تكريم اعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي
تكريم عزت صافي
أيها الأصدقاء،
في هذا المساء الثقافي يسعدنا ان نستضيف اليوم في ربوع الحركة الثقافية - انطلياس الصحافي عزت صافي صاحب السيرة الفزة والباع الطويل في مسيرة حياته الصحافية.
"ليس في سيرتي غير صحافة، وورق، وحبر، وسهر، وتعب، وليس غير أمل الاحقة مثل سر، او خبر وغير ثقافة هي من معاناتي، وتجاربي في الصحافة ومن اختباراتي وعلاقاتي مع الناس".
عزت صافي قطع مسافة 58 عاماً من العمل المتواصل في الصحافة، جريدة الانباء، مدير تحرير جريدة الكفاح، مدير تحرير، في جريدة الانوار، رئيس تحرير مجلة الصياد، كاتب مقال سياسي في جريدة الانوار، كاتب مقال سياسي في جريدة السفير، مديراً "لمجلة الحوادث"، عضو المجلس الأعلى لاتحاد الصحافة اللبنانية استاذ في معهد الاعلام في الجامعة اللبنانية،
كان فخوراً ومعتزاً بانتسابه الى هذه المهنة الأكثر انتقائية بين المهن...
"تابعت مهنة الصحافة وليس لي فيها ولا بعدها مهنة:
وهنا يتمايز بعض الشيء مع رأي الصحافي الكبير غسان التويني القائل: "بعد خمسين عاماً ينتابني شعور ليس هو الندم لأني صحافي بل القهر لأني لم اصبح إلا صحافياً"
علمنا لم يرث هذه المهنة، يقول "نجاح رسالتي هو استمراري وسعي الدائمين للتكيف فيها ليس رغم القهر فقط بل مع المعاناة، لم يكن له حياة ولا مقام ولا عمل ولا عطلة، إلا في مكتب جريدة الانباء"
سلك دروب الصحافة ايام كانت الصحافة هي السلطة الرابعة في الدولة عمل في جميع مجالاتها صف الاحرف، الطبع، التصحيح، تصحيح المقالات، تصحيح البروفات، تحرير، وسكرتير تحرير مدير ورئيس تحرير.
انه صحافي عن سابق تصور وتصميم انه هذا العصامي الذي يقول عنه الاستاذ منح الصلح "يفاخر بأنه هو من بنى نجاحه او شهرته لنفسه": لقب بأبن المختارة لأنه ولد في منزل في نطاق حرم دار المختارة، وفي السنة الأولى من عمره امسكاه والداه بيديه ليعلماه المشي سارا به الى دار المختارة فالتصق منذ اللحظة الأولى من حياته بها. وترسخ خط التواصل هذا في مسيرته لم يخرج من بيئته بقي وفياً لهذه المبادئ والقيم طوال حياته الى ان وضع كتاب "طريق المختارة".
ولد في زمن عز عائلي في بلدة المختارة، وفي منزل عريق بطرزه المعماري في نطاق حرم دارة المختارة كان والده يستثمر في المختارة متجراً لبيع قطع الموبيليا الفاخرة. "زمن العزّ لم يدم، فقد "انكسر والدي وسدد قيمة خسارته بثمن حقل كبير كنا نسميه العودة، كان لنا مصدر رزق وغلال من المواسم..."
غادرت العائلة الى الضيعة باتر المدرسة الاولى المعلم فريد عزام... لم ابدل مقعدي على البنك الخشبي في المدرسة ذات المعلم الواحد والباب الواحد والشباك الواحد والمتعدد الصفوف...
انهى صفوف المرحلة الابتدائية سريعاً كان عليه ان يبقى في مدرسة الضيعة الى ان جاء معلم من بلدة عماطور لعله من اوائل الشيوعيين في الشوف. يقول: "اذا كانت الفروض الى المعلم فريد بلغة الادب، والنحو، والقواعد، فان الفروض الى المعلم اليساري كانت بلغة الثورة على الاستعمار والاقطاع والظلم والفقر...
حمل لغته وفكره اليسارين الى الحزب التقدمي الاشتراكي: عمل في جريدة النداء وفي مطبعتها اكتشف ان الصحافة كانت تبدأ في المطبعة كان عليه ان يقرأ المقلات والافتتاحيات والتعليقات مقالات كتاب السياسة، والثقافة، والفن، والاقتصاد، والرياضة ومقالات الفضاء فضلاً عن الاخبار المحلية والعربية والعالمية... "تلك مدرسة خرجت للصحافة اللبنانية والعربية اعلاماً تركوا للصحافة الحديثة الاسماء وقواعد وقيم المهنة واخلاقها.
