تقديم "قاموس جبران" لـِ الكسندر نجار" وقراءات لنصوص جبرانية
بالتعاون مع "لجنة جبران الوطنية" في الذكرى 125 لولادته
الأربعاء 12 آذار 2008
مداخلة رئيس لجنة جبران الوطنية أنطوان الخوري طوق
كلمة المحامي الكسندر نجار
نلتقي هذه العشية في رحاب الحركة الثقافية - انطلياس، وضمن مهرجانها السابع والعشرين للكتاب، حول سفْر نفيس هو "قاموس جبران" وضعه بالفرنسية، الأديب والباحث، الفرونكوفوني البارز، المتعدد المواهب البروفسور الكسندر نجّار، ونقلته الى العربية الأستاذة ماري طوق، واصدرته "دار الساقي" - بيروت منذ أيام، في حلةٍ بهية، لم يجفّ حبرها بعد.
يجيء هذا الكتاب بمناسبة مرور قرن وربع على ولادة كبير أدباء العربية في القرن العشرين، عنيتُ جبران خليل جبران الذي ملأ الدنيا، وأسبغ على لبنان ألقاً وريادة، وغادرنا منذ سبع وسبعين سنة، وما زال صوته مدوياً، يردده السهل والجبل، السفح والتلّ، ولكن ما من سميعٍ فلبنان الذي صوّره عام 1920 ما زال على حاله، لبنان المعضلات وما فيه من منازع واغراض، لبنان المشكلة الدولية التي تتقاذفها الليالي، لبنان الطوائف والأحزاب المتناحرة، والحكومات ذات الرؤوس المتعددة، والخطب الرنانة الفارغة كأنّ شيئاً لم يتغيّر وكأن الزمان ما زال متعثراً بليداً لا يدور دورته، فما أشبه اليوم بالأمس البعيد وماذا تراه لو حلّ بيننا الآن وسألنا: ماذا فعلتم بأجمل وأقدس بلدٍ في هذا العالم، فَبِمَ نجيب؟
لقد نبّهتنا ولم نسمع، قلت لنا: إنهم وتقصِد الحكام، لحفظ عروشهم، سلحوا الدرزي لمقاتلة العربي، وحمّسوا الشيعي لمصارعة السنّي وشجعوا الأحمدي لمنازعة المسيحي، فحتى متى يصرع الأخ أخاه على صدر الأم والإمَ يتباعدُ الصليب عن الهلال امام عين الله؟ ولكننا أشحنا بوجوهنا عنك وصممنا الآذان مثبتين قول أحد الحكماء حين سًئِل: أصحيح ان التاريخ يعيد نفسه فأجاب: التلميذ الغبي يعيد صفّه، ترى أنكون اليوم ذلك التلميذ الغبي؟
وبعد، ليس "قاموس جبران" الصادر حديثاً كما يُوهم الأسم، قاموساً بالمعنى الحصري للكلمة، ولو رتّبت موضوعاته بتسلسل أبجدي، انما شاء مؤلفه ان يكون قاموساً انتقائياً يتطرق الى جملة من الموضوعات والمفاهيم الخاصة بجبران وبسيرته وبمعانيه الملغزة وتوخّى ان يجلو غوامض هذه السيرة، كاشفاً الضوء عن كثير من الأمور الملتبسة فيها، يعريها من كل ما لُفّق حولها من مزاعم او حيك من روايات زائفة، متوقفاً عند المؤثرات العامة في ادب جبران وفنّه، مستعرضاً آثاره بايجاز موضحاً ركائز العمارة الجبرانية فكراً وفناً وأدباً، ومنها التقمص والعود الابدي والذات المجنحة ووحدة الوجود، فحياة الانسان لا تبتدئ في الرحم كما انها لا تنتهي امام القبر وفي قطرة الماء جميع اسرار البحار وفي ذرة واحدة جميع عناصر الأرض وهو القائل: يا نفسُ إن قال الجهولْ الروح كالجسم تزول
وما يزولُ لا يعودْ
قولي له: إنَّ الزهورْ تمضي، ولكن البذورْ
تبقى وذا كُنْهُ الوجودْ
وفي الكتاب - القاموس، مسردٌ لاعلام، حاول المؤلف ان يميط اللثام عن العلاقات التي قامت بين جبران واصحابها وبهذا فليس القاموس محصوراً بجبران بل يتعداه الى عالمه الأرحب، لذا يُفرد المؤلف صفحات طوالاً لأمثال أمين الريحاني وميخائيل نعيمه وماري هاسكل وجوزفين بيبودي وويتر باينر وغيرهم مما يضيق المجال لذكرهم الآن. كما يفرد صفحات أخرى لمدنٍ وعواصم كبرى أقام فيها جبران كبشري وبوسطن وباريس ونيويورك او يتوقف عند مجموعة من الموضوعات الفكرية والفلسفية والدينية كالبهائية والصوفية والتقمص والماسونية وما الى ذلك، فضلاً عن تعريفات مقتضبة بكتب جبران ورسومه حتى غدا الكتاب أشبه بحديقة غنية بزهور متنوعة الأطياب أو بمتحف حافل بالروائع التي يحار الزائر في أمرها. بل قل انه كتاب موسوعي الطابع يضيء على هذه الشخصية الجبرانية الفذّة.
