ندوة كتاب الدكتورة سعاد سليم ابو الروس
"الوقف الارثوذكسي خلال العهد العثماني "
كلمة الدكتور انطوان ضومط
كلمة الأب انطوان راجح
كلمة د. جورج جحا
كلمة د. الياس القطّار
كلمة الدكتور انطوان ضومط
ان الحركة الثقافية - انطلياس في اطار نشاطات المهرجان اللبناني للكتاب، تنظّم هذه الندوة حول كتاب الصديقة والزميلة الدكتورة سعاد ابو الروس سليم المعنون " الوقف الارثوذكسي في لبنان خلال العهد العثماني"، نظرا لاهميته، وتعميما للفائدة حول موضوع الاوقاف في لبنان.
ايها الاصدقاء
منذ ان استقر الانسان في جماعة نشأت علاقاته الجدية بالارض، وعلى رغم انتظام اموره الاجتماعية والقانونية او العرفية بخاصة في الاميراطوريات الكبرى القديمة استمرت الاشكالات حول ملكية الارض و استغلالها، وقد تباينت احكامها في ما بين الدول.
وان عجز الانسان عن تفسير معنى الوجود ومسألة الخلود دفعه الى ابتداع الآلهة ليلوذ بها، فشيّد لها الحكام على وجه العموم الكثير من الابنية الدينية، وخصصوا لها الكهّان ومساعديهم، وافردوا لها الاراضي اما اقطاعا او استغلالا. لأنها وحدها كانت باعتقادهم قادرة على السيطرة على مصائر الناس والتأثير باحوال الطقس ، والتخفيف من الكوارث، والبراء من الامراض، والانتصار في المعارك وهكذا... واعتقد الناس انهم كلما تماهوا في عبادتها وقدّموا لها القرابين والهدايا والهبات واكثروا من وهبه الاراضي لها، بالمقدار عينه تمنحهم بركاتها وتستجيب لطلباتهم. والى ذلك شكّل وهب الاراضي لأماكن العبادة احد اهم ركائز نشؤ نظام الاوقاف.
وعجزت الديانات التوحيدية عن محو تلك العادات لأنها باتت في صلب الثقافة العامة الاجتماعية والتراثية. واستبدل المؤمنون المسيحيون الآهة المتعددة بالآه الواحد والقديسين، وشيّدوا لهم الكنائس والاديار، واوقفوا عليها الاراضي. وفرضت الانظمة الديرية على رهبان الاديار نمطا قاسيا من حياة التقشف والزهد فمارسوا الى جانب عباداتهم، وما تفرضه عليهم حياتهم الدينية من علاقة اجتماعية واخلاقية ودينية ورعائية تجاه محيطهم الاجتماعي، العمل القاسي بالارض، فباتوا فلاحين او مزارعين في اديارهم واستصلحوا الاراضي.
واذا كانت المسيحية قد اقرّت نظام الوقف فان الاسلام حدد له شروطا خاصة، فالارض في الاسلام هي ملك لله، ويحقّ للخليفة او من ينوب عنه اقطاع الاراضي اوتمليكها. ولما كثرت الاماكن الدينية الاسلامية كالمساجد، والجوامع، والتكايا، والزوايا، والربط، والترب والمدارس...التي انشأها الحكام او اصحاب المراكز السامية، و اهل الخير والصلاح، واوقفوا عليها الاراضي والمعاصر وما الى ذلك لكي يرتزق بها القيمون عليها، وهي في المنظار الاسلامي الشرعي وقفا ابديا لا رجوع عنه.
والجدير ذكره ان العالم الاسلامي المشرقي، بوجه عام في العصور الوسطى بدءا باواخر العصر العباسي الثاني وانتهاء بعهد المماليك، قد حكمته انظمة عسكرية تمتع بموجبها اولئك الحكام الاغراب بحق الانتفاع بالارض من طريق الاقطاع اما استغلالا او تمليكا، وبتعبير اوضح اُعطي الاقطاع للوظيفة. وكان يسقط عن صاحبها بمجرد تركه الخدمة. وكان بعض اصحاب ذي الشأن قد ملكوا الكثير من الاراضي ابان ممارستهم لوظائفهم، ورغبة منهم بتوريث بعضها في ذريتهم، لكي لا يسترجعها بيت مال المسلمين، ابتدعوا نمطا جديدا من الوقف عرف " بالوقف الذري". وهي طريقة احتيالية على الشرع ان جاز التعبير، بحيث كانوا يوقفون الكثير من الاراضي التي كانت في حوزتهم اما على تربة او مدرسة شيّدوها، او مسجد بنوه او غير ذلك مما ذكرنا من الابنية الدينية والاجتماعية والثقافية، ويذكرون في وقفياتهم عدد القيّمين على الوقف ومهام ومقدار راتب كل منهم، ويجعلون احد ورثتهم قيّما عاما عليه يتوارث مركزه ابناؤه من بعده. وانتقل هذا النمط، بنسب متفاوتة، الى الاوقاف المسيحية، فعمّ المناطق المشرقية كلها ومنها لبنان، ولم يكن حكرا على مذهب محدد، بل شمل كل المداهب المسيحية.
ودرج الحكام بخاصة السلاطين وكلما كانت تزداد الاملاك الموقوفة نتيجة مساهامات المؤمنين لاهداف دينية محضة، او غايات اجتماعية اما تقربا من الله في المطلق، او ايفاءا لنذور، على السطو عليها متوسلينن انواع الذرائع، كالاستعداد لمجابهة خطر خارجي، او لبناء اسطول، او لأن قحطا ما قد ضرب البلاد... ولم تسلم الاوقاف المسيحية بدورها من عملية السطو تلك، فتوسّل السلاطين ذرائع لا يمكن تصنيفها الا في خانة السلب لزيادة اموالهم، او لتوفير بعضها لصالح بيت المال الذي يكونون شبه افرغوه من الاموال، كأن يُزعم ان الافرنج سطو على مراكب تجارية اسلامية، او اعتدوا على ثغر اسلامي ما، وما الى ذلك.
اما الاراضي الاقطاعية في العهد العثماني فقد توزعت وفق تنظيم جديد: التيمار، والزعامت، والخاص الهمايون. وغدت اراضي الاوقاف المسيحية جزءا من اراضي التيمار، ويسري عليها القانون العثماني الذي كان يميّز بين اراضي الملك التي تخضع لضريبة الخراج، والاراضي الاقطاعية الاخرى التي تضمّن وفق النظام المذكور. ولم يسر الاقطاع العثماني على نمط واحد: فقد بدأ بنظام فرسان السباهية، ثم الملكانة فالالتزام بانواعه المتعددة. ولم تكن دائما مواقف السلاطين والولاة والحكام الاقل شأنا متطابقة الرؤى الاقتصادية والمواقف تجاه المسيحيين ومنها مسألة الاوقاف، فهي تنوعت بين تأزيم وتساهل، بخاصة انه يمكننا ان نميّز في العهد العثماني بين ثلاثة مراحل محددة المعالم: القوة والازدهار، الانحطاط، التنظيمات على الرغم من كونها جزءا من عهد الانحطاط. وهي من دون شك كانت بالغة التأثير على حكام المقاطعات اللبنانية.
ايها الاصدقاء، لن اتطرق بالكلام على الاقطاع العثماني الى اكثر من ذلك لأنه يتقاطع مع موضوع هذه الندوة من حيث علاقته العضوية بالاراضي الوقفية، علما ان لي مساهمات واسعة فيه، ولا سيما الدرسة المعنونة " الاقطاع العثماني بين الحداثة والتقليد"، فاسحا في المجال للمحاضرين الكرام للكلام عليه.
بداية، يسعدني كثيرا أن أعتلي مجدّدا منبر الحركة الثقافيّة-دير مار الياس انطلياس، التي كنت محظوظا بالمشاركة لمدّة في تنظيم ورشاتها الفكريّة وتظاهراتها الثقافيّة واكتسبت فيها ما سهّل عليّ مهمّتي الجامعيّة في مناحيها البحثيّة والثقافيّة والانتاجيّة. لذا أحيّي رئيس هذه الحركة العريقة، الرائدة في ابتداع مبادرات وطنيّة، وأمينها العام وجميع الأعضاء في الهيئتين: الاداريّة والعامة، وأحثّ اصحاب الكفاءات على الانتماء اليها والى مثيلاتها، لانّ وطننا بأمسّ الحاجة الى التطوّع الخلاّق والمبادرة التغييريّة.