"اني افخر بأني وجدت زاوية في تلك المدرسة وحصلت فيها على شهادتي، ولم استطع ان اضيف اليها شهادة اخرى".
عام 1974 طلبت منه رئاسة الجامعة اللبنانية ان يشارك في تدريس طلبة كلية الصحافة والاعلام للسنة الرابعة فوافق.
في الساعة الأولى من اليوم الأول له في الجامعة وقف خلف منبر كلية الصحافة والاعلام وراح يتطلع في وجه كل طالب وقال لهم كم اتمنى في هذه اللحظات لو استطيع ان انقل اليكم الاحساس الذي يهزني في العمق وانا واقف امامكم الآن عشت شبابي ولم اتمكن من الوصول الى الجامعة للجلوس في مقاعدكم. لكن بعد خمس وعشرين سنة ها انا الآن في مقعد الاستاذ امامكم.
كان احد الصحافيين الذين رافقوا الرئيس شارل حلو في اول زيارة له الى القاهرة ايار 1965 وتيسر له لقاء سريع مع الرئيس جمال عبد الناصر ورافق أيضاً الرئيس حلو الى باريس للقاء الرئيس شارل ديغول وتيسر له حضور حفلة الاوبرا في مقصورة بالقرب من مقصورة الرئيسين ديغول والحلو.
تابع معظم مؤتمرات القمم العربية.
بعد نشوب حرب اكتوبر 1973 كان اول صحافي ينزل في مطار عسكري في القاهرة بعد ان غادر مطار بيروت بطائرة نقل سوفياتية كانت آتية من موسكو وكانت تحمل شحنات ادوية الى مصر صعد الى الطائرة بصفة ممرض.
كان احد اربعة صحافيين لبنانيين سمح لهم بمتابعة اول مؤتمر للحوار العربي الاسرائيلي عقد في جنيف في كانون الاول 1973 بحضور وزيري خارجية اميركا والاتحاد السوفياتي ومقاطعة سوريا.
حضر والمرحوم ميشال ابو جودة مؤتمراً صحافياً دولياً دعا اليه ملك المغرب في الرباط. 1977. آثر حواراً مع الملك حول الوضع اللبناني قاطعه الملك قائلاً له انت تحاورني من مسافة نحو اربعة آلاف كيلومتر.
بالاضافة الى المناصب الثقافية والمهنية التي تبؤها، الف كتاب بعنوان طريق المختارة زمن كمال جنبلاط كان دافعه الى ذلك اكتشافه بأن وقت النشر قد حان بعد ان ادرك انه استراح من المستقبل فانصرف الى الماضي. ففي هذا الكتاب يلقي فيه على مسيرة المعلم اضواء غير مسبوقة بامانة صحافية عالية واسلوب تاريخي ممتع ويقر ان كمال جنبلاط نموذج من الساسة اللبنانيين المميزين والذين جمع في شخصه مختلف الشروط القيادية والسياسية والفكرية والروحية. واني ارى من المفيد ان نذكر بعض ما قاله كمال جنبلاط عن الكيان اللبناني:
"ان الكيان اللبناني رغم العواصف التي تمر به يتأكد ويتثبت في ازدياد مضطرد وعلى الدوام في بصيرة جميع اللبنانيين وقد يدركون يوماً أكثر مما يدركون الآن انهم اولاً أبناء هذه الوحدة الحياتية وحدة الاقتصاد والاجتماع وتشابك البيئة. قبل ان يكونوا نصارى وسنة ودروزاً وشيعة وسواها من المذاهب.
لبنان السياسي قائم على هذا التنوع الغريب العجيب لبنان في الحقيقة محاولة تأليف ضخمة ومحاولة تعاون وانسجام بين النصرانية والاسلام وجميع المذاهب هو نموذج معد لمنطقة العالم العربي بل للشرق الاوسط كله. لبنان وجد لكي يكون بلد العقل بلد العقلانية ولولاهما لما وجد هذا الوطن ان وظيفة لبنان في الشرق الاوسط ان يكون وطن التقدم والحرية راهن كمال جنبلاط على استقلال لبنان الى اقصى حد حتى ليتمكن اعتباره فيلسوف الصيغة اللبنانية بلا منازع هذه الصيغة التي اعتبرها انتصاراً للحضارة العربية. للحضارة العربية فاكراماًً لروح هذا القائد وتجسيداً لانتصار الصيغة اللبنانية لا بد من انهاء ملف المهجرين من كل جوانبه الانسانية والمالية والعملية.