ولا عجب أن تشارك لجنة جبران الوطنية في هذا اللقاء، وهي المؤتمنة على نتاجِ هذا الكبير الكبير، ومن أحرى من الدكتور انطوان الخوري طوق أمين هذه اللجنة الكريمة بالمشاركة في هذه المناسبة والكلمة له فليتفضّل مشكوراً.
مداخلة رئيس لجنة جبران الوطنية أنطوان الخوري طوق
بداية أشكر الأصدقاء في الحركة الثقافية على عنادهم في الرهان على بقاء لبنان أرضاً للكلمة الحرة ومثابرتهم على مسح الغبار والحزن والزيف عن الوجه الحقيقي للبنان بأقلام المبدعين من أبنائه ومحبيه لاسيما في الأزمنة الصعبة ، كما أشكر الصديق الأديب ألكسندر نجار على هذه الإضافة الجديدة إلى المكتبة العربية بوجه عام والمكتبة الجبرانية بوجه خاص وأعني بذلك قاموس جبران خليل جبران الصادر عن دار الساقي ، كما أشكر الصديقة ماري طوق وهي المعجونة بالعصب الجبراني وعبق الأمكنة التي ترعرع فيها جبران على دقة الترجمة وسلاستها ورشاقتها .
جاء في مقدمة الترجمة العربية أن هذا القاموس يتيح لقارئه التعرف إلى أبرز العناصر المكونة لمشهدي جبران الإنساني والإبداعي إنطلاقاً من الترتيب الأبجدي لما هو أساسي في العالم الجبراني بحيث هذا يشكل هذا القاموس إطلالـة على عالم جبران أو مدخلاً للتعرف إليه .
إنطلاقاً من هذه المقدمة أعتقد أن قاموس جبران قد حقق الهدف من وضعه إذ يسهل ومن دون أي إدعاء الدخول إلى عالم جبران الرحب والمتنوع بالتواريخ والأمكنة والمفاهيم والأحداث والشخصيات عبر التعريف بالشخصيات الأدبية والفكرية والفلسفية والفنية والسياسية والدينية والإجتماعية التي عاصرها جبران أو كانت له علاقة بها وكانت قد تركت أثراً في حياته وأدبه وفنه وتوجهاته الكبرى ، وبالشخصيات التاريخية التي شكلت مصدر وحي وإلهام له إنطلاقاً من أسرته ومحيطه القروي إلى المحيط اللبناني فالعربي فالمشرقي فالغربي فالإنساني بشكل عام منذ ولادته عام 1883 حتى وفاته عام 1931 . هذه الشخصيات المعروفة عبر آثارها أو عبر الدراسات التي وضعت عنها يعيد القاموس التعريف بها كجزء من عالم جبران وذلك دون أن ينقل النص بالتفاصيل المستعادة .
