نــدوة حول كتاب د. شفيق المصري
لبنان والشرعية الدولية
القضية اللبنانية أمام المحافل الدولية وفي ضوء القانون الدولي
في هذا الجو من الصخب السياسي الذي يهيمن على حياتنا الوطنية ، يشتبك أطراف الداخل مع بعضهم البعض، في ظل الإشتباك الأوسع بين قوى أقليمية ودولية ، في ، وحول ، تلك البقعة الممتدة من « الخليج الى المتوسط ومن بحر عُمان الى البحر الأسود ، والتي تشكل ، في المفهوم الإستراتيجي الأميركي ، بعد الحرب الباردة ، وحدة أمنية - سياسية - أقتصادية متكاملة ».
جفرافياً ، يشكل لبنان أحد مداخل هذه البقعة ، المشرع الأبواب في كل الإتجاهات ، مما يغري قوى الخارج بالتدخل الذي يتمفصل على الأزمة أو ألأزمات الداخلية ليؤججها ويحولها الى ورقة في جعبة اللاعبين الكبار .
وعلى وقع هذه الأزمات ، تتوالى القرارات الدولية ، من مجلس الأمن عادة ، وأحياناً من الجمعية العمومية ، نظرياً لإيجاد حل ، وعملياً لتحديد أطر الصراع ، وتحديد الأهداف التي يقتضي بلوغها من خلال آليات يلحظها القرار أحياناً أو يتركها للفرقاء المعنيين أحياناً أخرى ، مع التذكير والتأكيد دائماً بالمبادئ الثابتة للقانون الدولي .
وبعد صدورها ، تتحول القرارات الدولية أداة جديدة للصراع ومادة له . فيرى البعض فيها تدخلاً من الأمم المتحدة في الشؤون اللبنانية الداخلية أو مساساً بمبدأ السيادة الوطنية ، أو وسيلة سياسية تستغلها القوى الكبرى لفرض هيمنتها ، أو ممارسة ضغوط لتغيير أو تبديل سياسة دول أخرى الخ ...
وتتراشق اطراف الداخل والخارج بها ، وبتهمة مخالفتها أو التملص من احكامها أو الحؤول دون تنفيذها . وترشقها بعض أطراف الداخل بالنعوت التي تنفرد بها لغة التخاطب السياسي الهابطة عند بعض اللبنانيين ، و يتبدى ان هناك الكثير من الإلتباس في العلاقة بين السياسة والقانون ، وقصوراً في فهم معظم مبادئ ومفاهيم وآليات القانون الدولي ، مما ينعكس تعميقاً للخلاف في السياسة الراهنة على صعيد الداخل ، وتردداً أوضعفاً في الدفاع عن القضايا والمسائل الوطنية أمام المحافل الدولية السياسية والقضائية.
في هذه الأجواء الضبابية الخانقة ، صدر للدكتور شفيق المصري كتاب « لبنان والشرعية الدولية » وعنوانه الفرعي « القضية اللبنانية في المحافل الدولية وفي ضوء القانون الدولي » وهو موضوع ندوتنا الليلة ، جامعاً القضايا المطروحة في هذا الإطار والتي تؤرق اللبنانيين من ناحية وتؤجج خلافاتهم من ناحية ثانية ، ومعالجاً لهذه المسائل بعمق ، وموضوعية ، ووضوح ، وبدقة الباحث والعالم المتمكن ، ذي الؤهلات الأكاديمية الصلبة ، والخبرة المديدة ، كأستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية ، في عدة جامعات ، وصاحب الإسهامات الفكرية المتعددة في مجال اختصاصه.
يتصدى الدكتور المصري للقضايا التي يعالجها بمقاربة قانونية بحتة ، مجردة من الأهواء أو الخيارات السياسية ، ولا يخالطها بالتاريخ أو سواه من العلوم الا بالمقدار الضروري لإيضاح القاعدة القانونية ، فتنجلي طبيعة القرارات المتعلقة بلبنان وقوتها الالزامية ، وتظهر الى العلن بعض الجوانب المغفلة منها ، أو بالأحرى التي أغفلها أو يغفلها ، أو ربما يتجاهلها البعض ، وهي ذات أهمية بالغة لوحدة لبنان وسيادته واستقلاله . وسوف نشير بلمحة سريعة الى بعضها.
وفقاً للدكتور المصري (ص 99) « يستطيع لبنان ان يجاهر ، واثقاً ، ان الأمم المتحدة سعت ، منذ تشكيلها في العام 1945 حتى الساعة الى رعايته واحترام حقوقه وتأكيد استقلاله السياسي ووحدته الإقليمية ».
هذه المواكبة من الأمم المتحدة التي تدعو الى بعض الإطمئنان ، تثير أيضاً القلق من ان هذا الوطن مازال يعبر بحر العواصف ، ويستدعي بإستمرار ما قررته الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ 9/12/1994 حول « حماية وسلامة الدول الصغيرة ».
فور انتزاع لبنان لإستقلاله الناجز ، وبعد ان تعرض للزلزال الضخم الناجم عن نشوء دولة اسرائيل والاستيلاء على فلسطين ، والاعتداء على حدوده الجنوبية ، وارتكاب المجازر بحق مواطنيه ، وخاصة مجزرة حولا . تمّ توقيع اتفاقية الهدنة بين لبنان واسرائيل. من المميزات الأساسية ، لهذه الإتفاقية ، وغير المتداولة في الوسط السياسي والإعلامي ، أنها تمّت بالإستناد الى قرارين دوليين متخذين تحت الفصل السابع (القراران رقم 54/48 و 62/48) وتمّت المصادقة عليها بموجب قرار (رقم 73/49) أتخذ أيضاً تحت الفصل السابع. أي انها ذاتية الإلزام ، على الجميع ان يتقيدوا بأحكامها ، فهي دائمة ولا يجوز تخطيها.
وتضمنت اعترافاً من إسرائيل بحدود لبنان الدولية ، دون أن تلحظ موجباً مماثلاً على عاتق لبنان تجاه اسرائيل . وهذا ما يفسر محاولة اسرائيل المتكررة ، ولكن دون جدوى ، بالتخلص منها ، فهي تعتبرها عبئاً غير مرغوب فيه. ويوصي الدكتور المصري ، عن حق وبإصرار ، بأن يرفض لبنان كل تعديل لهذه الاتفاقية . فإذا كان هناك من ثغر بسبب مرور الوقت وتغيير الأوضاع ، فأن ما ورد بالقرار 1701 كفيل بسد هذه الثغرات.
