب قبل موعد إلقائه. ورغمًا من اجتهادي في استقاء حكم وأقوال من فلاسفة فرنسيّين في موضوع الإعاقات ومسؤولية المجتمع تجاه المعوّقين، وأنّنا لا نطلب الشفقة كما كان شائعًا في تلك الحقبة بل الاحترام والعيش بكرامة، وجدت نفسي أمام سيّدة عالية الثقافة تريد أن يكون الخطاب من دون أيّة شائبة. وهكذا بدأتُ مشاوير مكّوكيّة بين بئر حسن وزوق مكايل مرورًا بالأشرفية، حيث كانت السيدة أليس حلو تسكن، أدّت إلى صقل خطاب متين نال رضى الرئيسة وإعجاب السامعين.

وهكذا، تعلّمت أنّه بعكس الشعر، لا تكتب الخطابات والمقالات الهادفة بناء على السجيّة بل تنحت نحتًا ويتمّ تمحيص كلّ لفظة تستخدم في الكتابة.

وقد بلغ بي التشدّدُ على ملاءمة الألفاظ المستخدمة للغرض المقصود من الكتابة، والحرصُ على سلامة اللغة عتبةً قريبةً من الاستحواذ القهري لا يفارقني إلى اليوم. فيعرف جميع من عملوا معي أنّني شديدُ التدقيق (méticuleux) ولا يفوتُني أيُّ تفصيل ولا أيّة شائبة، أو، كما يقال، أيّ شاردة أو واردة.

أمّا بعد ذلك، فالسيرة الذاتيّة لا تبخل بالتفاصيل حول الكتاباتِ التي نشرت لي والخطاباتِ التي ألقيتها وقد بلغت في بعض السنين حوالى إثنتين في كلِّ شهرٍ من السنة.

والآن، بعيدًا من جديّة علم النفس، والعلوم التربويّة، والتعليم العالي، وتعليم ذوي الاحتياجات الخاصّة، والسياسات الشبابيّة، وقوانين الثقافة، والسلامة المروريّة، وغيرِ ذلك ممّا كتبتُه أو حاضرتُ فيه، وعن خدمة المجتمع التي مارستها ولا أزال، ننتقل إلى نوع آخر من الكلام لا تعرفونه عنّي.

(الانتقال إلى الصفحات المكمّلة)

 

(بعد الانتهاء من الصفحات المكمّلة، العودة إلى الخاتمة الآتية)

 

بالختام، يطيب لي اليوم، وقد تغلّبت على حيائي المفرط منذ زمن، أن أقف أمامكم لأعبّر لكم عن امتناني لحضوركم هذا اللقاء ولأعبّر للقيّمين على الحركة الثقافيّة في انطلياس عن تقديري العميق للّفتة الكريمة التي أحاطوني بها وسروري لمثابرتهم على إحياء الثقافة في هذا البلد الذي يفتقد إلى ثقافات نوعيّة متعدّدة. ودعائي أن تستمرّ الحركة في حمل المشعل الذي يضيء بعض زوايا ظلماتنا.

وعسى أن تكونوا قد استمتعتم بما سمعتم ولم تملّوا. وأنهي تقريبًا كما أنهيت خطابي الأوّل منذ ستّين عامًا ونيّف: "عاش العلم! عاشت الثقافة! وعاش لبنان!"

 

* * * * *

 


[1]هناك ترجمات أخرى لسلّة الفاكهة أو جنى الثمار للأب يوحنا قمير، والدكتور أنيس مسلّم، والدكتور جوزيف الياس، وبديع حقّي، والدكتور يوسف عيد.