أضف إلى ذلك التعريف المقتضب بمؤلفات جبران والمفاهيم التي تشكل الخلفية الفكرية لأدبه وفنه . ومن يقرا القاموس يلمس الجهد المضني في البحث والدراسة والتوثيق لإبراز ما أجمع عليه الدارسون . وفي ذلك لم يقع المؤلف بما وقع فيه أغلبية الذين تناولوا جبران ، بعضهم جعل منه أسطورة والبعض الآخر أمعن فيه نهشاً وتشريحاً لاسيما فيما يتعلق بطفولته وشخصيته وعائلته ومواقفه وعلاقاته النسائية والعاطفية مبتعداً في ذلك عن الإجتهاد الشخصي والشائعات والدعايات وعن أي سلوك فضائحي الذي وقع فيه البعض عندما تحدثوا عن النرجسية أو المثلية أو الأوديبية ، كذلك فالنصوص لا تحمل أية خلاصات تحتمل التأويل والتحريف والقراءة الأحادية والإدعاء بأن ما توصل إليه لم يصل إليه أحد من قبل .
أهم ما في القاموس هي الرصانة والموضوعية والحداثـة في تناول مختلف الموضوعات ، بحيث أن بعض الأمور التي تثير جدلاً في شخصية جبران تمّ التلميح إليها بمحبة وتسامح وإنفتاح، فالقاموس يعطي جبران الأهمية التي يستحقها كأديب لبناني له جذوره وهمومه المحلية وإمتداداته وروافده الإنسانية والعالمية .
كما أن القاموس يختصر مكتبة جبرانية بكاملها ويغني المكتبات لاسيما المدرسية والجامعية منها إذ يسد حاجة معرفية لاسيما في ظل عدم إقبال الأجيال الجديدة على المطالعة المعمقة ، وقد جاءت رسوم جبران والصور الفوتوغرافية للشخصيات التي عاصرها أو استوحاها وللأمكنة التي سكنته لتخفف من رتابة وجفاف القواميس العادية . وتتمثل حداثة القاموس بأن المكتبة العربية لم تتعود هذا النوع من المؤلفات . ونحن نعتبر صدور القاموس في الذكرى 125 لولادة جبران وقراءات رنده الأسمر وجوزف بو نصار سيشكلان مساهمة قيمة في سياق هذه الإحتفالية .
كلمة المحامي الكسندر نجار
منذ عام 1923، تاريخ صدور " النبي "، والعالم أجمع يحتفي باسمهِ. عام 1996، بلغت مبيعات هذا الكتاب تسعة ملايين نسخة في الولايات المتحدة الأميركية وحدها. قد طالما استهوى " النبي "، الذي نُقِل إلى أربعين لغة، من بينها الفرنسية التي نُقِلَ إليها في نحو عشر ترجمات مختلفة، جمهوراً واسعاً من القرّاء. ولقد حقّق في ألمانيا نجاحاً لافتاً، فيما احتلّت مؤخراً طبعةُ الجيب من ترجمته الإيطالية المراتب الأولى في لوائح الكتب الأكثر مبيعاً. أمّا في الستينات، فكانت الحركات الطالبية و" الهيبيّة " تبنّت هذا المؤلّف الذي يُعلِنُ صراحةً إنّ : " أولادكم ليسوا أولاداً لكم، إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسهـا (... ) " وإلى يومنا هذا، ما زال البعض يعمد، لمناسبات الزواج أو العَماد، إلى قراءة مقتطفاتٍ من " النبي ". الرئيس جون كينيدي، إستشهد بجبران في إحدى خطاباته والـBeatles إستلهموا من أعماله بيتاً من ابيات أغنيتهم الشهيرة Julia ، هناك، حيثما اتجهنا، أماكن وتماثيل ولوحات تذكارية تخلّد ذكراه : ففي الولايات المتحدة هناك نصبان يخلدان ذكرى جبران، أحدهما في كوبلي سكوير في بوسطن، والثاني في واشنطن، وكان قد أزيح الستار عنه في 24 أيار 1991 بحضور الرئيس جورج بوش الذي ألقى كلمةً للمناسبة أكّد فيها أن : " جبران هو رمز سلام... لقد استطاع، كشاعر وفيلسوف، استخراجَ " سرّ البحر من قطرة ماء ". كان الشعر هو اللغة التي بها استكشفَ أغوار نفسه وأظهر لنا أغوار أنفسنا... وارتقى بنا إلى حيث لم نعتدِ الارتقاء... "؛ كما أن متاحف مثل " الميتروبوليتان ميزيوم أوف آرت "لمدينة نيويورك، الذائع الصيت، و"فوغ آرت ميوزيوم، و" بوسطن ميوزيوم أوف فاين آرتس "، و" نيوارك ميوزيوم "، و" تلفير ميوزيوم أوف آرت " لمدينة سافانا بولاية جورجيا... تمتلك عدداً من لوحات الفنان، فيما افتتحت مؤخراً الجالية اللبنانية في البرازيل مركزاً ثقافياً أطلق عليه اسم " جبران ".