ويطيب لي أن أعبّر عن تقديري العميق لمؤلّفة الكتاب الذي نحتفي به اليوم الدكتورة سعاد الرّوس سليم، لا على جدّيتها ورصانتها والمثابرة وحسب، بل وعلى حسّها الانساني والاجتماعي المرهف الذي يزيّن فضائلها ويسمها بقوّة بسمات الباحثة الحقّة، عنيت تلك الاستعدادات النفسيّة والمعرفيّة والتنفيذيّة التي يحوّل بها الباحث فضوله وقلقه من المجهول الى استراتيجيّات استدلاليّة واستقرائيّة واستشرافيّة تفضي به الى توسيع أفق المعرفة والى اشباع فضوله موقتا، لا بما يسكت الفضول، بل بما يرفعه الى مستوى أعلى من التطلّب، هو وقود انطلاقه الى بحث جديد.
يليق بالدكتورة سليم أن تفخر بما أنجزته حتّى الآن، بدءا بالاطروحة التي أعدّتها لنيل شهادة الدكتوراه، وصولا الى كتبها والمقالات التي تشهد بعناوينها وفحواها وعمق معالجاتها، على عظمة واضعتها، بحيث يسعى الى اقتنائها ودرسها والافادة منها كلّ جادّ وكلّ عارف. وأهنّىء بالمناسبة جامعة البلمند الزميلة اذ حظيت بشخص كفوء مثل الدكتورة سليم لادارة مركز الدراسات في الجامعة، مركز هو الصورة الاسمى لكلّ جامعة في لبنان وخارجه.
وبعد، فانّ موضوع الاوقاف، اسلاميّة كانت أم مسيحيّة، كاثوليكيّة كانت المسيحيّة منها أم ارثوذكسيّة أم سوى ذلك، هو من الموضوعات الشائكة التي ترهب الباحثين والمؤرّخين والقانونييّن السابقين والراهنين، فيمسكون عن الكلام عليه أو عن اقتراح تعديلات على تنظيماته أو حتّى عن الادّعاء بالالمام به وبمنظوماته، لكنّهم يقرّون جميعهم بكونه مفتاحا رئيسا في فهم مجتمعاتنا من حيث الاقتصاد ووسائل الانتاج وكيفيّة توزيعها، والنسيج الاجتماعي وطبقاته، ومرتكزات الملكيّة العقاريّة، وأثر الدين في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وغيرها ممّا لا يستقيم فهم المجتمع من دونه.
وهنا أتوّقف لألفت، استطرادا الى تأثير الشعوب نفسها وممارساتها على الاديان، فأقول مع أمين معلوف: "نعطي عادة أهمية مفرطة لتأثير الديانات على الشعوب وتواريخهم، ولا نعير الاهتمام الكافي لتأثير الشعوب وتواريخهم على الأديان. (ويتابع) أعرف انّ التأثير متبادل (...) الاّ أنّني ألاحظ عادة فكريّة تقودنا الى رؤية جانب واحد من هذه الجدليّة، ممّا يضلّل المقاربة"[i]. فدعونا، من باب الدقّة العلميّة، والحرص على الحقيقة، نعيد الدين كظاهرة اجتماعيّة الى مستواه الحقيقي كحلقة في جدليّة، له فيها دور الفاعل والمنفعل ازاء تعقيدات الواقع الأخرى التي نميل في أحيان كثيرة الى تغييبها متعاملين مع المعطى الديني على أنّه اللاعب الأوحد في مصير الشعوب.
أغلق هلاليّ هنا لأعود الى موضوعنا. لقد تصدّت الدكتورة سليم بجرأة لموضوع الأوقاف، فلم تقف كتابها عند تحليل حجج أو صكوك وحسب، بل راحت تنقّب بين ندرة الوثائق المسيحيّة وترابطاتها مع وفير الوثائق الاسلاميّة، وفي تقاليد الشعوب ومعتقداتها، فاستخلصت النهج والنظم من الصكوك والحجج نفسها ومن علاقة السلطات الكنسيّة العليا بالحكّام والسلاطين، فتطرّقت الى نشأة الاوقاف وجذورها وتطوّرها قبل أن تتوسّع في الحقبات العثمانيّة، المتنوّعة هي بدورها بين حقبة وأخرى، وان طاولت جميع المحافظات، وصولا الى الاوضاع الراهنة.
وحول نشأة الوقف تقول الدكتورة سليم ان فكرة "حبس الشيء" المعرّف عنها في الشريعة الاسلاميّة وفي مراجع العلماء المسلمين بكلمة "وقف" تتطابق وتحديد الكنيسة بعامة لمفهوم الاملاك الزمنيّة، وذلك منذ المجامع المسكونيّة الاولى في القرن الرابع. والواقع انّ الكثير من عناصر الوقف، بدوافعه وغاياته، بطبيعته وفرادته، لا بل وأيضا بغرابته، وجدت قبل المسيحيّة وتطوّرت بعد نشوئها، فعرفها الرومان الوثنيون أولا، بفرعيها الخاص والعام، وأسسّوا ما عرف بـ الأشياء المقدّسة Res sacrae (وهي الاشياء المخصّصة لعبادة الآلهة وسكناها، كالمعابد والأراضي الواقعة عليها وبعض الغابات أو التلال التي كان يعتقد بأنّ الآلهة قد اختارتها لاقامتها)، والاشياء الدينيّة Res religiosae (وهي الاشياء المخصّصة لعبادة ارواح الأجداد (كالمقابر) والآلهة السفلى، أي الآلهة المنـزليّة)، والاشياء الموضوعة في حماية الآلهة Res sanctae (أي الاشياء المحميّة من الآلهة دون أن تخصّص لعبادتها، كأسوار المدن وأبوابها وحدودها)، وأموال الائتمان، وكلّها شبيهة بالوقف في اخراجها من دائرة التعامل التجاري. فكان أن دخلت في التقليد الروماني وامتزجت بأعراف ابناء المنطقة ومن تعاقب عليها، على اختلاف مللهم، ولذا كانت العوائد الرومانيّة في القرون الاولى خير دليل مرجعيّ لبتّ شؤون الاوقاف. ولقد كانت الكنيسة الناشئة أوّل من أفاد من هذه التنظيمات.
كلّ المفاهيم التي أوردتها عادت وظهرت بقوّة مع ظهور الاسلام وتوطّده وحكمه، فنشأ ما سمّي صراحة بالوقف، وعزي انشاؤه وتأسيسه الى النبي محمّد، استنادا الى البخاري (أي المجموعة الأكمل لأحاديث النبي، وهو يحمل اسم واضعه محمّد بن اسماعيل البخاري "194-256 هـ")، الاّ انّ كاتبا كجوزف شاخت Joseph Schacht يقول انّ من مصادر الوقف على لسان النبي: تقليد المؤسسات التقويّة في الكنائس الشرقيّة الماثلة امامه[ii]، وآخر كالخوري يوسف زياده في تعليقه على كتاب مختصر الشريعة للمطران عبدالله قرألي، يقول: "انّ الشريعة الاسلاميّة مستمدّة أيضا من الشريعة الرومانيّة ما خلا بعض العادات والمواد الخاصة بالديانة الاسلاميّة وما يتفرّع عنها، لانّ الدولة الاسلاميّة خلفت الدولة الرومانيّة في بلاد المشرق في سننها وعاداتها"[iii].
يطول الكلام على هذه النشأة ولذا، فبعد تلميحات تاريخيّة قديمة سريعة، تركّز الدكتورة سليم القسم الاوّل من الكتاب لتحليل محطّات ثلاث في النهج العثماني وفي تعاطيه مع الاوقاف المتكاثرة لدى المسيحييّن في ظلّه:
من مرحلة أولى عرفت بمصادرة الاوقاف ووضع اليد على ادارتها بهدف الافادة منها بأعلى المقادير الممكنة، خصوصا وان الاوقاف كانت مصدرا مهما للتمويل، وكان السلاطين يمنحونها لسلالاتهم وحاشياتهم،
الى مرحلة ثانية منحت السلطنة خلالها أوقافا أميريّة، فاستحدثت مفاهيم جديدة لقيام الوقف، مبدّلة بذلك في أصل نشوئه ودافعه،
فمرحلة ثالثة بدأت منتصف القرن التاسع عشر وشكّلت مرحلة اصلاحات وتشريع طاولت بنية الوقف نفسه، ولكنّها أجازت للعلمانييّن مساندة رجال الدين في تولّي ادارة الاوقاف، فشهدت الاوقاف المسيحيّة التي اعتمدت هذه المساندة ازدهارا ملحوظا، عبر ترشيق الامور المركزيّة، وتأسيس مدارس نهضويّة، ومن خلال شراكات أجرتها، ولعبت دورا رئيسا في الانتاج والاقتصاد، وان انتهت هذه الشراكة بعد مدّة بخلافات قويّة لانّها لم تواكب بتحديث تشريعي لازم.