يشرفنا في الحركة الثقافية - انطلياس ان يشارك معنا نقيب المحامين الأسبق عصام كرم في تكريم عزت صافي كعلم ثقافي في لبنان الرعيل 23. ويزداد تشرفنا عندما نرى ابن دير القمر وابن باتر البلدتين الشوفيتين يجلسان سوية على منبر الحركة الثقافية في انطلياس عاصمة العاميتين يتفاعلان ثقافياً في تظاهرة المهرجان اللبناني للكتاب الذي اردناه واحة لقاء ومنبر حوار حر ملتزم بحرية الكلمة وقدسيتها في خدمة السلم والسلام وحقوق الانسان في وطننا لبنان.
النقيب كرم، صاحب شخصية فزة متنورة ومقتدرة، مارس مهنة المحاماة منذ عام 1958 حتى يومنا هذا دون انقطاع.
تدرج في مكتب الاستاذ النقيب ميشال عقل.
سنة 1961 استقل مكتبه بالمحاماة متخصصاً في الشأن الجزائي.
سنة 1972 انتخب عضواً في مجلس النقابة وتعاقب على هذا المركز مرات عديدة الى ان انتخب نقيباً للمحامين 1983.
كتب في الصحافة منذ كان تلميذاً.
انقطع عن الكتابة السياسية منذ انتخابه نقيباً للمحامين ايماناً منه بابقاء مركز نقيب المحامين بعيداً عن التجاذبات السياسية.
النقيب عصام كرم يتمتع بثقافة واسعة تشمل شتى اوجه المعرفة اهمها الثقافة القانونية، لا مجال لخوض غمارها الليلة لكثرة تنوعها ولفرادتها واظنه يعذرنا اذا مارسنا فضيلة الاختصار في هذا الحفل التكريمي الجلل.
النقيب كرم هو من عداد اعلام الثقافة في لبنان ينتمي الى صفوة من المثقفين المؤمنين بالكلمة وبالحق والحرية انه من المثقفين الحقيقين الذين يلتزمون العدل والمحبة، ثقافته الحقة وليدة فكره الخلاق القائم على الايمان والمحبة والرجاء والانفتاح والتسامح.
ألكاتب الرصين الظريف
أُحييّ " الحركة الثقافية " لأنها جامعة فكر . وأُحييّ أنطلياس لأنها جامعة وطنية . وأُحييّ الرهبنة الأنطونية لأنها جامعة علم وانفتاح .
ألحركة الثقافية ، منذ كانت ، غلّبت الفكر على المحسوس . وألّفت بين المرئي والراهن . بين الحقيقي والمنظور . بين الجميل والصحيح ، في عصر يمشي الإرهاب والتقنية على دعسة الإنحلاليين ... فيُمسي المستقبل ضبابيا" ، هيولانيا" ، غير واضح . مع أن علينا ... نحن ، أبناء هذا العصر ... أن نناهز أُفقا" أبعد من التاريخ وأعرض من الرؤيا ... بحيث يتمازج الرائع والوضعي ... كما في كلام لـ بول فاليري .
في هذا المناخ الأنيق ، تراني أذهب إلى سؤالين .
ألأول : لماذا لا يكون لنا كتاب عربي يكمّل " أغاني " أبي الفرج ؟
ألثاني : لماذا تذكر معاجمنا أعلام الغرب وتخلو معاجم الغرب من ذكر معظم أعلامنا؟
أُمنيتان أستودعهما الحركة الألقة بندين بارزين في جدول الأعمال .
* * *
عزّت صافي حَلِم بالقلم . ولما صار قادرا" على حَمْله ، فعل صادقا" ثائرا" متمرّدا" . صادق كما الطبيعة تُطلع الشوك والورد . ثائر ثورة العقل ، لا ثورة الفوضى . متمرّد تمرّد العنفوان ، لا تمرّد العصيان ...
في الصحافة تدرّج حتى بلغ المستوى الأنيق . فملأ الصحف مقالات لا يترك لصحيفة أن تعتب عليه ... يجول الجولة المتعافية يربط الماضي بالحاضر رائيا" المستقبل كمثل من عرف بأن الماضي يُقرأ في صفحات الرخام مثلما يُقرأ في صفحات الورق منذ كان غوتنبرغ ... وكانت المطبعة تطلّ على المعتقد والعقيدة ... وكلاهما يتهيّبان الرأي الطالع من التحرّك الشعبي . لأن التحرّك الشعبي ، أيا" كان سببه ، يُطلع نسيم التحرّر ويُطلق روح الـ لا الهادمة البانية .