قضية التوطين ، التي تشغل الرأي العام ، ويتداولها السياسيون كخطر أو كتهمة يوجهها فريق الى فريق آخر، يؤكد الدكتور المصري جازماً ، وبوضوح تام ، انها ، ووفقاً لما أقره القانون الدولي ، تدخل في « النطاق المحفوظ» Reserved Domain ، لصلاحيات الدولة الداخلية . فقوانين الهجرة والجنسية والتجنيس تبقى محفوظة للدولة وهي غير مقيدة بأي قيد من القانون الدولي. فلا تستطيع الأمم المتحدة ، مجلس الأمن أو الجمعية العمومية ، ان تفرض على لبنان التوطين . كما أن رفض التوطين أصبح نصاً دستورياً ، فلا يمكن تحقيقه بقرار من الحكومة ، أو بقانون من مجلس النواب ، بل يستوجب تعديلاً دستورياً،
أما الجرائم التي أرتكبتها اسرائيل في لبنان ، تجد ، في كتاب الدكتور المصري ، توصيفاً قانونياً دقيقاً ، وهي لا تقتصر على الجرائم الأخيرة ، قانا 1996 و قانا 2006 ، وتدمير البنى التحتية وغيرها من جرائم الإعتداء ، والحرب ، والإبادة ، وإرهاب الدولة ... بل تتناول أيضاً ، جرائم سنة 1948 كمجزرة حولا ، والإعتداء على مطار بيروت الدولي (1968) ، ومجزرة صبرا وشاتيلا (1982) ،وهي جرائم لا تسقط بمرور الزمن ، كما يتطرق الى مسؤولية الدولة التي ارتكبت هذه الجرائم ، والتي مازالت مقتصرة ، حتى الآن ، على مسؤولية التعويض عن الأضرار والإعتذار العلني ، كما يستعرض المراجع الدولية ، القضائية والسياسية ، التي يمكن رفع هذه القضايا اليها.
وبخصوص المحكمة ذات الطابع الدولي ، يلقي الدكتور المصري الضوء على تطور القانون الجنائي الدولي بعد الحرب العالمية الثانية ، وكذلك التجارب لإنشاء قضاء ومحاكم دولية ، بحيث تشكل المحكمة المتعلقة بمحاكمة جريمة اغتيال الرئيس الحريري ، مثالاً غير مسبوق في القانون الدولي ، لناحية وصف جريمة الإرهاب بأنها تشكل « تهديداً للسلام والأمن الدوليين » ، ولناحية اقرار آلية عملانية لملاحقة هذه الجريمة من جمع المعلومات (لجنة فيتزجيرالد) ، الى التحقيق الدولي ، ومن ثم المحكمة .
وأشير بهذه المناسبة أيضاً الى كتاب قانوني قيم ، صدر حديثاً في لبنان ، باللغة الفرنسية بخصوص القانون الجنائي الدولي وانعكاسه وتداخله مع القانون الجنائي اللبناني ، للقاضي السيدة ماري - دنيز المعوشي طربيه رئيسة محكمة الإستئناف في جبل لبنان - المتن بعنوان : L'internationalisation du Droit Pénal .
وفــي الختـــام،
أعيد ما كتبه الدكتور المصري بخصوص القرار 1701 من ان هذا القرار قد أسهم في ارساء قاعدتين أساسيتين في بناء لبنان : اتفاقية الهدنة واتفاق الطائف ، وأقرّ الالية العملانية العسكرية لضمان الإستقلال والسيادة من خلال تعزيز اليونيفيل ، ويلتقي مع القرار 1757/30/5/2007 ، الذي أقرّ المحكمة الدولية ، ووفر الإلزامية القانونية الذاتية والشاملة لهذا الأمر.
حضرة البروفسور شفيق المصري،
أيها الحضور الكريم،
اسمحوا لي أولاً أن أتوجّه بالشكر للبروفسور المصري للفتته الأكاديمية الحميمة عندما شرفني وطلب مني أن أتكلّم مع ذوي الخبرة الجامعيّة والعلميّة على مؤلَفِهِ الجديد، المولود العلمي الآتي حديثاً الى عالمنا اللبناني المدوَّل.
يندرج هذا البحث الموثق في سياق الأبحاث العلميّة الكتابية السابقة للبروفسور المصري، أكانت هذه الأبحاث نشرت في الكتب أم في مقالاته العلمية في كتبٍ أخرى، أم في مجلاّت متخصصة، لبنانية وعالمية.
لماذا التذكير بهذا الإطار؟
أولاً، للتأكيد على ان المؤلَف الجديد "لبنان والشرعية الدولية" يُشكل بنظرنا مدخلاً محورياً وأساساً في فهم الأحداث والوقائع القانونية الدولية الجديدة في ما يخص المسألة اللبنانية. طبعاً، كل فصل من الفصول السبعة من الكتاب يستأهل مؤلفاً خاصاً به مثلاً: مزارع شبعا، اتفاقية الهدنة، شرعية المقاومة، المحكمة الخاصة بلبنان، القرار 1701، الخ. بيد أننا نرى انه بات لكل باحث في هذه المسائل أن يستند من الآن وصاعداً على مقاربة الدكتور المصري لمجمل هذه المسائل وينطلق منها لتطوير فكره والتعليق على التدابير والإجراءات الدولية.
ثانياً، تجدر الإشارة إلى أنّ قلة من خبراء القانون الدولي قاربوا المواضيع الحالية للمسألة اللبنانية والشرق أوسطية في ضوء تطور دور مجلس الأمن الدولي. فمنذ حرب الخليج الأولى ومنذ أحداث 11 أيلول 2001، دخلت المقاربات السياسية والدولية لمجلس الأمن والخاصة بمنطقة الشرق الأوسط في جيل جديد ودور مركزي لمجلس الأمن في كل الأوضاع التي من شأنها، مباشرة أو غير مباشرة، أن تهدّد السلم والأمن الدَوليين.
فهذا الدور المحوري لمجلس الأمن نستنتجه من القراءة النقدية لكتاب البروفسور المصري ويرتكز على فكرتين أساسيتين:
- من جهة، ان التدابير والإجراءات المعتمدة من قبل مجلس الأمن لها دور في إعادة بناء الدولة المعنية، وعنينا بذلك الدولة اللبنانية، على غرار دور مجلس الأمن في مناطق حارة كأفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية. هذا الدور في إعادة إرساء الأسس العامة للدولة، ألا وهي السيادة والاستقلال وحصرية السلاح، إنما هي تظلل القرارات الخاصة بمجلس الأمن منذ 2004 في الحالة اللبنانية ومنذ العام 2000 في أوروبا الشرقية وأفريقيا. بمعنى آخر، ان التحركات والأدوار التي تلعبها المنظمات الإقليمية والديبلوماسية الحكومية في عملية حفظ السلم والأمن المحليين والدَوليين، إنما تشكّل امتداداً لتدابير سابقة معتمدة لدى مجلس الأمن، أم إنها تمهد لإجراءات ينوي المجلس اتخاذها لاحقاً.