يبيّن الكتاب أيضا أنواع الوقف ويقسمه الى نوعين: الخيري والذرّي أو الاهلي. كلاهما يفترض تنازل المالك عن حق التصرّف بما وقفه، بحيث يخرج الوقف من دائرة البيع والهبة والرهن والارث، مع بقاء امكانيّة الايجار الطويل أو القصير الاجل، ولاحقا امكانيّة الاستبدال. فاذا كانت الجهة المنتفعة كنيسة أم مسجدا أم مؤسسة خيريّة للفقراء أو للاطفال يكون خيريا واذا وقفت على أجيال المؤسس كانت أهليّة أو ذرّية. وعلى هذا النهج سارت الأمور وتكوّنت الاوقاف لتشكّل تراثا وثروة ثقافيّة وفنية، تراثا تمّ بناؤه تدريجيا على مدى أربعة قرون.
يظهر المؤلّف فرادته في التركيز على الاوقاف الارثوذكسيّة اليونانيّة خلال الفترة العثمانيّة، فيوضح أهميّة هذه الاوقاف ومدى تأثّرها بحسن العلاقة بين المرجعيّات الارثوذكسيّة والامبراطوريّة، والامتيازات التي حصل عليها البطريرك جناديوس بعد تعيينه من قبل السلطان، فاعتبرت الضمانات الظاهرة الممنوحة للطائفة، بنتيجة تعاونها، نوعا من انواع الحوار بين الديانتين. في هذا الصدد، تكشف الكاتبة عن وثيقة "اعلان نيّة" مكوّنة من عشرين مادّة، وضعها البطريرك لتسهيل اطّلاع السلطان على معلومات تتعلّق بشكل رئيسي بالعقيدة الايمانيّة المسيحيّة[iv]. كما تكشف، من خلال الكتاب الذي حوى الاعلان، كيف اعتبرت الطائفة الارثوذكسيّة السلاطين العثمانيين كالاباطرة البيزنطيين. وتلفت الكاتبة الى أنّ الكنيسة في انطاكية -سلطة ومؤمنين- لم تشارك في مجد البيزنطية وانتصارها، وتذهب الى انّ الكنيسة الانطاكيّة لم تتّسم بروح الحروب الصليبيّة بل بروح الصليب. وقد نقلت عن غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع وصفه هذه الحقبة بعيش استشهاد الصمت والانكباب على اثراء الروح والعقائد والطقوس.
في كلّ حال، توثّق المؤلّفة كلّ معلومة تدلي بها وتسندها الى مراجع متخصّصة، ولقد عالجت، على هذا النحو، عرضها المسهب والمعلّل لاوقاف بيروت والبلمند وبعض الاديار الارثوذكسيّة، مستعرضة طرق ادارتها وخاتمة بالوضع الحالي للاوقاف وببعض المشكلات التي يقتضي حلّها تطوّر مفاهيمها عند الاكليروس والعامة على السواء.
هكذا فانّها تظهر انّ قانون الاوقاف لطائفة الروم الارثوذكس المقتصر حاليا على تسع مواد تتناول الوقف الخيري، انّما صيغ بنتيجة خبرات طويلة. هذا أيضا قول دقيق خصوصا وانّنا نجد جذورا واضحة لبعض مواد هذا القانون في كتاب قدري باشا كشروط صحّة الوقف واخرى في مجمع خلقيدونية بشأن عدم صحّة بيع الوقف، واحكام الخط الهمايوني الصادر في 10 جمادي سنة 1272 (18 شباط 1856) بخصوص المجلس الطائفي، واخرى كان لحظها ابن العبري في كتاب "الهدايات" عندما قال انّه : "لا يحقّ لأحد أن يوقف أيّ شيء لنفسه، الاّ اذا كان قد أوقف للفقراء وافتقر هو بدوره، فيحقّ له عندها أن يساعد كواحد من الفقراء (...)".
وحيث لا يمكنني التطرّق في هذا الحفل الى كلّ مكنونات الكتاب، فانّي أدعو الى اقتنائه والتلذّذ في الانكباب على قراءته بتمعّن، كما أدعو المرجعيّات العليا المسؤولة عن تحديث قوانين الاوقاف والقلقة من حساسيّة الطروحات المحتملة ومن مشقّة ايجاد الاشخاص الكفوئين، ليس عند الارثوذكس وحسب، بل وعند الكاثوليك وسواهم أيضا، الى الافادة من دقة اطّلاع الدكتورة سعاد ومن موضوعيّتها وتجرّدها العلمي، لارساء سياسة نموّ لهذه المؤسسّات التقيّة التي أفادت الكثيرين والكثير.
وأتطلّع بشوق وفضول، كجميع الذين يعرفون مواهب الدكتورة سليم البحثيّة، الى كتابها المقبل موقنا أنّ في مواهب البحاثة اللبنانيين أمثالها ما يقدر أن يجعل بيروت عاصمة دائمة للكتاب فيما لو حظي الكتاب الكتاب، والكتّاب الكتّاب، بالدعم الذي يستحقّونه. شكرا لاصغائكم.
[i] A. MAALOUF, les identities meurtrières, Paris 1998, p. 79.
[ii] Schacht J., Introduction au droit musulman, trad. De l'anglais par Kempf et A. Magid Turki, maison-neuve &Larose, 1983, p.28, cité par Simonnot Philippe, Les Papes, l'Église et l'argent, histoire économique du christianisme des origines à nos jours, Paris 2005, p. 238.
[iii] الخوري يوسف زياده، القضاء الماروني وعلاقته بالشرع الروماني، جونيه 1929، ص 5-6.
[iv] تقول الكاتبة في التمهيد ان الاعلان وجد في كتاب ل Theodoros of Monembasia بعنوان "سلسلة من لؤلؤ الملوك البيزنطيين" (The string of pearls of Bezantine) ، متوفّر بالترجمة الى العربيّة في دير البلمند في لبنان. ويتعلّق الكتاب بتاريخ الملوك البيزنطيين، من بداية القسطنطينيّة حتى آخرها. ويكمل الكاتب قصّته بعد سقوط البيزنطيّة بتناول الملوك البيزنطيين والسلاطين العثمانيين وصولا الى سليمان الرائع.
دور ألتاريخ
في إحياء أوقاف أديرة
كنيسة إنطاكية للروم الأرثوذكس
قدس ألآباء ألأجلاء
أيها السيدات والسادة
للتاريخ أهمية كبيرة في أحياء أوقاف أديرة كنيسة انطاكية للروم ألارثوذكس. ويصح القول كذلك بأهمية الاوقاف في كتابة التاريخ اذ أن الامرين متداخلين بقوة.
يقول بيار شانو " إن التاريخ التسلسلي الذي يقدم دراسات دقيقة عن الماضي يمكننا من قراءة أفضل للوضع الراهن المنبثق من الماضي ، ثم يقودنا تدريجيا إلى سبل المستقبل ". ولكن ينبغي ألا نفتش عن الكمال في الماضي، بل يجب أن نتوخاه ونتحرى حدوثه في المستقبل اذا أحسنا العمل حاضرا.
وهكذا فأن مقاربة موضوع تحسين الأوقاف مرتبطة ارتباطا وثيقا بالماضي حين كانت الأوقاف مزدهرة ، ثم اعتراها الإهمال إلى الوقت الحاضر، حين ظهرت بوادر خجولة للنهوض بها. ولكن يبقى أن العمل المتوخى مستقبلا للنهوض بالأوقاف ، يرتكز، بالدرجة الأولى ، على قرار القيمين على الأوقاف وتوق المؤمنين إلى تحسين إنتاجيتها وتوحيدها مستقبلا .