عزّت وأنا رفيقا درب ورفيقا قناعات . في " شيطنة " الصبا كنا في الحركة الطالبية نرفض الحالة الراهنة في صبوة منا إلى الأفضل . وفي صخب الشباب أدركنا ، كلانا ، أن مناقبية الجبل أكبر من أن تهون . وساعات التخلّي ليست التاريخ . ألتاريخ ثورة على ساعات التخلّي وكفر بالدعسات الناقصة .
هذا الشُّوفي من أهلنا الموحِّدين ... بني معروف ... قاتل من أجل وحدة الجبل مدركـا" أن
التوحُّد المسيحي الدرزي هو المنطلق إلى مصافحة كلّ اللبنانيين مع كلّ اللبنانيين مصافحة قناعة إيمانية بأن من الحرام أن يقتتل اللبناني واللبناني في وطن فخر الدين ... وحدود لبنان أول أيلول 1920 هي حدود فخر الدين.
يعد معركة عين داره في 1711 هاجر اليمنيون المنهزمون إلى جبل الدروز ... جبل العرب كما الشوف جبل العرب . ألقيسيون ... المنتصرون ... عادوا إلى قراهم ينقسمون بين يزبكيين وجنبلاطيين . ويوم كان تقسيم الجبل باقتراح من ميتيرنخ ، مستشار النمسا ، كانت القائمقاميتان . في قائمقامية الدروز كان يأتي القائمقام يزبكيا" مرة وجنبلاطيا" مرة . وطلع الخبر ، في مناسبة إنتخابية ، أن اليزبكي فاز . فتجمعت اليزبكية تذهب إلى بيت الدِّين للتهنئة . في الطريق طلع الخبر الآخر ... أن الجنبلاطي صار قائمقاما" . فالتفت القوم بعضهم إلى بعضهم يقولون الكلمة الشهيرة : أبقاش بدا، قوموا تنهنّي .
عزّت يعرف تاريخ لبنان . ويعرف أن جبل لبنان ركيزة وطنية بالعيش الدرزي المسيحي . في انتخابات 1960 فازت في الشوف اللائحة التي كان يرئسها كمال جنبلاط . وكان فؤاد شهاب رئيسا" على الجمهورية . فألّف جنبلاط وفدا" من " الحبهة الإشتراكية الوطنية " يزور فؤاد شهاب حاملا" إليه علم فخر الدين هَديّة" . فسأل الناس : ألجنبلاطي الذاهب إلى الشهابي ، على ما في علاقة الجدّين من إحَن ، يحمل إليه علم فخر الدين ... يعني ماذا ؟ يومذاك ... قلنا إن الزيارة ليست زيارة الجنبلاطي للشهابي . هي زيارة الدرزي للماروني . وعلم فخر الدين للتذكير : مثلما دعا المعني الثاني الموارنة لمشاركته في حكم الجبل ، يصير على الماروني موجب ردّ الأمانات .
* * *
في كلّ فنّ كتب عزّت صافي . فكر محيط راق . ومعرفة . وسعة أُفق .ولغة عرفها وسيلة خلق وتوالُد عبارات . من هنا ... أن الريشة ما جمد ت يوما" في يده . هي ، في يده ، ولاّدة دوما" رصينة ظريفة . يوم اقترح ريمون إدّه قانون إعدام القاتل قصدا" ، وقد أُقرّ في 16 شباط 1959 ، كتب عزّت يقترح قانونا" " بقطع اللسان الطائفي " . ويوم نُشر خبر عن أن وزارة الداخلية تلقّت ترخيصا" بإنشاء " هيئة سرّية لتعاطي الرشوة والسمسرة ونهب المال العام " كتب عزّت يستبق الحدث أن الحكومة رفضت الطلب لأنها لا تسمح بتأسيس هيئات تزاحمهما على صلاحيتها ؟ وضحك الناس . وضاق صدر السلطان . فأحال عزّت على القضاء . لكن القاضي ضحك مع الناس. لأن الظرف آسر . ولأن النكتة طاغية .
عزّت كتب يوم الكلمة بِنْتُ إله . وساوره قهر يوم صار الرأي صريع رصاصة .
* * *
هذا الكاتب الألمعى ، وكتابه " طريق المختارة زمن كمال جنبلاط " خير الشاهدين ، زامن الأكابر وجالسهم في الليالي حتى انبلاج الفجر ... من أمين نخله إلى الصافي النَّجَفي إلى إميل لحود وبهيج تقيّ الدين ... مرورا" بـ غنطوس الرامي وكابي اسكندر حداد وفاضل سعيد عقل ...وصولا" إلى تقيّ الدين الصلح وزهير عسيران ... وفي الرفقة عصبة من خيرة أهل مهنة المتاعب ... يستوي، اليوم ، في " أعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي " .
بلى ! هو واحد منهم .
أخي عزّت . ألتكريم وأنت توأمان . هنيئا" لك !
دور الرأسمال الإعلامي الخارجي
في الصحافة والثقافة والتلفزيون
السيدات والسادة والأصدقاء
نحن في زمن قل تكريم المثقفين في حفل من هذا النوع. فالثقافة في هذا الزمن تذهب إلى رحاب البلاط، حيث يفرش لها السجاد الأحمر، وتحف بها التيجان والسيوف، وتقدم إليها الدروع من ذهب، مع جائزة رقمية يزينها اسم وشعار.
حفلكم هذا، يا سادة، بسيط. بلاطه فضاء حرية، وسجاده ورق، وسيوفه كتب، وتيجانه دواوين شعر، ودرُوعه ثقافة وفلسفة وحكمة. أما جائزته فجلسة إلى هذا المنبر، وشهادة من صديق عارف... وكفى...
هنا، في أحد أرحب بيوت الثقافة في لبنان والعالم العربي، وأمام منبر الحركة الثقافية في أنطلياس أنحني.
سوف أحاول أن أحصر حديثي لهذه المناسبة في الثقافة، وأنا قد تسللت إليها من الصحافة على طريقة من يقفز المراحل ثم يعود إلى بداياتها على مهل. فليس ثمة صحافة من دون ثقافة، وإلا كانت حبراً مزوراً وملوثاً.
كيف تصنع شيئاً لا تصدق إنك أنت صانعه؟ هذا كان شعوري بعد صدور كتابي "طريق المختارة زمن كمال جنبلاط" ذلك أني في ذروة انهماكي بالصحافة اليومية التي ترتهن عمر الصحافي حتى الاستنفاد ما كنت أحسب أني سوف أجد وقتاً للعمل على كتاب، غير أني كنت في ملحق "الأنوار" الأسبوعي أهرب إلى الثقافة في يوم عطلتي.
أهذا من الثقافة أم من الصحافة؟. أصدق الجواب: من الاثنتين معاً. إذ يستحيل الفصل بين الثقافة والصحافة كما يستحيل الفصل بين السلب والإيجاب اللذين عندما يلتقيان يولد النور فلا يعود السؤال: أيهما السلبي وأيهما الإيجابي. فالنتيجة نور.
بوجه آخر، لا يمكن الفصل بين الثقافة وثورات الحرية. فالثقافة هي التي تشعل الثورات ببارود الفكر وشجاعة الرأي وتحول الصحافة رزم ديناميت.
غير أن هذا كان في زمن مضى، أو كاد. فلا صحافة رائجة وفاعلة في هذا العصر إلا إذا كان بارودها الرأسمال الذي يأتي بالأقلام والأسماء والخبرة وبالتكنولوجيا والابتكار والإبداع، ثم تأتي الإدارة فالتوزيع والانتشار والشهرة.
الصحافة التي تصنعها مؤسسات تملك كل هذه الإمكانات هي التي تأتي بالإعلان الذي يتكفل تمويل الصحيفة ويضمن تقدمها واستمرارها، ويحمي مناعتها فيكتب محرروها ومعلقوها بحرية وصدق ونزاهة وشجاعة، وهكذا تزاوج بين رسالة الصحافة والرأسمال في عصر سقوط الحدود بين الدول والقارات وانتفاء الحاجة إلى القواميس بين البشر واللغات.
عبر هذه الصحافة تنتشر الثقافة وتزدهر بقدر ما تحمل إلى القارئ من نتاج الكلمة، فكراً، وفلسفة، وأدباً، وشعراً ورواية وفنوناً، فيتساوى الفضل بين الصحافة والثقافة، وإذا كلاهما مدين للآخر.
من دون رأسمال وإعلان تجاري، الصحافة رسالة طوباوية صوتها خافت ومداها قصير، والثقافة فيها روائع في معرض مقفر. بل إن الصحافة من دون إعلان مشروع خاسر، باهظ الكلفة.