في كل الأحوال، مركزية ومحورية الدور الذي بات يلعبه مجلس الأمن ضمن الجيل الجديد لقراراته منذ التسعينات تؤكّد أن لا بديل عن اضطلاعه الوثيق والحصري في عملية حفظ أو نشر أو فرض السلم والأمن الدَوليين.
- من جهة أخرى، ان السلطة الاستنسابية الخاصة بمجلس الأمن من ناحية توصيف الحالات كتهديد للسلم والامن الدوليين والتي على أساسها يبني قراراته وتدابيره، (هذه السلطة) تطورت بشكل ملحوظ منذ العام 1999 (القرار 1269) وبخاصة بعد أحداث 11 أيلول 2001 وباتت الجرائم الإرهابية تشكل، بحسب مجلس الأمن ووفقاً للقرار 1368، تهديداً للسلم والأمن الدوليين. وبالتالي يسلّم المجلس بالحق الأصيل الفردي أو الجماعي للدول المهددة وعرضة للإرهاب باستعمال القوة للدفاع المشروع بناءً على المادة 51 من شرعة الأمم المتحدة ووفقاً للقرارين 1368 و 1373، دون أن ننسى أن المجلس قد التزم أن يكافح "بكل الوسائل" التهديدات التي يتعرض لها السلم والأمن الدَوليان نتيجة للأعمال الإرهابية.
فهذه المرونة في توصيف الحالات والتي طاولت الحالة اللبنانية كما أشار إليها البروفسور المصري في تحليله القرار 1701 والقرار 1757 الخاص بإقرار المحكمة ذات الطابع الدولي، (هذه المرونة) تتيح لمجلس الأمن وضع اليد من دون منازع ومنافس على الحالات موضوع التوصيف وبالتالي اختيار التدابير اللازمة وفقاً للإرادة السياسية الخاصة بالدول الخمس الدائمة العضوية، وفقاً لمصالحها المشتركة ورؤيتها الاستراتيجية للأوضاع والحالات الراهنة.
أخيراً وللتذكير، نستنتج من كتاب البروفسور المصري، أنه بالرغم من هيمنة الأبعاد السياسية في آلية اعتماد القرارات الدولية وفي مضمونها، إلا أنها، عند تبنيها من قبل مجلس الأمن، تصبح هذه القرارات ملزِمة لجميع الدول الأعضاء بناء على المادة 25 من الشرعة ولجميع الدول إذا ما كانت مبنية على الفصل السابع. فهذه القرارات تدخل عند اعتمادها منظومة القوانين الدولية وتصبح نافذة عموماً وخصوصاً. أما المزايدات السياسية والرهانات على عدم شرعية هذه القرارات أو عدم حجيتها (inopposabilité)، إنما هي مواقف سياسية بعيدة عن المعايير والمبادئ القانونية الدولية، إذاً بلا قيمة حقوقية. وهذا ما يذكرنا به البروفسور المصري في مؤلَفِه الجديد.
في الختام، هنيئاً للحقوقيين والقانونيين بمولود جديد في مكتباتهم "لبنان والشرعية الدولية" يمثّل مدخلاً أساسياً وواضحاً لفهم ومقاربة الحالة في لبنان من الجهة القانونية الدولية، وشكراً أيضاً وأيضاً للبروفسور شفيق المصري لجهوده العلمية التي سمحت بوضع هذا المرجع القانوني الجديد.
وأخيرًا أشكركم جميعاً لإصغائكم وانتباهكم.
السلطة بطبيعتها جموح وميل إلى التفلت من القيود والحدود. وقد تتمثل هذه الحدود بسلطة أقوى، منافسة أو مضادة وقد تتمثل بسلطة القانون بوصفه يعبر عن إرادة المجتمع بتنظيم نفسه في إطار دولة فيأتي القانون ليحدد واجبات المواطن وحقوقه وليضع قواعد السلوك داخل المجتمع في إطار السلوك الفردي والجماعي، والعلاقات بين الأفراد والجماعات، فتكون السيادة للقانون، أي للقواعد العامة التي تنظم حياة المجتمع السياسي. والقانون هو أرقى ما توصلت إليه حضارة البشر ومنه تستمد مختلف الهيئات والمؤسسات، وجودها ومصدر سلطتها وإليه تستند في شرعيتها.
إعتبر البعض أن العمل الدؤوب والمنتظم لوضع قانون دولي وتقنيته وإقناع الدول بالإلتزام به هو بمثابة مهمة مستحيلة. ولكن الأحداث برهنت أن الشعوب التي فجعت بالحروب والتصرفات العاطفية الهوجاء التي تصدر عن الدول تريد أن تضع حداً لها وذلك من خلال الارتباط بالمواثيق والمعاهدات الدولية والتعاون على حفظ الأمن والعيش في ظل سلام دائم.
لذلك بات التعرف إلى القانون الدولي ومبادئه المتجددة أمراً ضرورياً ولا بد منه لكل باحث وطالب وأستاذ ومحام وقاض ليكون مُلِماً بمبادئ وقواعد هذا القانون التي تواكب مسيرة الحياة ومشاكلها فتسمح بإيجاد الحلول التي تتلاءم مع مقتضيات الشعوب والدول والعلاقات الدولية.
ويأتي كتاب الدكتور شفيق المصري، هذا الأستاذ والباحث الجامعي المجتهد ليقدم للمكتبة الحقوقية في لبنان ولكل باحث مرجعاً جديداً في القانون الدولي تحت عنوان "لبنان والشرعية الدولية" ليغطى نقصاً كبيراً في هذا الميدان خاصة وأن لبنان يعيش في خضم التجاذبات السياسية التي أدت إلى إختلاط "التحليل بالتجهيل والتضليل بالنسبة لقضايا مصيرية" مما يقود المجتمع الوطني إلى كوارث تتمثل إما بالفتن والحروب أو تقود إلى تسوية عرجاء تمنع كما يقول المؤلف "الحساب والعقاب وترفع المسؤولية وتبعد النقد الذاتي" المنطلق الأساسي لأية عملية إصلاح وبناء لدولة القانون. وهنا لا بد من التذكير أن الاستقرار السياسي والأمني والإقتصادي والإجتماعي رهن مدى التزامنا بالقانون.