بالعودة إلى التاريخ ، نرى أن الرهبنات قامت ، في فترات زمنية متفاوتة ، بالعمل بنفسها في أراضي الأوقاف المتسعة بدون اللجوء الى شركاء . ولكن ، مع التقلص التدريجي لعدد
الرهبان ، ولاسباب اخرى ، منها الرغبة في تفرغ الرهبنات للعبادة وممارسة الحياة الروحية وترك العمل في الحقل الى آخرين . لذلك ، لجأ رؤساء الأديرة قبل القرن الثامن عشر، إلى ممارسة نظام الشراكة في الاستثمار لزراعي ، وأدخلوا المرابعين الذين يقدمون العمل لقاء ربع الإنتاج، بينما تقدم الأديرة الأراضي ومستلزمات الإنتاج ، من بذور وشتول وأدوات وحيوانات عمل من ثيران وبغال وخيول وغيرها. ثم تطور هذا ألنظام لصالح المرابعين فأصبح من حقهم حيازة ربع الشلش اي ( ربع جذور الاشجار التي يخدمونها) في محاولة لضمان الاستمرار في الشراكة مع الأديرة. إما اليوم ، ونظرا لعدم توفر العدد الكافي من الرهبان لاستثمار كل أراضي الأوقاف ، فان هذه السابقة التاريخية يمكن الركون إليها في تنظيم أي برنامج استثماري مستقبلي لكافة أراضي الأديرة ، بحيث يكون للمواطنين فيه دور رئيسي بالمشاركة أو المحاصصة . ثم كانت محاولات للاستثمار المباشر من قبل الأديرة تحت اشراف المطرانيات في حقب مختلفة . وهذا الشأن هو موضوع حديثي وإياكم هذا المساء .
إن مداخلتي مبنية على خبرة شخصية معاشة على رأس فريق عمل لإحياء أراضي الأوقاف في ثلاث أبرشيات ، وأوقاف البطريركية في لبنان وسوريا ، خلال ثلاث سنوات 1971 - 1973. ولا يخفى إن خبرتي هذه أصبحت أيضا من الماضي ، أو من التاريخ الحديث للأوقاف .
في سنة 1970 قام المجمع المقدس ، برئاسة المثلث الرحمات البطريرك الياس الرابع ، بتعين لجنة للاهتمام بالأوقاف تحت اسم " لجنة الأوقاف والمالية المجمعية للروم الأرثوذكس " التي أسندت رئاستها إلى سيادة المطران اسبيريدون خوري ، متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعها. أما عضويتها فكانت مختلطة بين علمانيين واكليريكيين . في ذلك الوقت كنت في إجازة لمدة ستة اشهر Sabbathical leaveمن عملي لدى مجلس الكنائس العالمي في حقل التنمية الزراعية والريفية في العالم الثالث قضيتها مع عائلتي في لبنان. وبموافقة رؤسائي في المجلس العالمي عينت مديرا لأعمال اللجنة المذكورة مباشرة بعد تشكيلها ، وشاركت في أول اجتماع عمل لها في دير مار اليأس شويا برئاسة صاحب الغبطة . في ذلك الاجتماع ، تم التوافق على ضرورة الاهتمام بالأوقاف في الأرياف أولا ، لان مساحاتها المتسعة لا تنتج إلا القليل، وهي في الغالب مهملة لدرجة أن أقساما منها مهجورة ، خاصة تلك التي ليس لها طريق معبد. وحددت اللجنة أهدافها في اربعة عشر بندا لتحسين وضع الاوقاف تبدأ باجراء جردة عامة للاوقاف وتنتهي بتنفيذ مشاريع انمائية ، كما يلي:
1. القيام بجردة دقيقة لجميع أوقاف الكرسي الانطاكي مع تحديد مساحة كل عقار بالمتر المربع
2. تصنيف أراضي الأوقاف إلى فئات حسب درجة خصوبتها ، ابتداءا من الأرض المروية المنبسطة العميقة التربة والقابلة للمكننة إلى الأرض الصخرية المنحدرة الموات غير الصالحة للاستثمار الزراعي ، وتحديدها على خرائط المساحة، وهذه الفئات هي:
ارض مروية
ارض قابلة للري
ارض بعل سليخ - زراعة مطرية
ارض مغروسة اشجارا مثمرة - زراعة مطرية ( زيتون ولوز)
ارض قابلة للاستصلاح من الدرجة الأولى
ارض قابلة للاستصلاح من الدرجة الثانية
ارض قابلة للاستصلاح من الدرجة الثالثة
أحراج سنديان وأجمات ونباتات مشوكة معمرة Garigue
غابات صنوبر مثمر وصنوبر حلبي وأشجار خروب وملول وغيرها
ارض صخرية صالحة للبناء
ارض صخرية منحدرة تصلح للبناء بعد الاستصلاح
ارض موات منحدرة جدا غير قابلة للاستصلاح أو للبناء
العمل تدريجيا على إلغاء الشراكة وعدم تجديد تأجير أراضي الأوقاف والتوقف عن تضمين المحاصيل
العمل على تكثيف الإنتاج الزراعي في الأراضي الخصبة
3. استصلاح الأراضي من جميع الفئات
4. شق وتعبيد الطرق إلى الأديرة المعزولة
5. التوسع في ألزراعة القائمة وإدخال زراعات جديدة
6. الاهتمام بأحراج السنديان وتنميتها ومنع الرعي فيها
7. تحريج الأراضي المنحدرة والصخرية وأخذ شهادات تحريج من وزارة الزراعة
8. تحسين المساحات المشجرة بالصنوبر المثمر والصنوبر الحلبي
9. أعداد وثائق مشاريع إنمائية زراعية مع تبيان جدواها الاقتصادية واستخدام
الموارد واليد العاملة المحلية في تنفيذها
10. المحافظة على الخدمات المقدمة ، أو التي كانت تقدم، إلى التجمعات البشرية
المحيطة بالأديرة وتحسين أداء هذه الخدمات
11. دراسة إمكانية تجميع الملكيات المبعثرة في قرى ومناطق عقارية مختلفة
(عقارات صغيرة) عن طريق البيع والشراء للحصول على مساحة كبيرة
في مكان واحد قابلة للري والمكننة وذات جدوى اقتصادية
12.العمل على تنمية الموارد البشرية اللازمة لتحقيق الأهداف أعلاه
شكلت اللجنة فريق عمل من متطوعين كلفت برئاسته . وباشر الفريق عمله مبتدئا بأجراء جردة الأملاك التي شملت ، في المرحلة الأولى ، أربعة أقسام هي : أديرة أبرشيتي جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان) وأديرة أبرشية طرابلس والكورة وتوابعهما وأديرة البطريركية في لبنان وسوريا والأوقاف المحلية في أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما. طبعت نتائج الجردة على ألآلة الكاتبة تباعا في أربعة مجلدات ووزعت توزيعا محدودا جدا. وحسب معرفتي ، هي الجردة الوحيدة التي جرى تنفيذها منذ ذلك الوقت . وعليها اعتمدت ، وتعتمد، جميع المشاريع الإنمائية التي نفذت وتنفذ في أراضي الأوقاف إلى الوقت الحاضر .
وبعد عدة اجتماعات عقدتها لجنة الأوقاف والمالية المجمعية لتقويم نتائج جردة الأملاك ، أخذت قرارا بتنفيذ برنامج إنمائي في أحدى الأديرة ، يحقق الأهداف الموضوعة فيكون بذلك ديرا رائدا تحذو حذوه سائر الأديرة. وفي هذا السياق وقع الاختيار على دير سيدة كفتون ليكون النموذج للأسباب التالية:
- الدير مقفل منذ سنوات
- أملاك الدير متنوعة منها المروي والبعل والإحراج والغابات وأراضي من كل الفئات
- أراضي الأوقاف بمجملها مؤجرة لمدة ثلاثين سنة قابلة للتجديد
- القسم الأكبر من أراضي الدير مهمل
- الأراضي المروية والخصبة بمحاذاة نهر الجوز بحاجة إلى استصلاح
- الدير قريب من القرى في قضائي الكورة والبترون
- يقع الدير في أسفل وادي نهر ألجوز وليس له طريق معبد وعلى قاصديه السير على الإقدام هبوطا وصعودا لذلك أضحى زواره قلة من الشباب أصحاب النذور لسيدة دير كفنون، وتعذر الوصول اليه لكبار السن.