وكما الصحافة مع الإعلان، كذلك محطات التلفزيون، ومحطات الإذاعة. ولكن من يرسم الحدود بين ما هو إعلان تجاري وما هو إعلان سياسي أو عقائدي؟. ومن يضع نقطة بين نهاية الإعلان وبداية الصحافة، ومن ضمنها الثقافة؟ ومن هي الجهة التي تراقب وتحاسب وتفصل بين ما هو خبر، ورأي وثقافة، وسياسة، وحق بالحرية والمعرفة والاطلاع، وبين ما هو إعلان ومنبر لمشروع سياسي لدولة غريبة أو قريبة. وبين ما هو حق يكفله الدستور والقانون وما هو انحياز أو التزام بنظام خارجي تحت شعارات وعناوين تبطن غير ما تعلن؟
الرأسمال الإعلامي الخارجي إذا جرى توظيفه في الآلات وفي تكنولوجيا المعلومات هو خير وبركة للمعرفة وللثقافة والحضارة. أما إذا جرى توظيفه في الحبر وفي الأقلام وفي الكلمة والصوت والصورة فإنه يشكل خطراً كبيراً على الاستقلال وعلى الثقافة في بلد مثل لبنان يقدس الحرية، ويتساهل في شروطها الوطنية إلى أبعد الحدود حتى إلى حد التغاضي، خوفاً أو مراعاة. عن زعزعة وحدة المجتمع وكيان الوطن وهذا ما يواجهه لبنان في هذه المرحلة.
وثمة خطر آخر لكنه خطر مشروع يأتي من الفضاء الإعلامي المزدحم بالأقمار الاصطناعية وبالرساميل والتقنيات. وعبر هذا الفضاء كان على الصحافة اللبنانية أن تدفع ضريبة عصر الرأسمال الإعلامي الفضائي الذي لا يرحم بقدرته على التنافس والانتشار والسيطرة على معظم أسواق الصحافة العربية.
فصحف هذا الإعلام تحضرُ باكراً مع الصحف اللبنانية على مائدة الصباح، خبراً ورأياً، وفكراً، وسياسة، وثقافة وعلوماً وفنوناً واقتصاداً، كما تحضر في كل بلاد وفي كل مدينة، وفي كل مكتبة ومؤسسة، وفي كل محطة ومقهى، وعلى كل زاوية ورصيف.
مع هذا الإعلام الفضائي والأرضي الغني، المقروء والمرئي والمسموع، اشتدت صعوبة المنافسة اللبنانية، فكان من حق عدد كبير من الصحافيين والإعلاميين اللبنانيين في السياسة والثقافة والاقتصاد والفنون والإخراج أن ينضموا إلى الفضاء الأوسع كتابة، وصورة، وصوتاً.
وفي حين يحمل هؤلاء الزملاء دمغة لبنان أينما ذهبوا، وأينما حلوا، فإنهم لا يستطيعون أن يخفوا في كل طلة وكلمة إن وطنهم تراجع وضاق حتى لم يعد يتسع إلا للمرغمين على الصمود، وللقانعين بأن لبنان أفضل لهم من أي بلد آخر.
ولا ينكر أحد أن ثمة زاوية أمان وفوقها مظلة أسباب للإعلامي السياسي اللبناني الذي يعمل في الصحافة العربية، وهي أنه محكوم بمبدأ الاعتدال والحياد في ما يكتب عن بلاده أو غيرها، وعليه أن يحمل ميزان القيراط في ما يكتب، وأن يحفظ قاموس المصطلحات التي تصلح لكل مقام ومقال. وهكذا يكتشف الإعلامي اللبناني في العالم العربي أنه يخلُق وطناً من خياله ويعيش فيه، ويعتاد عليه، بل يرتاح فيه ويستقر. وإذا ما شط فلا خوف ولا قلق، لكنه ما إن يتنشق نسمة من مناخ لبنان السياسي الحر حتى يدرك أنه غائب عنه في إجازة، ولا بد أنه عائد.
كيف يصبح الوطن مثالاً في الخيال؟ هذا ما نحن فيه. فقد ابتلينا بالداء الوحيد الذي يحمل الموت إلى لبنان عبر الطائفية التي تتخفى في أي دين مقدس وهو منها براء، ونحن نعيش الآن مرحلة كأنها تعود إلى عصور نشوء الأديان في هذا الجزء من الكون حيث شعت أنوار الإيمان بإله واحد متعدد الرؤيا والصلاة فإذا هو في لبنان متعدد الطائفة والمذهب.
لكننا نلاحظ أن أحداً من عباقرة "البروباغاندا" لم يستطع أن يبتكر من الأساليب والوسائل لتعميم الخطاب الطائفي كما يبتكر لنا أهل هذا الخطاب في لبنان. فاستغلال الدين يجري في كل الاتجاهات وفي كل الفرص المتاحة، وخصوصاً في بعض وسائل الإعلام المكتوب، والمرئي، والمسموع، وعلى المنابر وفي الشوارع والساحات العامة، وعلى الجدران، وبمكبرات الصوت في التظاهرات والتجمعات، وبالمنشورات والشائعات، وباليافطات وبأصوات الأولاد والسذج والبؤساء الذين لا يفقهون معنى للدين والإيمان، ولكنهم معبأون لتلبية النداء عند الإشارة في ليل أو نهار.