اعتمد المؤلف أسلوباً علمياً ومنهجياً ملفت وبلغة واضحة وبسيطة.
وقد خصص الكاتب فصلاً لكل من القضايا التالية:
1- قضية مزارع شبعا والأراضي المحيطة بها.
2- إتفاقية الهدنة لسنة 1949.
3- المقاومة ورفض التوطين.
4- قانا 1996 - قانا 2006.
5- القرارات الدولية الضامنة لحقوق الدولة اللبنانية.
6- المحكمة ذات الطابع الدولي.
7- شكوى لبنان ضد إسرائيل أمام من؟
عند قراءة هذا الكتاب، من الملفت وجود ترابط وثيق بين كل من هذه القضايا من حيث الوقائع إلى حد ما ولكن خاصة من حيث القانون وذلك من خلال الأحداث التي جرت على الأراضي اللبنانية والقرارات الدولية التي صدرت بشأنها.
يتعرض المؤلف في الفصل الأول لقضية الأراضي اللبنانية التي لا تزال تحت الإحتلال: مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وغيرها من الأراضي المحيطة بها إنطلاقاً من ضوابط قانونية دولية تتعلق بحدود إقليم الدولة، وفي هذا الإطار يفند الوسائل السلمية لحل النزاعات الحدودية ووسائل الإثبات المعتمدة في القانون الدولي في هذا المجال. وهنا يركز المؤلف على أهمية النقاط المرتبطة بإثبات هوية هذه المزارع والأراضي المحيطة بها، نذكر منها:
1- أهمية اللجوء إلى إستفتاء السكان أنفسهم في إطار تطبيق حق تقرير المصير للشعب أو إلى سجلات أحوالهم الشخصية أو أملاكهم أو حقوقهم السياسية.
2- أهمية الإعلان الرسمي الوحيد الطرف الصادر والمعلن عن مسؤول في دولة ما والذي يرتب إلتزاماً قانونياً تجاه الدول الأخرى لأنه يرتكز على مبدأ عام للقانون الدولي: مبدأ حسن النية والتعاون. وفي هذا السياق يذكر المؤلف بالتصريحات الرسمية السورية التي أكدت مراراً على الهوية اللبنانية لمزارع شبعا.
3- إجتهادات محكمة العدل الدولية التي ساهمت بترسيخ القاعدة القانونية التقليدية المتعلقة بصيغة "كما تملك سوف تبقى مالكاً" ويخلص المؤلف إلى الإستنتاجات التالية:
أولاً: كانت حدود لبنان وفلسطين واضحة قانوناً منذ سنة 1923 (في زمن الانتداب) ولا تزال رغم غياب أي ترسيم لها لأن الدولة اللبنانية كانت تمارس سيادتها عليها حصرياً ناهيك عن التأكيد على ذلك في دستور لبنان الأول لسنة 1926.
ثانياً: أهمية إتفاق الهدنة لسنة 1949 الذي يتمتع بقيمة قانونية دولية ملزمة لجميع الدول - ومنظمة الأمم المتحدة - والذي ينص على أنْ يتبع خط الهدنة الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين (أي لسنة 1923).
ثالثاً: عدة قرارات دولية صادرة عن مجلس الأمن على أثر إجتياحات إسرائيلية بين سنة 1967 وسنة 2006 حيث تم التأكيد في متنها على ضرورة إحترام إتفاق الهدنة.
وفي هذا السياق ربط المؤلف بدقة متناهية بين قضية الأراضي اللبنانية المحتلة حالياً وعملية تنفيذ القرارين 425 و 426 ليستنتج أن الإنسحاب الإسرائيلي لم يتم فعلاً من جميع الأراضي اللبنانية خلافاً لمَ أعلنه الأمين العام للأمم المتحدة في أيار 2000.
واليوم السؤال الذي يطرح نفسه بعد إعتراف الأمم المتحدة بضرورة تحديد هوية مزارع شبعا (راجع الفقرة العاشرة للقرار 1701 تاريخ 11/8/2006) إلى ماذا أدت الجهود الأممية في قضية ترسميها؟؟
ثم يكرس المؤلف الفصل الثاني لدراسة الطبيعة القانونية لاتفاق الهدنة والنتائج المترتبة عنها ويخلص إلى أن قرار وقف إطلاق النار وإلزام أطراف النزاع بإجراء اتفاقية هدنة قد صدر عن مجلس الأمن في 15/تموز 1948 بناء للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ومن ثم صادق مجلس الأمن على الاتفاقية بين لبنان وإسرائيل سنة 1949. بذلك يكون مجلس الأمن قد أضفى الطابع الإلزامي على هذه الإتفاقية تجاه جميع الدول ولا يجوز إدخال أي تعديل على جوهرها دون موافقة هذا المجلس ويخلص هنا الكاتب إلى النتائج المترتبة عن هذا الاتفاق وهي:
1- إعتراف إسرائيل الصريح بسيادة لبنان على كامل إقليمه حتى حدوده المعترف بها دولياً.
2- منافع إستمرارية تطبيق الاتفاق المستند على القانون الدولي:
أ- ان موضوع الاتفاقية لا يمس بحقوق الأطراف في التسوية السلمية النهائية.
ب- وجود استرداد الأسرى ومبادلتهم تحت إشراف الأمم المتحدة.
ج- عدم التعرض للمدنيين.
جاءت عدة قرارات لمجلس الأمن بما فيها القرار 1701 لتؤكد استمرارية نفاذ هذه الاتفاقية ومن مصلحة الحكومة اللبنانية بأن لا تسعى إلى أي تعديل من حيث الهيكلية أو الرقعة الجغرافية حفاظاً على الأراضي اللبنانية بحدودها المعترف بها دولياً وبالتالي وجود قوات دولية ضمانة للإعتراف بسيادة لبنان.
ثم ينتقل المؤلف إلى فصل ثالث ليعالج فيه موضوع المقاومة ورفض التوطين ويركز على مبدأ حق تقرير المصير كقاعدة قانونية أتت لتعطي توجيهات جديدة للقانون الدولي التقليدي فيما يتعلق بشرعية المقاومة وحق العودة للاجئين الفلسطينيين وحق الشعب اللبناني في رفض التوطين.
فالمقاومة مستثناة من جميع الحالات التي تتوفر فيها مكوّنات الإرهاب ومشروعيتها مستمدة من عدم تنفيذ القرار 425 أي عدم إنسحاب القوات الإسرائيلية وراء الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً.