قام سيادة المطران جورجيوس (خضر) ، الولي الشرعي على أملاك الدير ، بتشكيل لجنة من الابرشية كلفها مهام الإشراف على تنفيذ البرامج التي من شانها تحقيق أهداف اللجنة المجمعية. وهكذا أصبح لدينا لجنتان للإشراف والتوجيه وهيئة ثالثة هي فريق العمل مع ما يترتب على ذلك من تنسيق تلافيا لازدواجية القرارات.
كانت القرارات المتخذة لتنمية الأملاك مبنية على قاعدة المعلومات من الجردة الخاصة بالدير وعلى القواعد العلمية الزراعية الواجب اعتمادها . ولكن كان لا بد من الأخذ بعين الاعتبار العادات والتقاليد التي ألفها المؤمنون من القرى المجاورة ، الذين يتماهون مع الدير، ويهتمون بالمحافظة على أملاكه من البيع وتلافي سوء التأجير والشراكة المجحفة ، ذلك لأنهم يعتقدون بأن عليهم واجب ديني ومسؤلية معنوية لان ، في اعتقادهم ، أن أجدادهم قد أوقفوا هذه الأراضي للدير، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء ألتأكد من صحة اعتقادهم هذا. وكذلك يجب المحافظة على الإرث المتبقي من عصر الديرالذهبي مثل المطاحن على نهر الجوز ، وحارات حل شرانق الحرير ، ومغارة الراهب ، وبيت ومراح الماعز ، وهي علامات فارقة في أملاك الدير، وقد استوطنت في ذاكرة الناس، خاصة القاطنين في الجوار .
في هذه المرحلة ، كانت حاجة فريق العمل ماسة إلى معرفة شيء عن تاريخ الدير وطرق استثمار أملاكه فيما مضى ليقتدى بها . ليت كان في متناول ايدينا ، حينذاك ، معلومات تاريخية كدراسة د. سليم ،التي بين أيدينا ألآن ، لربط الإحداث التاريخية بما كان يمكن تنفيذه في أوائل السبعينات من القرن الماضي . كنا نعلم القليل عن مآثر الدير الزراعية تجاه المواطنين ، عندما كانت الزراعة في قرانا وسيلة لكسب ألعيش وطرازا للمعيشة في آن . لقد أدخل الدير إلى أملاكه في الماضي ( لا أحد يعرف متى كان ذلك ) أول دالية عنب من النوع المر Vitis Americana المقاومة لحشرة الفيلوكسارا التي تفتك بجذور دوالي العنب العادية وتحد من إنتاجها . تستعمل أغصان الدالية هذه كأصول تطعم عليها الأنواع المرغوبة من الأعناب ، فتكتسب مناعة ضد حشرات الجذور ويزداد إنتاجها . وقد بقيت هذه الدالية في ارض الدير حتى سنة 1971 حين عثر عليها في حالة من الإهمال التام . أما مدخل الدير فتزينه شجرة سرو باسقة Cupressus sempervirens var. pyramidalis يعتقد أنها الأولى من نوعها في محافظة الشمال ولا أحد يعرف مصدرها أو تاريخ غرسها.
في بداية العمل في دير كفتون ، لم يصدق عامة الناس بان استصلاح الأراضي بدأ فعلا في أراضي الدير، وتحديدا في الأرض المروية على ضفة نهر الجوز . إذ لا يمكن ، في نظرهم ، لأي جرار أو آلية أن تصل إلى هناك لعدم وجود طريق من جهة ، ولان شدة الانحدار لا تسمح بذلك من جهة أخرى . بالطبع ، لم يخطر ببالهم أن رئيس الفريق المسئول عن تنفيذ الأعمال أعطى تعليماته بأن تسير المجنزرة في النهر نفسه ابتداءا من قرب مصبه في سهل البترون صعودا إلى أراضي الدير.
بعد استصلاح الأرض المروية أعيد غرس بساتين الحمضيات . وأدخلت زراعة نوع جديد من البرتقال ( فالنشيا ) الذي يعطي إنتاجه خلال الصيف وكان يعتبر محصولا نقديا هاما في تلك الفترة. وهذا النوع من البرتقال لفت انتباه المزارعين في المنطقة وارادوا أن يغرسوا منه في اراضيهم فقام الفريق المولج بالعمل في أراضي الدير بإرشادهم إلى المشاتل ذات الثقة لشراء الشتول .
قام فريق العمل بتحسين إنتاجية بساتين الزيتون فزادت قيمة الإنتاج من 500 ل ل سابقا إلى 6000 ل ل في السنة الاولى و 18000 ل ل في السنة الثانية و 36000 ل ل في السنة الثالثة . وبسبب هذا التحسين في الإنتاجية تم غرس ألمئات من شتول ألزيتون في أراضي الدير الواقعة على مقلب نهر العصفور.
أما أحراج السنديان المختلطة بالأجمات وسائر النباتات المعمرة المشوكة ، التي درجت العادة أن تقطع منها شجيرات السنديان مرة كل تسع سنوات لصناعة الفحم ، فوضعت تحت الحماية لتنمو وتزدهر وتصبح ، مع مرور الوقت ، غابات قوامها أشجار كبيرة من السنديان . وهذا الأمر لاقى اعتراضات شديدة من الذين تعودوا الاستفادة من صناعة الفحم في المنطقة .
وفيما يتعلق بإعادة التحريج ، قام فريق العمل بغرس الشتول الحرجية الصمغية على مساحة مئات الدونمات بالتنسيق والتعاون مع قسم الإحراج والغابات في وزارة الزراعة ، ضمن برنامج
( شهادات التحريج ) الذي كان ساري المفعول في ذلك الوقت . لقد قام الدير، بأشراف
الوزارة ، بري الشجيرات اليافعة صيفا ، وصيانة كاسرات النيران لمنع حرائق الغابات ، وحماية الأرض من دخول الأشخاص غير المرخص لهم، ومنع الرعي ، وتعيين ناطور
خاص ، وغير ذلك من الشروط . وبنهاية ثلاث سنوات من نمو الشجيرات ، دائما تحت رقابة وزارة الزراعة ، تقوم الأخيرة بإصدار شهادات تحريج يسجل فيها عدد الشجيرات الناجحة ، وتمنح الابرشية ، بحسب هذه الشهادات ، تراخيص لقطع أشجار تملكها الأبرشية في أي من أديرتها أو أملاكها يساوي نصف العدد المسجل في شهادات التحريج الممنوحة من قبل الوزارة. إن هذا المشروع الذي يسمح ببيع الأشجار لنشرها خشبا ، يؤمن للابرشية مداخيل هامة تنفق على برامج التنمية المقررة. لكن هذه المداخيل تأتي بعد ثلاث سنوات وقد تمتد إلى أكثر من ذلك بسبب الروتين الحكومي في البلاد . وفضلا عن ذلك ، فأن المشروع يحتاج إلى نفقات تدفع سلفا بالطبع .
ومن ناحية تقديم خدمات إلى المواطنين المقيمين بجوار الدير في قرية كفتون ، وهي الاقرب الى الدير ، قامت المطرانية بتقسيم الأراضي الصخرية الموات في محلتي البطحة والخومة المحاذيتين للقرية إلى 120 قطعة لا تزيد مساحة كل منها عن 1000 متر مربع . ان هذه الأراضي هي المجال الوحيد لتوسع القرية عمرانيا . وباشرت المطرانية ببيع هذه القطع من أهالي القرية بأسعار تشجيعية وبتسهيلات في الدفع ، بواقع قطعة واحدة لكل عائلة يريد أحد أبنائها الزواج ، وليس لديه ارض للبناء. وقد استعمل المدخول لمقابلة نفقات المشاريع الإنمائية وتغذية صندوق الابرشية. تم تنفيذ هذا العمل بدعم معنوي من تاريخ الأوقاف ، حيث أنه بين سنتي 1905 و 1910 قامت مطرانية سوق الغرب بإفراز قطع من الأرض بلغ عددها 23 قطعة بيعت إلى السكان المحلين وكانت سابقة مفيدة ومشجعة تجاه الاصوات النشاز التي تتهم المطران ببيع اوقاف الآباء والاجداد.