في ظل هذا المناخ اللاطبيعي، والخطر، على بلد مثل لبنان مميز بمزيجه السياسي والثقافي والروحي والتربوي، والحرية فيه مباحة بكل معانيها، والقانون تحت أحكام الظروف، ينشط دعاة السماوات للسيطرة على الأرض، ويلاقيهم هواة الشهرة والنفوذ فتثور العصبيات، ثم يأتي من يوجهها نحو الهلاك. وليس مثل التلفزيون في هذا العصر صاروخ خارق القارات والعقول والقلوب.
العالم كله اليوم في قبضة التلفزيون. العالم كله واقع تحت سحر هذه النافذة المفتوحة على أربع جهات الكون، ومن خلالها تأتي روائع الجمال والثقافة والفنون، وتأتي نسائم الحرية، وتتدفق أمواج الفرح والتقدم والارتقاء، ولكن من خلال هذه النافذة عينها تأتي أيضاً رياح الشر والجنون والعنف والدمار. وتأتي مشاهد الموت ومواكب النعوش... وعلى المشاهد أن يختار.
هذا منطق آلة العصر. بل هذا منطق الحرية وحق الإنسان في الاطلاع والمعرفة. وما من قوة تستطيع أن تصد وتردع هذا الصاروخ الهائم في الفضاء والذي ينقض على من يطلبه بلمسة ضوء. وليس في العالم فضاء حر مفتوح للاستثمار السياسي الخارجي مثل الفضاء اللبناني.
ومن المفارقات أن المال الإعلامي الممنوع من أن يُوظف في بلده بحرية تامة مسموح له في لبنان أن يوظف في خدمة دول وأنظمة أخرى. وقد وقع لبنان في دائرة خطر هذا الإعلام الذي تغلب على كل قوانين الدولة ومؤسساتها، حتى بات الكيان اللبناني الصغير و"الفقير" والفريد من نوعه الحضاري، في محيطه أضعف من أن يواجِهَ ويصمد أمام الخطر الذي يطبق عليه من الأرض ومن الفضاء.
بسبب هذا النوع من الإعلام كره اللبنانيون السياسة التي عجنوها وخبزوها، وقد عجنتهم، ورقتهم وخبزتهم وتركتهم أمام النار حتى احترقوا.
وإذا كان التلفزيون نعمة على الثقافة، إذ هو ينشُرها ويعمِّمها بسمينها وغثها، بلبها وقشورها. فإنه بالنسبة إلى الصحافة غول مفترس يلاحقها ويحاصرها في كل لحظة، وهي لا تقوى عليه إلا بحضورها الهادئ والأنيق وبنفحة الصلة المباشرة مع العقل، ومع الشعور، والفكر، والروح، عبر الورق والحبر، إذ تتحول الصحيفة في يد القارئ مرآة صور، ومدى آفاق، وخبر، ورأي، ورؤية، وموقف، وشرح، وضوء بطيء على كل ما شاهد القارئ وسمع بلمحات خاطفة على شاشة التلفزيون.
الثقافة في الصحافة لها طعم آخر ونكهة مختلفة. وصحيفة من دون ثقافة لا نكهة لها ولا طعم. بل إن السياسة والاقتصاد والعلوم إن لم تكتب بلغة عصبها الثقافة فلا رونق لها ولا وهج.
لكن للثقافة في العالم العربي متاعب. ومن متاعبها أن ثمة من يجعلها عباءة فضفاضة جاهزة وتحت الطلب لمن يشتريها ويدفع ثمنها غالياً فيرتديها ويتكنى بها. ولذلك نرى في عالمنا العربي من يزهو بهذه العباءة ونرى من يتقن حياكتها وتسويقها.
وحيث يصر بعض المدن العربية على المشاركة في مواسم إقامة معارض ثقافية دولية للكتاب نقرأ ونسمع صيحة الثقافة في تلك المدن احتجاجاً على منع كتب تحكم عليها "شرطة الثقافة" بالمصادرة والتلف". وأغرب ما في الأمر أن تلك الكتب هي من التراث العربي العريق وقد صدر بعضها في النصف الأول من القرن الماضي، وكانت تلك المدن تحت الاستعمار، وكانت عناوين الكتب المصادرة من علامات شهرتها في الثقافة والأدب وفي مقاومة الاستعمار.