أما حق الفرد في مغادرة بلده وحقه في العودة إليه فهو مصون بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية وأن الطابع الإلزامي للقرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة مستمد بالتحديد عن هذا الحق المذكور أعلاه. ثم يوضح المؤلف العلاقة الوثيقة بين النصوص الدولية وإتفاق الطائف والدستور اللبناني الحالي في هذا الشأن مناشداً الحكومة اللبنانية على عدم توفير أي جهد باتجاه المطالبة المستمرة في المحافل الدولية بحق عودة اللاجئين وحق الشعب اللبناني برفض التوطين كي لا تقع في الفخ الإسرائيلي التقليدي المتمثل بالأمر الواقع وذلك في تحقيق مساعيها القديمة الجديدة الهادفة إلى توزيع اللاجئين الفلسطينيين على الدول المضيفة.
وفي الفصل الرابع يبحث المؤلف من خلال التحليل السياسي والقانوني في مجزرتي قانا: قانا 1996 وقانا 2006.
ويعرض في هذا السياق الأسباب المعلنة [مكافحة الإرهاب وحق الدفاع عن النفس] والأسباب الحقيقية [مشروع الشرق الأوسط الجديد، وضع حد للتدخل الإيراني في المنطقة وأسباب سياسية داخلية إسرائيلية] التي دفعت إسرائيل على القيام بعدوانها المبرمج في نيسان 1996 وفي تموز 2006.
ويخلص المؤلف، على الصعيد السياسي، إلى أن لبنان كان ولا يزال ساحة تستخدم لإيصال الرسائل بين التحالف الأميركي - الإسرائيلي والتحالف الإيراني - السوري. ثم ينتقل إلى التحليل القانوني ليبني انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي الإنساني بارتكابها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية على أنواعها خلال حربي نيسان 1996 وتموز 2006، مشدداً على الطابع الإلزامي لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 50/22 الصادر في 25/4/1996 خلال جلسة استثنائية (E.S.S) في إطار حفظ الأمن والسلام الدوليين [أي في ميدان يدخل في صلاحية مجلس الأمن والذي تم بموجبه إدانة إسرائيل والتأكيد على إنتهاكها لقواعد القانون الدولي الإنساني وحق لبنان بالمطالبة بالتعويض الملائم وبذلك تميّز موقف الجمعية العامة عن موقف مجلس الأمن الذي اكتفى بالتعبير عن "قلقه" والذي حثّ أطراف النزاع على إحترام القانون الدولي الإنساني.
ثم جاء تفاهم نيسان بأحكامه لينظم الصراع اللبناني الإسرائيلي بعد أن سبقته اتفاقية الهدنة. ويعرض المؤلف في هذا السياق الطبيعة القانونية لهذا التفاهم (معاهدة) والنتائج المترتبة عنه خاصة فيما يتعلق بمشروعية المقاومة في القانون الدولي.
أما الفصل الخامس فجاء تحت عنوان "قرارات دولية ضامنة" وعالج المؤلف من خلاله الطبيعة القانونية لسلسلة من القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن وعن الجمعية العامة والضامنة "لاستقلال لبنان السياسي ووحدته الإقليمية ضمن حدوده المعترف بها دولياً" إنطلاقاً من القرارين المتعلقين باتفاقية الهدنة سنة 1949 وصولاً إلى القرار 1701 سنة 2006 مروراً بالقرارات 425 و1559 و1680 على سبيل المثال وليس الحصر.
وقد صدرت هذه القرارات عن مجلس الأمن تارة بناء للفصل السادس وطوراً بناء للفصل السابع وفي هذا السياق يذكر المؤلف ببعض مواد ميثاق المنظمة التي تنص على أن مجلس الأمن يتخذ قراراته باسم جميع الدول الأعضاء (المادة 24) وأن جميع قرارات مجلس الأمن ملزمة للدول التي تعهدت قبولها وتطبيقها (المادة 25) وقد يقرر مجلس الأمن الانتقال من الفصل السادس إلى الفصل السابع من خلال المادة (39) إذا رفضت دولة ما الالتزام بالقرارات التي صدرت بناء للفصل السادس بما يحتوي الفصل السابع من إمكانية إصدار عقوبات أو حتى إتخاذ تدابير عسكرية.
وبعد أن بيّن المؤلف الأوجه المشتركة بين نص القرارين 1559 و1701 ونص إتفاق الطائف فيما يتعلق بنزع سلاح الميليشيات وبسط سيادة الدولة في منطقة الحدود المعترف بها دولياً، سلّط الضوء على النقاط الملتبسة للقرار 1701 (حق الدفاع عن النفس وشروط ممارسته والوضع القانوني للأسرى والمعتقلين اللبنانيين لدى إسرائيل. ويخلص المؤلف إلى النتيجة التالية:
التأكيد على أن إتفاق الطائف يساهم في بناء الدولة اللبنانية داخلياً وإتفاقية الهدنة تساهم في بنائها دولياً.
ثم يكرّس المؤلف الفصل السادس لدراسة المحكمة ذات الطابع الدولي التي أنشئت بموجب القرار 1757 تاريخ 30/5/2007 الصادر عن مجلس الأمن.
تمت هذه الدراسة في إطار قانوني دقيق إذ إنطلق المؤلف من الأحكام القانونية المتعلقة بالمسؤولية الجنائية الدولية والمعاهدات الدولية ذات الصلة والتي تحدد طبيعة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ومن قرارات مجلس الأمن المتعلقة بمكافحة الإرهاب والمراحل التي سبقت إنشاء المحكمة: لجنة تقصي الحقائق ولجنة التحقيق التي أنشئت بناء لقرارات مبنية على الفصل السادس معتمداً في تحليلاته مدى إلزامية القرارات الدولية ذات الصلة خاصة القرار 1757 الذي صدر بناء للفصل السابع وهو بالتالي "قراراً ملزماً ذاتياً بصرف النظر عن موقف الدول حياله" خاصة وأن مجلس الأمن اعتبر الإرهاب بجميع أشكاله من أشد التهديدات على السلم العالمي (إشارة إلى المادة 39 من الميثاق): القرار 1636 في 31/10/2005 الذي عزّز مهام لجنة التحقيق الدولية أيضاً إستناداً إلى الفصل السابع.
ويشير المؤلف إلى أنها المحكمة الأولى التي ستحاكم مرتكبي جرائم إرهابية وقد يصبح نظام المحكمة نموذجاً يقتضى به لإنشاء محاكم مماثلة في المستقبل.
لا شك أن إحقاق العدالة عنصر أساسي من عناصر إستقرار الدولة والمجتمع الدولي. والملفت أن القرار 1757 يؤكد أيضاً، كعدة قرارات سابقة، على "إحترام سيادة لبنان وسلامته الإقليمية واستقلاله تحت السلطة الحصرية للحكومة اللبنانية".