سبق وكلف سيادة المطران لجنة من المهندسين دراسة وتخطيط طريق يربط الدير بالطريق العام الذي يصل قضاء الكورة بقضاء البترون مرورا بأراضي الدير. لكن طبيعة الأرض الشديدة الانحدار لا تسمح بذلك، فاكتفت اللجنة بتخطيط طريق من الجهة الشرقية لا تصل إلى الدير ، واقترحت بناء جسور من الاسمنت المسلح باهظة التكاليف للوصول إلى الدير. لكن الطريق لم يكتمل شقها وتعبيدها ولا الجسور أنشأت بسبب عدم وجود الاعتمادات المالية. لذلك قام فريق العمل بتخطيط الطريق من الجهة الغربية، مضحيا بإحدى حارات الحرير القديمة على أمل إعادة بنائها ( الشيء الذي لم يحدث حتى ألآن ) وردم الأرض تحت مغارة الراهب ، التي فقدت كثيرا من رونقها. قام العمال المهرة ، الذين استقدمهم فريق العمل من ضواحي مدينة حمص في سوريا ، بربط أنفسهم بالحبال حفاظا على سلامتهم ، عند تدليهم على الجرف الصخري ليبنوا هناك جدارا داعما من الحجارة والباطون المسلح لحماية قناة الري الرئيسية لسهل البترون الساحلي الواقعة إلى أسفل الجرف ، من المتساقطات من الحجارة والتراب الناتج عن شق الطريق في المواقع العليا . بهذا الأجراء ، وبالإضافة إلى التضحية بحارة الحرير القديمة ، تغلب الفريق على العقدة التي حالت دون أخذ اللجنة الهندسية قرارا بشق الطريق حيث هي ألآن . كانت المفاجأة الكبرى للجميع عندما وصلت أول سيارة إلى ساحة الدير. ومع وصول الطريق إلى الدير كثر الزوار وأصحاب النذور التي سمحت بإعادة ترميم الدير ونشوء رهبنة نسائية فيه .
قام الدير بصيانة وإصلاح قناة الري الرئيسية التي تمر في أملاكه والتابعة لوزارة الموارد المائية والكهربائية (وزارة الطاقة والمياه ألآن) خدمة للمزارعين المستفيدين بالري في سهل البترون ، وذلك لتقاعس الوزارة عن القيام بواجبها في حينه . كما قام الدير بتنظيف مجرى نهر الجوز مقابل أملاكه نيابة عن الوزارة ، التي لم تنفذ هذا العمل المنوط بها رغم المراجعات المتكررة.
وبالاضافة الى ما تقدم قام الفريق باستصلاح اراضي دير سيدة النورية وجللها وبنى للجلول جدران دعم من الحجارة وغرس شجيرات السرو كصادات للرياح الشديدة الهبوب . وغرس في الارض المستصلحة ثلاثة آلآف شجيرة لوز من النوع الحلواني وعددا كبيرا من شجيرات الزيتون والخروب . وقام الفريق بتأهيل أحراج السنديان التي اصبحت اليوم غابات غناء تشاهد على جانبي الطريق المؤدية الى الدير.
وفي أملاك دير مار جرجس حماطورة تم تخطيط طريق يصل مبنى الدير بطريق عام بلدة كرم سدة وتم شق الطريق وتمهيدها ولكن تعذر تعبيدها لاسباب مادية وـازم الحالة الامنية في البلاد بصورة عامة.
وفي دير مار يوحنا دوما أعدت دراسات لمشاريع زراعية انمائية منها دراسة مشروع تربية أسماك من نوع تيلابيا في اراضي الدير الواقعة على حافة نهر الجوز.
وفي دير سيدة بكفتين أعد الفريق ، بمساعدة خبراء ، مشاريع عدة للتنمية الزراعية لم ينفذ منها شيء.
في دير سيدة البلمند قام الفريق بتصنيف الاراضي الى مئاتبهدف استصلاحها. وركز نشاطه على تكثيف انتاج الزيتون خاصة في منطقة الحريشة العقارية . وقام الفريق بتأهيل مساحة صغيرة من أحراج السنديان كمشروع رائد . وأخيرا وضع الفريق مشروعا لاعادة ترميم مطحنة الدير ( الكبيرة ) على حافة نهر أبو علي وجعلها مرفقا للسياحة التراثية في لبنان.
أما في دير مار جرجس الحميرا البطريركي في وادي النصارة، سوريا، قام الفريق بحفر بئر عميق ( يعرف خطأ بالارتوازي ) في بستان اليازجي في قرية عين العجوز، وغرس في البستان عدة مئات من شجيرات الخوخ الابيض الغزير الانتاج الذي بيع في اسواق مدينة حمص حيث كان تجار الجملة ينتظرون وصول الشحنات ويدفعون اسعارا مرتفعة للحصول عليها نظرا لجودتها المميزة.
توقف العمل خلال سني الحرب ولم يجدد المجمع المقدس أعمال اللجنة. وللتاريخ أن يحكم على الانجازات.
بناءا على ما تقدم ، وعلى خبرتي الشخصية في خدمة الأوقاف تطوعا خلال السنين الطويلة الماضية الممتدة إلى ألآن، أضع الاقتراحات التالية برسم القيمين على الأوقاف أصحاب القرار.
فرز العقارات الكبيرة وبيع الأراضي الصخرية غير القابلة للزرعة واستبدالها بأراضي زراعية بجوار الموجود من الأملاك الزراعية في أي من الأديرة. يقول لنا التاريخ أن مجمع قرطاجة المسكوني الذي انعقد سنة 419 منع بيع ممتلكات الكنيسة منعا باتا. لكنه ، أي المجمع ، سمح ببيع الأراضي غير المنتجة والتي لا تعطي مدخولا من أي نوع كان . واشترط أن تكون الكنيسة المحلية بحاجة ملحة جدا للمساعدة. في هذه الحالة ، يضيف المجمع ، يحق للأسقف بيع هذه الفئة من الأراضي بعد التشاور مع عدد من الأساقفة لا يقل عن اثني عشر حتى لا يتحمل ألمسؤلية وحده أمام الله والكنيسة. وفي هذا الموضوع يقول المطران جورج (خضر) إن إهمال الأرض وتركها بورا خطيئة كبيرة .
- تستبدل أراضي الأوقاف المبعثرة في أكثر من منطقة عقارية وخاصة العقارات الصغيرة الضيقة المساحة بأرض زراعية جيدة في مكان واحد تشكل وحدات إنتاجية ذات جدوى اقتصادية .
وبالتقدم خطوة جريئة إلى الإمام ، أقترح اعتماد المساهمة ، ماليا في وحدات إنتاجية ذات جدوى اقتصادية أكيدة. إن إجراءا كهذا ، يسمح باستثمار الأراضي بشكل منتظم بواسطة تعاونيات زراعية تعمل كشركات مساهمة تشترك فيها الأديرة والقطاع الخاص من المؤمنين الغيارى من أبناء الطائفة . يباع الإنتاج لمتوقع تحت اسم ماركات مسجلة خاصة بالأديرة ( زيت زيتون، فاكهة، خضروات،مربيات، عسل منتجات ألبان الخ.) إلى مؤسسات كنسية مستهلكة مثل المستشفيات والمدارس ويروج لها ويدعمها السادة المطارنة في كل ابرشية. أما الفائض ، اذا وجد فيباع في الاسواق المحلية.
يقترح أن يتخصص راهب أو راهبة من كل رهبنة مقيمة في دير يملك أوقافا متسعة في أحدى فروع الهندسة الزراعية على المستوى الجامعي .
- تشجيع السياحة الدينية والسياحة البيئية في أديرة الكرسي الانطاكي لأبناء الطائفة بالدرجة الأولى وللمواطنين والسواح بالتنسيق مع مكاتب السياحة الوطنية. ولا أرى مانعا من اقتراح بناء منشأت سياحية من فنادق ومطاعم كوحدات إنتاجية في أراضي الأديرة خاصة تلك التي تتمتع بصفات سياحية مثل أديرة سيدة كفتون النورية والبلمند وصيدنايا ومعلولا وماريوحنا دوما ومار جرجس الحميرا في سوريا
سيداتي سادتي
ختاما ، في الوقت الذي أتقدم فيه من دكتور سعاد سليم بالتحية على هذا الإنجاز الهام أتمنى أن تترجم هذه الأطروحة إلى العربية ليستفيد منها القيمون على أملاك الأوقاف في الوقت الحاضر فهي تلقي أضواءا تاريخية على تطورالاوقاف وعلى أنماط الاستثمار التي كانت سائدة في الماضي ، والتي بدورها تساعد على اتخاذ القرارات لتحسين إنتاجية الأوقاف حاضرا ومستقبلا .