كيف تقاوم الثقافة العربية هذه الاعتداءات المهينة للحضارة العربية، من قديمها إلى حديثها المعاصر؟... فقط بالاحتجاج والاستنكار عبر مقال أو تصريح، وينتهي الأمر. لذلك تمضي "شرطة الثقافة" في تعقب الخارجين على قوانينها.
في العصور الغابرة كُتبت الحضارة العربية بريش الطيور الجارحة وبحبر الفحم والأصباغ. وقد اخترقت تلك الحضارة حدود بلادها بلغتها، وعمّت أمم العالم، ودخلت في لغاتها وآدابها وعلومها.
أما في عصر الفضاء العربي المفتوح على الكون فإن الفكر الحر يعجز عن الإفلات من قيد "شرطة الثقافة" هذا في حين تسبح في الفضاء بدلاً منه ثقافة القتل وغواية الانتحار بتفجير أطنان الديناميت وسط أولاد المدارس، ووسط تجمعات العمال في الساحات طلباً لفرصة تأتيهم بلقمة عيش. وبالديناميت يلاحق غواة الانتحار سيارات الإسعاف والممرضين والممرضات والنساء الباحثات عن حليب أو دواء للأطفال.
وما يرعبنا نحن اللبنانيين إن اسم وطننا أُدرج أخيراً في لائحة أسماء ثلاثة بلدان في العالم تقع تحت علامة الخطر وغير آمنة للسفر إليها.
فماذا بقي للبنانيين؟
هذا ليس سؤالاً في السياسة.
إنه سؤال في ثقافة الحياة بأبسط الحقوق الإنسانية: الأمان.
إنه سؤال وطن عنوانه الثقافة، والجمال والفنون، والمدنية، والحرية، والديموقراطية، والقانون.
هل صار ذلك اللبنان من الماضي؟... ولماذا؟... ولحساب من؟
هذه أيضاً بعض الأسئلة في الثقافة وليست في السياسة. فأي سياسة أرقى من قيمة الحياة؟
وإذا كان للموت ثقافة فهي ثقافة تكريم الروح عند وداعها في رحلة العودة إلى خالقها راضية مرضية بما بذلت وما أعطت في سبيل الوطن والمواطن، وفي سبيل الحرية والكرامة والعدل.
لبنان وطن لهذه القيم، ولغايتها كان. ورسالته ودوره في عالمه العربي أن يكون في الطليعة بين من يسهم في تعميم ثقافة الحياة التي لا تعني سوى المعرفة والحرية والكرامة والعدل.
ولنتوقف عند هذه الأرقام التي نشرت أخيراً عن الأمية في عالمنا العربي من جهة، وعن هجرة العقول من هذا العالم نفسه.
هناك مئة مليون عربي، فوق سن الخامسة عشرة، أميون بالكامل، وهم نسبة الثلث من مجموع العرب.
وهناك ثلاثمائة ألف متخرج من الجامعات العربية كل سنة يهاجر منهم سبعون ألفاً من ذوي العقول التي تجد فرصاً لمغادرة أوطانها.
هل نستطيع أن نعرف كم هي حصة لبنان من العقول المهاجرة خلال أربعة عقود مضت على الأقل؟
نخاف الأرقام والنتائج والعواقب، لأننا سنكتشف أن لبنان يصدر شباباً وعقلاً وثقافة حياة، ويستورد سلاحاً ومتفجرات، وثقافة عصبيات، تهدد من بقي فيه وما بقي منه.
نحن أيها السيدات والسادة في عصر لا نستطيع الانفصال عنه، وليس لنا من قوة هذا العصر سوى العلم والثقافة والذكاء والمغامرة. وأهمية ثقافة لبنان أنها متعددة الفكر واللغة، فإذا صارت ثقافة موحدة قضي على لبنان، نحن في حاجة إلى تربية مدنية وطنية موحدة. وليس إلى ثقافة موحدة.
وحتى لا أختم على سواد أقول:
نحن في حاجة إلى أي ذرة إيمان بقيامة لبنان. فالإيمان ثقافة وليس سياسة.
وقيامة لبنان حقاً آتية.
شكراً لعامية أنطلياس الثقافة والحرية والفنون والعلوم.
شكراً لعامية أنطلياس لبنان الأمس، ولبنان الغد.
وشكراً للأصدقاء والزملاء الشهود على ما أعلنوا وعلى ما كتموا...
وشكراً لكل وجه أمامي في هذه القاعة وفي رحاب هذه الفسحة المضيئة التي تمثل نقطة الارتكاز في لبنان بين شمال وجنوب، وبين بحر وسهل وجبل.