وينهي المؤلف دراسته خلال فصل سابع خصصه للوسائل والآليات القانونية التي تتيح إما للحكومة اللبنانية أو للأفراد المتضررين من الأعمال العدوانية الإسرائيلية مراجعة القضاء الدولي أو القضاء الوطني وحتى مراجعة مجلس الأمن للمطالبة بالتعويض عن الخسائر البشرية والمادية التي سببتها إسرائيل.
وهنا يسلّط المؤلف الضوء على طبيعة الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل إنطلاقاً من القرارات والتقارير الدولية الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة والوكالات المتخصصة وغيرها من المنظمات والتي تؤكد بعضها على أحقية هذا التعويض (القرار 262 لسنة 1968 الصادر عن مجلس الأمن وقرارات أخرى صادرة عن الجمعية العامة مذكورة في الفصل المتعلق بالقرارات الدولية الضامنة).
الخاتمة:
إن قيمة أي كتاب هي من قيمة واضعه. فالدكتور شفيق المصري أستاذ جامعي متمرس وتراه من خلال تحليله يتحرى بصبر عن كل قرار أو بيان أو إعلان أو تقرير، يقدم شيئاً جديداً فيدرسه ويعلّق عليه لأنني كما عرفته عاشق علم ولا سيما علم القانون فجاء عمله على قدر المشقة.
لعل أكثر ما يميّز هذا الكتاب أن مؤلفه لم يترك مرجعاً من المراجع الفقهية كما راح يقلب في قرارات منظمة الأمم المتحدة وإجتهادات محكمة العدل الدولية، فأبرز أهم الحلول والقواعد القانونية والمبادئ العامة التي أرستها مما يضفي على هذه الدراسة الصفة العلمية والموضوعية. ولا شك أن هذا الكتاب يشكّل مساهمة قانونية ناجحة في إرساء الأسس التي يجب أن تعتمد عليها الحكومة اللبنانية في أي تحرك في المحافل الدولية دبلوماسياً كان أم قضائياً للدفاع عن القضايا المصيرية اللبنانية.
لا بدّ لِمَن يقرأ بتمعّن كتاب "لبنان والشرعية الدولية: القضية اللبنانية في المحافل الدولية في ضوء القانون الدولي" للدكتور شفيق المصري من أن يقرّ بالمساهمة العلمية والعملية القيّمة التي يقدّمها هذا المؤلَّف.
تتجلّى الأهمية العلمية لهذا الكتاب أولاً في كونه يساهم في إغناء المكتبة العربية بدراسة تحليلية قانونية بأسلوبٍ علمي وموضوعي لمواضيع حسّاسة ومصيرية، قلّما تمّت مقاربتها بتجرّد إنْ في الأدب العربي أو الأجنبي المنشور حولها.
وبالتالي يَصلُح هذا المؤلَّف مرجعاً مهماً في التدريس الجامعي في مواد القانون الدولي، المنظمات الدولية، الصراع العربي - الإسرائيلي، سياسة لبنان الخارجية وغيرها.
وتتجلّى أهمية الكتاب العلمية ثانياً في ما يقدّمه من أمثلة وتمرين علمي ومنهجي لكل من الطالب والباحث والسياسي الممارس في التحليل واستخلاص الحجج الدامغة والبراهين القانونية بأسلوب منطقي لدعم مطلب أو موقف معيّن في المحافل الدولية.
كذلك، تتجلّى أهمية الكتاب العلمية في البحث المستفيض حيناً، والمختصر أحياناً، في الصعوبات التي تواجه المجتمع الدولي لدى محاولته تعريف وتحديد المفاهيم والإشكاليات الأساسية لوضع المبادئ والقواعد القانونية التي تحكم العلاقات بين الدول، وأثر هذا على عمل الأمم المتحدة وأجهزتها في التعاطي مع النزاعات القائمة ليس فقط بين لبنان وإسرائيل بل في مناطق أخرى من العالم بشكلٍ يضمن ردع المعتدي ومعاقبته وتكريس الأمن والاستقرار داخل الدول وعلى حدودها.
أما الأهمية العملية للكتاب، فنجدها في محاولة الكاتب ترشيد القرار السياسي عبر تقييمه لنقاط الضعف والقوة في تعاطي السلطات اللبنانية مع القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة وفشلها أحياناً في استغلال كامل الإمكانيات والفرص المُتاحة لتعزيز حججها القانونية ودعم مطالبها بالاستناد إلى مبادئ القانون الدولي وقواعده، وبخاصة الآمرة منها، أو بالاستناد إلى بنودٍ وردت في القرارات الدولية حول الصراع اللبناني - الإسرائيلي.
وبالتالي، نجد أنّ هذا الكتاب قد يصلح كدليل للذين يقومون بتحضير الملفات والاستشارات ويصيغون المطالب والشكاوى التي يتقدّم بها لبنان إلى الأمم المتحدة وأجهزتها.
"اللهم إن كانوا يقرأون"
وأنتقل الآن إلى بحث بعض النقاط التفصيلية التي عرض لها الدكتور مصري في كتابه، والتي تقتضي التعليق والتوضيح.
مثلاً :
Temple of Preah Vihear Case: Cambodia vs Thaliland, 1962, ICJ rep.6.
وتطرح معالجة الكاتب الدقيقة لموضوع مزارع شبعا من وجهة نظر القانون الدولي سؤالَين أساسيَين، الأول يتعلق بالأسباب الفعلية وراء الإهمال الحاصل من قِبَل الحكومة لهكذا موضوع مهم ويتعلّق الثاني بالأسباب الفعلية وراء إصرار القوى الدولية على الاستمرار في التمييز بالتعاطي مع إسرائيل من جهة والعرب من جهةٍ أخرى.
أما النقطة الثانية والتي عرض لها الكاتب في الفصل الثالث حول المقاومة ورفض التوطين فهي تلك المتعلقة بتعريف مفهومَي المقاومة والإرهاب.
إذ من الواضح للمراقب أنّ التعاريف والتصنيفات المقترحة في محاولة للفصل بين المفهومَين كانت ولا تزال موضع جدل سياسي وقانوني في آن. فرغم أنّ مقاربة الكاتب للموضوع هي مقاربة قانونية، لا بدّ وأن يطرح السؤال حول إمكانية فصل السياسة عن القانون وجدواها. فحتى إن أمكن الفصل على مستوى التعريف وحصل التوافق على تعريف موحّد ومقبول عالمياً لكل من هذَين المفهومَين إلا أننا نرى أنّ عملية التصنيف الفعلي للجماعات والأفعال تحت كل من هاتَين الخانتَين كانت وستبقى عملية سياسية بامتياز في ظلّ تضارب مصالح وسياسات الدول.