أوقاف الروم الارثوذكس في لبنان خلال الحقبة العثماني(بالانكليزية)
تحوّل لبنان منذ مطلع القرون الوسطى في القرن السابع الميلادي وحتى القرن التاسع عشر، من بلد يضج بالحياة الاقتصادية والثقافية، باستثناء زمن حروب الفرنج -الصليبين في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلادي، إلى ريف منسي في حوليات التاريخ العربي والإسلامي، إلاّ عندما تنكسر رتابة الأيام بفتنة من هنا وثورة من هناك وهوشة من هنالك.
وضمن هذا الواقع الريفي لعبت الأوقاف دوراً مميزاً. ولكن لا هذا الدور، ولا الحياة الريفية كانت محور اهتمامات المؤرخين قبل الربع الثاني من القرن العشرين، قبل أن تغزو مدرسة "الأنال" Annales, Economies, sociétés, Civilisations على يد كلّ من "مارك بلوخ" و"لوسيان فابفر" عقول المؤرخين، وتقلب توجّهات التاريخ من حوليّات تمجّد الملوك والسلاطين والأعيان، وأحياناً البورجوازية، إلى تأريخ لكلّ الناس، من الفقراء المعدمين المسحوقين إلى الرأسماليين الراتعين في مباهج الحياة. لأن الناس كلّ الناس تشارك في صناعة الحدث التاريخي، والمؤسسات كلّ المؤسات تشارك في ادارة حياة الناس. وهكذا فتحت مدرسة "الأنّال" كلّ الأنشطة الانسانية أمام مشرحة التاريخ، وأضحى التاريخ الريفي محوراً أساسياً من محاور الدراسة التاريخية بعدما كانت المدن هي المهيمنة على المجريات.
كانت فاتحة تلك الدراسات كتاب مارك بلوخ"Les caractères originaux de l'histoire rurale francaise
فتلقّف المستشرقون هذا التوجّه، وبدأوا بالكشف عن التاريخ الريفي وعن وثائقه وقاد هذا التوجّه إلى العناية بلبنان في التاريخ الحديث، انطلاقاً من الوثائق الريفية، ومن بينها وثائق الأوقاف، كما بدأ اهتمام بطباعة بعض كتب الوقف الإسلامية في المحفوظات العربية. ولم تبدأ العناية بالأوقاف المسيحية إلاّ في مرحلة متأخرة مع إقدام الشابات والشبان على الذهاب للدراسة في الغرب، خاصة في اوروبا الغربية، للحصول على شهاداتهم العليا. فكان ذلك دافعاً للتنقيب في التاريخ الريفي، وفي وثائق الأديار والأبرشيات والكنائس المسيحية، ومن بين هؤلاء الروّاد الصديقة الدكتور سعاد ابو الروس سليم التي تشاركني همّ البحث في التاريخ الريفي وفي وثائق الوقفيات، التي كنت لربما من اللبنانيين السبّاقين لدراستها، مع أنّ حقل اختصاصنا يختلف في الزمن، فأنا اهتمّ بلبنان في القرون الوسطى وهي بلبنان الحديث، وهي ابنة مدينة تهتمّ بالريف مع أنّها لم تعش سحره في طفولتها وشبابها، وأنا ابن ريف غائص في إشعاعه وبهائه.
كرّست الدكتور سعاد دراستين مميزتين للتاريخ الريفي الأولى عن الشراكة والضرائب في جبل لبنان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والثانية التي نحن بصددها الآن عن الأوقاف الارثوذكسية، وما بين الدراستين كان لها عشرات المقالات القيّمة.
اهتمّت كتب الفقه بالأوقاف فوضعت لها منظومات شرعية تستند عند السنّة إلى المدارس السنيّة الأربعة وعند الشيعة الامامية والدروز وغيرهما إلى الفقه الخاص بكلّ منهم.
ومع كتابة المطوّلات الإسلامية التي أُطلق عليها تسمية" الموسوعات"، خاصة تلك التي تعنى بالدواوين، وعلى رأسها ما كتبه ابن فضل الله العمري والقلقشندي، أُفردت معلومات خاصة بالأوقاف تشرح أسباب وكيفية إنشائها والغاية منها وطريقة إدارتها ووظيفتها. كما أنّ ما وصل إلينا من نصوص وقفيات بصيغتها الكاملة، خاصة من العهد المملوكي تساهم في توضيح صورة الوقف وتجيب عن العديد من الأسئلة في تنظيمها.
ولكن علميّاً، ليس مهمّاً أن نعرف نظرياً وظيفة وطبيعة الوقف استناداً إلى كتب الفقه والموسوعات. فهذه تصوغ مؤسسة الوقف كما ينبغي أن تكون نظرياً. المهمّ أن لا نعرف الوقف كما ينبغي أن يكون بل كما هو في الواقع. ولذلك فنصوص كتب الوقفيات تجيب على جزء من الموضوع لا الموضوع كلّه، وهنا تبرز حذاقة الباحث في تعرية طريقة ممارسة الوقف والنتائج التي حملها للمجتمع اقتصاديا واجتماعياً وثقافياً.
نعود إلى كتاب سعاد أبو الروس سليم لنضعه على مشرحة المنهجية وعلم التأريخ، متوقفين قدر الإمكان أمام المضمون والمنهجية كما يقتضي ذلك النقد التاريخي، وكلّ نقد عامة.
أولاً- المضمون
تقدّم الدكتور سعاد أبو الروس دراسة عن أوقاف الروم الارثوذكس في لبنان خلال الحقبة العثمانية هي في غاية الأهميّة، وعلى مستوى أكاديمي لائق ورائد أيضاً. المهمّ أنّ الدكتور سعاد لا تعتبر أن وقف الروم مؤسسة معلّقة في الهواء أو كجزيرة روبنسون كرزويه. لذلك لم تقدم على معالجة هذه الأوقاف كحالة خاصة قائمة بذاتها فعملت على ربطها بجذورها المسيحية من جهة والإسلامية من جهة أخرى، ووضعتها في إطار مؤسسات الدولة العثمانية وربطتها بالتجربة التاريخية اللبنانية، وأعتقد أنّ الغوص في التجربة اللبنانية أهم من المقدمات البيزنطية والإسلامية التي تبقى مقدّمات أقرب إلى الحالة النظرية منها إلى الواقع المعيوش. فهذه التجربة التي بإمكاننا رصد نصوصها المسيحية في لبنان منذ أواسط القرون الوسطى، خاصة منذ نهاية العهد الفرنجي-الصليبي، وكذلك نصوصها الإسلامية في العهد المملوكي وفي القرن السادس عشر، أعتقد بأنني قد نشرت غالبية نصوصها منذ قرابة العشرين سنة، واستثمرتها كما يجب في رسم صورة الريف من جهة والمدينة من جهة أخرى في كتابي "نيابة طرابلس في عهد المماليك" المنشور في الجامعة اللبنانية، هي لربما المعيار الذي يفترض أن نبني عليه أية مقاربة لأي نوع من أنواع الوقف. و لا أعتقد، انطلاقاً من تجربتي الخاصة، أن المقارنة مع صيرورة الوقف في التاريخ العثماني تتماهى تماماً مع صيرورته في التجربة اللبنانية، كما أنّ الفصل بين الوقفيات الريفية وتلك المدنية قبل منتصف القرن التاسع عشر لا يبدو منطقياً. فالوقفيات في لبنان منذ العهد المملوكي يختلط فيه الشأن الريفي بالشأن المدني، وإن يكن من الممكن في البحث استثمارها في إعادة رسم صورة المدينة من جهة والريف من جهة أخرى.
برغم هذا الواقع، أبحرت د. سعاد بطريقة منطقية في مقدّمات ضرورية عن الوثائق الوقفية موضوع الدراسة، وأهميّة الموضوع والدراسات التاريخية عنه، والعلاقات المسيحية- الإسلامية حوله، وأهمية وحدود استثمار هذا النوع من الوثائق. ثمّ عرّجت على وضعية الوقف شرعيّاً وتاريخياً باحثة في أصوله المسيحية والاسلامية والبيزنطية. ومن هذه المقدمات العامة إنتقلت الباحثة إلى الوقف العثماني مقسّمة وضعيته إلى مراحل ثلاث.