ومع ذلك... مع ذلك يبقى جبران غائباً عن معظم المعاجم والمؤلفات الغربية التي تتناول تاريخ الأدب. لماذا ؟ فهل يُفسّر هذا النبذ، بحقيقة أن " النبي " عملٌ غير قابل للتصنيف، ويبقى خارج الأنواع المتعارف عليها؟ إنه ليس رواية، وليس بحثاً، وليس قصيدة... إنه لا ينـدرج في أي نوعٍ أدبي محدّد. ومؤلفه أيضاً هو مؤلف غير قابل للتصنيف : فهو كاتب عربي يكتب بالإنكليزية، مولود في لبنان وعاش في الولايات المتحدة، على العتبة بين شرق وغرب؛ جبران كاتبٌ مُحيّر ...
صدرت عن جبران كتبٌ ومقالات وأبحاث عدّة ، إلاّ أنه لم يُفـرد له في اللغة العربية ، قاموس يتيح لنا التعرف إلى أبرز العناصر المكوّنة لمشهديه الإنساني والإبداعي .
إنطلقنا في قاموسنا ، الصادر اليوم عن دار الصاقي ، من الترتيب الأبجدي لما رأيناه أساسياً في العالم الجبراني . فهو ليس قاموساً مصطلحياً حصرياً للموضوعات أو السيرة أو المفاهيم الخاصة بالكاتب أو معانيه الملغزة ، بل هو قاموس إنتقائي يتطرق إلى كل هذه الأمور ، وقد أرفقناه في معظم الأحيان برسوم وصور فوتوغرافية تجعل الوجوه أكثر ألفة وبرسائل ووثائق نادرة أو غير منشورة من قبل ، وتلقي أضواء على شخصية جبران الملتبسة ، خصوصاً أنه كان كاتب رسائل لا يكل . وتوخينا أن نجرّد سيرته ونجلو غوامضها ، ما أمكن ، لدى تناول موادها المتعددة بدءاً بولادته وهجراته وعلاقاته العاطفية وصداقاته وإنتهاء بوفاته ووصيته ، وسعينا إلى تعريتها من كل ما لُفّق حولها من مزاعم وحيك من روايات مزيفة أو مغلوط فيها . ويتطرق هذا القاموس إلى تبيان تأثرات جبران والمصادر الني نهل منها سواء كانت إتجاهات فنية كانت أو عقائدية أو دينية أم أدباء معيّنين : يسوع ، نيتشه ، وليم بلايك ، التصوف الإسلامي ، التيوصوفية، ... كما يستعرض آثاره ومؤلفاته مبرزاً أهم الموضوعات التي كانت ركائز البناء الجبراني : التقمـص ، العود الأبدي ، الذات المجنّحة ، وحدة الوجود ، ... والأمكنة التي سكنها أو سكنته ، فكانـت إما منطلقاً لخياله ووجدانه وملهمة لهما وإما لسعيه الفنّي وشهرته العالمية : بشري ، بوسطن ، باريس ، ... ومختلف الحقب والمراحل التي ميزت حياته ، والنساء اللواتي رسمنها : كاملة رحمة ، جوزفين بيبودي ، ماري هاسكل ، ... والمفردات التي إكتسبت تحت ريشته هالة طقسية أو مدلولاً رمزياً : الغاب ، الضباب ، العواصف ، البحر ، ... ومختلف المواد المتعلّقة بجبران الرسّام .
ولأن جبران من تلك الشخصيات التي تستدعي حياتها تفسيراً وشرحاً وفتحاً متواصلاً لأبوابها المقفلة ، بمقدار ما تستدعي مؤلفاتها ، ومع ما يمثّله من أهمية تزداد ثباتاً وإنتشـاراً ، خصوصاً وأن كاتب " النبي " بات مرجعاً من مراجع الحكمة في الأدب العالمي ، يقترح هذا القاموس إطلالة على عالم جبران أو مدخلاً للتعرف إليه .