كذلك رغم أنّ بعض الأحكام القانونية الدولية قد حرصت منذ الأربعينات، كما أشار الكاتب، على تشريع "المقاومة الوطنية" كأداة فاعلة لممارسة الحق في تقرير المصير ومكافحة الاستعمار واستثناؤها (أي المقاومة الوطنية) من الحالات الأخرى المحظورة للإرهاب الدولي..." لا بدّ وأن نطرح هنا سؤالَين حول هذا الموضوع.
أولاً، ما هو مفهوم "الحدود الوطنية" اليوم خاصةً في ظلّ التقدّم في مجالَي التكنولوجيا والمواصلات الذي يشهده العالم وما يتيحه من إمكانات تنسيق وتعاون بين "مقاومات وطنية" في بقاعٍ مختلفة وتنقل مجاهديهم من منطقةٍ إلى أخرى.
وثانياً، هل تبقى "المقاومة الوطنية" وطنية عندما تعلن أنّ أهدافها التحريرية تتخطّى الحدود الجغرافية للوطن كما هو حاصل في وضع المقاومة في لبنان؟
وفي الإطار نفسه يشير الدكتور مصري إلى "ضرورة الانتباه إلى إطارَين محظورَين من الإرهاب الدولي: إرهاب الدولة وإرهاب الأفراد... وبالتالي عدم السماح لبعض المقولات التعميمية التي لا تلحظ هذا التمييز وإنما تدعو إلى إدانة الإرهاب ومكافحته بصرف النظر عن أصنافه وبواعثه ومظاهره ووسائله. وهكذا يُصار في بعض الحالات إلى الخلط القانوني بين ما هو محظور ومُدان (أي الإرهاب) وبين ما هو مشروع وقانوني أي المقاومة".
برأيي أنّ التحذير الذي يطلقه الكاتب في محله كما هي الدعوة التي يتقدّم بها حول ضرورة التعرّف على الأحكام القانونية الدولية المتعلقة بموضوعَي المقاومة والإرهاب.
إلا أنني أعتقد أنّ التمييز لا يجب أن ينحصر بين هذَين النوعَين من الإرهاب أي إرهاب الدولة وإرهاب الأفراد، بل يجب أن يشمل أيضاً وفي ظل المعطيات اليوم، نوعاً ثالثاً ألا وهو إرهاب الجماعات التي ليست بافرادٍ وليست بدولٍ بل تتّخذ أشكال تنظيماتٍ وأحزابٍ كالقاعدة وفتح الإسلام وغيرها من التنظيمات الدينية وغير الدينية المتواجدة في بقاعٍ أخرى من العالم. وهنا، اسمحوا لي بأن أطرح سؤالاً آخراً يتعلّق بمدى سهولة التصنيف تحت هذه الخانات الثلاث. ولعلّ في المثل التالي توضيحاً لتعقيدات عملية التصنيف هذه. فعندما تُشَرِّع حكومةٌ ما وجود حزب أو تنظيم بعد أن أخذت "العلم والخبر" واستحصلت على نصّ لقانونه الأساسي، وبعد أن أعلن مسؤولو هذا التنظيم عدم اعترافهم بالدولة ونظامها ودستورها ونيّتهم في تغيير هذا، وعندما يقوم أفراد هذا التنظيم بأعمالٍ عدائية وعسكرية ضد البلد وشعبه وجيشه، فهل من الممكن أن يتمّ تصنيف هذه الأعمال تحت خانة إرهاب الأفراد، مقاومة وطنية للتحرّر من بقايا نظام استعماري أم تحت خانة إرهاب الحكومات؟
ورد في الفصل الخامس تحت عنوان قرارات دولية ضامنة أنّ الهدنة بين لبنان وإسرائيل وفّرت "ضماناً دولياً لاتفاقية ثنائية أصلاً تضمّنت اعترافاً إسرائيلياً خطياً بحدود لبنان الدولية والتزاماً إسرائيلياً أيضاً باحترامها".
برأيي إنّ هذا النص ينطوي على بعض المحاذير. فإذا كانت الهدنة ضمنت اعترافاً إسرائيلياً بحدود لبنان والتزاماً باحترامها ألا تنطبق الالتزامات والاعترافات ذاتها على لبنان من وجهة نظر القانوني الدولي؟ وإذا كان هذا هو الحال، ألا يعتبر سماح لبنان للمقاومتَين الفلسطينية واللبنانية بالقيام بعملبات عبر الحدود اللبنانية ضد إسرائيل إخلالاً من قِبَل لبنان بالتزاماته، وبالتالي خرقاً للهدنة؟؟
وهنا أعتقد أنه من الأسلم أن لا نتوسّع في مفاعيل اتفاقية الهدنة بحثاً عن ضمانات للبنان، بل نبقيها في إطارها الضيّق أي مجرّد اتفاق لوقف العمليات العسكرية دون أن يكون له أثر في المطالب السياسية للفرقاء.
من النقاط الأخرى التي تستدعي الانتباه في الفصل السادس هو ما ورد حول الاتفاقية الدولية الصادرة بتاريخ 26/11/1968 والتي تقضي بعدم تقادم الجرائم التي تخالف القانون الدولي ومنها جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وجرائم الإبادة وجرائم الفصل العنصري وجرائم الطرد والاعتداء المسلّح الخ... وأنّ مرتكبي هذه الجرائم لا يستفيدون من إمكانيات العفو حتى وإن كان هذا العفو صادراً عن دولتهم.
وهنا لا بدّ وأن أشكر الدكتور مصري على الاستفاضة في تفسير وتوضيح هذا الموضوع، وبلغةٍ واضحة وسهلة، علّ هذا الكتاب يساهم في توعية اللبنانيين عامةً وطلاب الجامعات خاصةً حول إمكانية مساءلة ومحاسبة مَن مارس هذه الجرائم على الأرض اللبنانية (أكانوا من الداخل أو الخارج) وعلّه يساهم في ردع مَن يحاول إعادة الكرة اليوم من القيّمين وغير القيّمين على شؤون البلد وشعبه.