وبعدما تأمّن للباحثة الإطار الشرعي والمؤسسي شبه الكامل، تدخل في صلب الموضوع مقسمة الأوقاف إلى نوعين: الأوقاف الريفية: البلمند، مار يوحنا في دوما ومار الياس شويا وما جرجس دير الحرف مارة على وقفيات لطوائف مسيحية أخرى. وضمن هذه البانورما للوقفيات الريفية تسعى الباحثة لاستثمار المعلومات المتوفرة واستخراجها من باطن النصوص فكان من الطبيعي أن ترسم صورة واقع تطورها وتوسّعها وتحديدها جغرافياً، ثم ترصد ما تنتجه هذه الوقفيات من انتاج زراعي، من زراعة تقليدية: حبوب وكرمة وتوت وزيتون وغيرها، مارة على أسعار المنتوجات وعمليات الشراء والبيع.
النوع الثاني من الوثائق هي الوثاق المدنية العائدة لمدينة بيروت: ومنها وقفيات لفقراء الروم، ومار متر والقديس جاورجيوس ومار الياس بطينا وزهرة الاحسان وسيدة النياح وغيرها. وكما في النوعية الأولى تسعى الباحثة لتحديد جغرافيتها وتحرير مساحتها وتطورها وتوسّعها ودورها المدني وكيفية ادارتها وغير ذلك. وأخيراً تشرح واقعها الحالي ومشاريع المستقبل وكيف استثمرت، كما استثمرت بعض الوقفيات الريفية وعلى رأسها وقفية البلمند في تطوير المشاركة في النهضة الثقافية والعمرانية والطبية.
وأعتقد أنّ البحث لربما سيكون مثمراً أكثر لو انكبت على مقارنة صيرورة الأوقاف المسيحية الأخرى، خاصة التجربة المارونية فيها، بالتجربة الأرثوذكسية لا الاستفادة فقط من المعلومات عن هذه الأوقاف لتدعيم صورة الوقف الأرثوذكسي.
ومن الضروري القول أنّ الأوقاف الذريّة اللإسلامية لم تنتشر فقط في المرحلة الثانية من المراحل الثلاث التي تذكر، بل سبقت ذلك إلى القرن السادس عشر الميلادي. ومن الضروري البت بمسألة جوهرية فيها أنّ الظاهر من عمل الخير فيها كان له باطن مستتر، هو شرعنة وراثة الورثاء، لما تمّت استباحته من أرض بكلّ الطرق غير الشرعية واللاأخلاقية.
ثانياً- المنهجية
تقوم المنهجية على مجموعة معايير متسلسلة تبدأ بالتقميش والعلوم الموصلة والمستحدثة والنقد والاجتهاد وتثبيت الحقائق التاريخية والعرض أو التحرير.
أولى عمليات البحث التاريخي هي ما يتعارف عليه بالتقميش أي البحث عن الوثائق وجمعها ومن ثمّ استقرائها، وهذا التقميش هو أساس البنيان التاريخي الضروري لإعادة تركيب صورة الماضي. فهل وفقّت سعاد ابو الروس في ذلك أو لا؟
إن إقدام سعاد ابو الروس على تكريس زمن طويل من حياتها المهنية في جمع وتبويب ما توّفر من أرشيف عائد للروم الارثوذوكس في لبنان وخارجه سمح لها أن تمسك بالوثائق، وهي الخبيرة بها، كما يجب، وأن تستثمرها في الوقت المناسب وبأفضل الطرق، وهي تضع بتصرف البحث الوثائق الأرثودكسية في أطار المؤسسات الأرثودكسية، أو ما وجد منها في محفوظات أخرى كالمحاكم الشرعية الإسلامية.
أعتقد بأن سعاد حشدت لصياغة موضوعها غالبية ما كتب عن موضوع الأوقاف، و هذا ما وّفر لها الإطار التاريخي والقانوني، وكنت أُفضّل أن تغوص أكثر في الموضوع فتذهب أبعد من المراجع إلى بعض المصادر الفقهية والإدارية.
ولربما مقتضيات الطباعة، والثقة بما تقدّمه العزيزة سعاد، جعلها تحجم عن نشر نصوص وثائقها وترجمتها والاكتفاء بنشر بعضها، وإحالة معلوماتها الباقيّة إلى مصادرها، وأعتقد أننا في التاريخ نحن كالرسول توما لا يمكننا أن نبني إلاّ على نصّ الوثيقة، مع أنّ ذلك يثقل الطباعة. واستحضر في هذا المكان Fustel de Coulanges عندما كان يخاطب تلامذته، وهو الذي وضع حدّاً فاصلاً في كتابة التاريخ، عندما قال بأن التاريخ لا يكتب إلآّ بالوثائق، ولذلك كان يشير على تلامذته بعدم تصديق ما يقوله شفهيّا بل ما يقدّمه لهم خطيّاً.
ولقد استوقفني كثيراً موقفها من منهجية استثمار المعلومات الكميّة العائدة للأجور والأسعار والمعطيات العددية الأخرى، من حيث أنّه لا يجوز الإقدام على ذلك إلاّ انطلاقاً من وثائق ترتدي طابع الاستمرارية، والتي هي في أساسها سجلاً لمعطيات عددية إقتصادية، ومن هذه الوثائق سجلات الأوقاف التي تتأمّن فيها هذه الصفة. ويعزّ علي التوقف عند هذا الموضوع لما أثاره من مشاكل عانيت منها الكثير مع إقدام بعض الباحثين، وبعضهم أساتذة كبار، على تجاوز هذه المقولة والاستهتار بها، وتقديم معلومات للبحث، على طريقة من كلّ وادٍ عصا، أشبه ما تكون بجراب الرعيان.
على صعيد العلوم المستحدثة لقد أبلت سعاد بلاء حسناً في استعمال أدوات البحث الحديثة وعلى رأسها الغراف الذي يختزل التاريخ بصور معبّرة.
على صعيد النقد، لم تعمل د. ابو الروس على معالجة الوثائق على طريقة علم الديبلوماتيك، وهذا أمر يطلب من المسؤولين عن الأرشيف، ولكنّها بقدر المستطاع، حاولت إخضاع الوثائق خاصة العائدة لتأسيس الأديرة والمراكز الدينية للنقد الموضوعي والعقلاني.
الاجتهاد يفعل فعله عند ابو الروس حيث تسكت الوثائق إذ ليس بسكوت الوثائق حجّة.
أمّا تركيب الحقائق التاريخية فكان ملخّصاً حيث المعلومات متعارف عليها ومستفيضاً حيث الوثائق تقدّم معلومات جديدة.
ويبقى أخيراً العرض، فقد لفت نظري فيه الوضوح والسلاسة والبساطة ومطواعية اللغة الانكليزية والتركيب المنطقي و الإسناد بأخلاقية، إذ أن العديد من الأبحاث تعاني من مشاكل "النشل" وعدم الأمانة للمرجع الذي يأخذون منه فيعملون على تغيبه. واللافت عند سعاد هذه الأخلاقية في التعامل مع المراجع بحيث يأتي ذلك انعكاساً للأخلاقية التي نعرفها عنها.
......
في النهاية يمكن القول أنّ كتاب سعاد ابو الروس سليم يندرج في باب الحداثة والأفاق الجديدة المتطورة في علم التاريخ. لقد أنتجت عملاً مثمراً علميّاً أكاديمياً يساهم في الإضاءة على جوانب من التاريخ اللبناني الاجتماعي الاقتصادي بمنهجية صارمة، وهذا ما نفتقر إليه في لبنان مع الهجمة الشرسة على ميدان التاريخ من القابعين في الماضي وفي كتب التراث وهي عادة لا تساهم في ترقيّ الشعوب، بل تضعها باستمرار قاتل في الماضي.
يمكن القول بأنّ المولود العلمي الجديد لسعاد ابو الروس سليم كتاب قيّم جدّاً تتوفر فيه الشروط العلمية الضرورية ويعتبر مرجعاً علمياً وبحثاً أصيلاً يضاهي الأبحاث في البلدان المتطورة، فهنيئاً لها بما أنتجته.