وأخيراً، لا بدّ وأن يلاحظ القارئ تركيز الكاتب على المواضيع التي تتعلّق بالعلاقات الإسرائيلية اللبنانية وبخاصة بما اقترفته وتقترفه إسرائيل في لبنان، وليس في هذا أية شائبة. إلا أنني كنتُ أتمنى، واستناداً إلى العنوان الذي يحمله الكتاب، عدم حصر القضية اللبنانية بالنزاع مع إسرائيل، أي أن تضمّن الكتاب أيضاً تطبيقاً لجميع هذه البنود والمبادئ القانونية على أعمال الغير في لبنان خلال العقود الثلاثة الماضية والتي كانت موضوع قراراتٍ دولية وإقليمية، فكما أظهر العرض الدقيق أنّ المقوّمات والخصائص التي اعتمدت في تصنيف الأعمال الإسرائيلية في لبنان متوفرة في أعمالٍ قامت بها جماعات من الداخل والخارج في لبنان منذ 1975 حتى اليوم. ولذا نسأل ألا تزيد المقارنة بين هذه الأعمال من قِبَل أطرافٍ مختلفة وطُرُق التعامل الدولي معها في فتراتٍ مختلفة في قيمة هذا الكتاب العلمية وتزيد في موضوعيته؟
كذلك، يظهر العرض والتحليل لمختلف المسائل التي يعالجها الكتاب عدم الافتقار، أقلّه بشكلٍ عام، إلى القرارات والمبادئ القانونية الدولية الضامنة لاستقلال وسيادة ووحدة أراضي لبنان، إنما الافتقار إلى تطبيق صحيح لهذه المبادئ والقرارات والعمل على ضمان عدم انحياز المجموعة الدولية لمصلحة إسرائيل على حساب لبنان بسبب الضغوط على المنظمة الدولية والصعوبات التي تواجهها عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل.
ونختم هنا بإضافة رأينا الخاص وهو إنه، وإلى جانب الحاجة إلى مصداقية الدول معنا، يبدو أننا نفتقر اليوم وأكثر من أي وقتٍ مضى، إلى وجود طبقةٍ سياسية لبنانية تعمل على بناء وحدتها ضد الخارج أياً كان ومهما كانت خلافاتها الداخلية كما تعمل على تعزيز الوحدة الوطنية للحافظ على هذا الاستقلال والسيادة وإجبار المجتمع الدولي على معاملتها كدولة سيدة متساوية في الحقوق والواجبات مع غيرها من الدول.
علاقتي مع هذا المنبر وطيدة وجريئة: وطيدة بقدر ما يجمعني مع أركانه من وشائج الصداقة والمحبة، وجريئة بقدر ما يضعني (هذا المنبر) أمام الامتحان- التحدي: اذا كنتَ تزعم إخلاصاً للوطن، وموضوعية في البحث، وجرأة في التصدّي للمسائل المصيرية تعال وبرهن ذلك امام هذا الجمهور المدقق والمحقق. ولطالما سعدتُ بهذا الامتحان - التحدي منذ التسعينات وحتى اللحظة. لذلك أقدّم للقيمين على هذه الحركة الثقافية وافر التقدير والمحبة والامتنان كما أتوجه لحضرتكم بالشكر والتحية.
أشكر أولاً رئيس هذه الندوة وكافة المنتدين فيها جزيل الشكر على ما تفضلوا به من ملاحظات قيّمة وعلى ما بذلوه من وقت وجهد من اجل ذلك.
أما بالنسبة للكتاب فاسمحوا لي، بقدر الوقت الممنوح لي، ان أشير باختصار الى النقاط التالية:
1. كان لا بد لي، بعد مرور عقدين او أكثر قليلاً من التدريس والندوات والمحاضرات والمقابلات المتمحورة كلها تقريباً حول القانون الدولي والمنظمات والعلاقات الدولية، أن أقوم بما تمليه علي مسؤوليتي الأكاديمية، والوطنية بآن معاً. أي ان أدعو الى العقل والانتظام في حمّى هذه التجاذبات القائمة وأشرح بعض الحالات الدراسية في ضوء القانون الدولي بعيداً من كل رأي غير موضوعي وكلّ موقف غير ذي جذور.
2. وقد عزمت في هذا السياق أيضاً ان التزم إعداد سلسلة من هذه الدراسات - ويشكل هذا الكتاب الحلقة الأولى منها- التي تتناول قضايا شرق أوسطية أخرى في ضوء القانون الدولي. ومنها ما يتعلق بمسألة الإرهاب الدولي ومسألة الدولة الفلسطينية والشرق الاوسط بين الاعتبارات الجيوسياسية والانتظام الدولي وغيرها. وانا أزعم ان هذا الكتاب في تصميمه واسلوب التحليل فيه وفق القانون الدولي، وأهدافه سيشكل نموذجاً للحلقات اللاحقة من هذه السلسلة.
3. اخترت في هذا الكتاب سبعة فصول تشكل، في رأيي، النقاط الساخنة التي تتجاذبها النقاشات وفي غالب الأحيان المهاترات السياسية من دون الاعتماد على اية منهجية علمية ولا الاستناد الى اية مرجعية قانونية.
وهذه الفصول السبعة: لبنانية مزارع شبعا، واتفاقية الهدنة، وقانا 1996، قانا 2006، وحق الشعب في المقاومة ورفض التوطين والقرارات الدولية الضامنة، والمحكمة ذات الطابع الدولي، وشكوى لبنان...
وحاولت لدى معالجة كل من هذه الفصول او الحالات الدراسية ان اعتمد الأسلوب الأكاديمي - القانوني من اجل إثبات هوية او ذكر مرجعية او تحديد ضمانة او تجريم عدو او إقرار مبدأ يتمحور حول العدالة الجنائية الدولية.
4. انا أزعم ان هذا الكتاب يشكل (أو أن هذا ما حاولت على كل حال) دليلاً قانونياً مختصراً لإيضاح أو لتحديد أي من هذه الفصول - المسائل. كما ازعم (أو أن هذا ما آمل به) أن يكون أيضاً مفيداً للدبلوماسية اللبنانية في شرح بعض الأمور أو ذكر طبيعتها ومفاصلها ونتائجها ايضاً، بصرف النظر عن المواقف المتباينة التي تتناول الأمور، في الداخل وبعض الخارج، بتفسيرات كيفية او تعسفية او شارعية في بعض الأحيان.
وبعد،
عودة إلى هذا المنبر الذي كنتم شهوداً على ما يقدّم من أصوات وندوات تخضع كلها، كما قدمت، إلى الامتحان التحدي. والآن يتناول الموضوع الأكاديمي في القانون الدولي وبعض الحالات الدراسية الخاضعة له. وقد سبق للزملاء المنتدين الكرام، وأكرر شكري الجزيل لهم ان تفضلوا بآرائهم وملاحظاتهم القيّمة. يبقى من حق التعليقات أو الملاحظات المفيدة أيضاً.
مع الشكر لإصغائكم