نص مداخلة المحامي رشيد درباس في مناقشة كتاب أحزاب الله للدكتور محمد علي ملقد في مركز الحركة الثقافية في انطالياس في 10-3-2020
"إيناس دويفسكي"النائب الشهير ورائد الاشتراكية وخطيب النمسا المفوه، اعترف بأنه وجد "رأس المال" عسيراً على الفهم فلم يقرأه. ثم اكتشف أن "كارل كاوتسكي" Karl Kautsky وضع له تلخيصاً يقرِّبُه إلى الأفهام، فلم يقرأه أيضًا، لأن منظر الحزب "كريس كراوس" Chris Krausلخص بدوره هذا التلخيص. لكنه لم يقرأْ كذلك تلخيص التلخيص لأن اليهودي الذكي "هرمان ديامند" Herman Diamand هو الذي قرأ كراوس وأخبره بما ينبغي له أن يعرفه.
هذه الحكايةُ التي أوردَها الدكتور محمد علي مقلد نقلاً عن كتاب حسن قبيسي (المتن والهامش)، بعثت في نفسي أمنية مشابهة بشأن كتابه: لو قام أكثرُ من واحدٍ بتلخيصه مَثنى وخُماسَ وسُباعَ ثم جاءني الأخيرُ بينهم يحكي لي ما يجب تناوله في هذه المناظرة، إذن لوفَّرت على نفسي جهداً، وعليكم وقتًا، لإنَّها مغامرةٌ غيرُ محمودةِ العواقب لشخص مثلي ضعيفٍ في الأصولية الشيوعية والأصولية الشيعية، أن يتداخل في مناقشة كتاب هو بمنزلةِ شراكة فكرية بين مؤلفه الدكتور محمد علي مقلد، وكاتب مقدمته الشيخ علي حب الله، على الرغم من التفاوتِ الكبير في عدد الصفحات بين المقدمة والكتاب.
والمغامرات يركبها المراهقون. أما أنا، وقد راهقت على ضفاف الأديان فترةً ثم القومية فالماركسية، فلأعترفْ بأنني ما بلغت النضج ولا سعيتُ إليه، لأن من ينغمسْ في العمليِّ يبتعِدْ عن الفكر البحت وجوِّه المتطهرِ من اليوميات، المليءِ بأنواع الغمائم وأجناسِ البروق الكامنة في طياتها وأصنافِ الرعود المنطلقة من حناجرها، وهَطَلانِ المطر الغزير الذي يُنزلُ المرءَ من أعلى الإشراقية إلى أعمق تضاريس الأرض.
هتف لي الدكتور عصام خليفة محدداً موعد هذا اللقاء ومهمتي فيه، فاعتبرته أمرًا صادرًا عن والٍ ثقافي جزيل الاحترام لا محيص من الانصياع له؛ إضافة إلى أن المادة الدسمة الأصلية غير المقلدة التي أنتجها الدكتور المقلد، تلزمني من باب الإعجاب به وباجتهاده المتحرر أن يكون لي سهم فيها، لن يزيدها دسامة، بعد أن أشبعتها المقدمة الاستثنائية بالأطايب والتحاليل المغذية.
حقيقةُ الأمر أنني ما كِدْتُ أفرغ من قراءة الصفحاتِ الأربعين لفضيلة الشيخ علي حب الله، حتى سارعت إلى الاتصال بالدكتور محمد علي، ناقلًا إليه ذهولي مما احتوته المقدمةُ من تكثيفٍ وتركيزٍ وخبرةٍ نظرية وانعتاقٍ فكري، وجرأةٍ يتحرج العلماني عن اعتلاء متنها، فإذا بمعمم يمتطيها، وهو ابن الأصول، وفقيه الحَوْزات والرحالة في مفازات كتب، خِلْتُه في البدء يكثر من ذكرها من باب الاستعراض، لأصل في النهاية إلى أنه جعلني نقطة غرقت في بحر العلوم والمعارف التي شبت عن طوق التحليل والتحريم، وذهبت على طريق أبي العلاء:
يرتجي الناس أن يقوم إمامٌ ناطقٌ في الكتيبة الخرساءِ
كَذَبْ الظـــــــنُّ لا إمامَ سوى العــــقل مشيراً في صبـــــــــــــــــحه والمساءِ
فالشيخ علي يمسك بتلابيب النواظر منذ الطرفة الأولى، ويأخذها في رحلة قصيرة السطور، بعيدة الغور والمرمى، فما تكاد تصل إلى قوله المقتبس بتصرف عن قصيدة (عويل) للشاعر الأميركي "ألن غيسنيرغ" Allen Ginsberg(ما نكتبه عويل جيل منهك) حتى يبلغ منك الإنهاك كل ملبغ.
ولكن حذار، فليس معادلُ هذا الإنهاكِ اليأسَ، بل الحث، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وكذلك التاريخ لا يطرح على جدول أعماله من القضايا والمهمات إلا ما تكون البشرية قادرة على تحقيقه كما قال كارل ماركس واستشهد به الشيخ الذي يغتبط لأن طبقة المثقفين المعاصرة تمارس النقد الذاتي واستخلاص العبر، ولأن الدكتور مقلد أصاب كبد الحقيقة بإضاءته على الاستبداد كأهم معوق لتقدم الأمة، متابعًا في ذلك الكواكبي، لكنه يأخذ عليه أن دراسته اقتصرت على المنهج الوصفي في الظاهرة الحزبية، مستدركًا القول بأنها فجوة ربما تعمدها المؤلف، وبأنه سيحاول هو سدها ببيان المحركات الأساسية والإيديولوجيات التأسيسة؛ فيؤكد أن الكلام على أحزاب الله يستدعي دراسة للعقلية التي تجعل من رموزها ومفاهيمها "طوطماً" Totem ذا قداسة سرت إليه من تاريخ موغل في القدم، وهذا ظاهر الأحزاب الدينية. ولعلَّ المؤلف تعمد اختيار عنوان "أحزاب الله" مفضلاً الجمع على مفرد خطير، ليصب جام بحوثه وآرائه، على حزبه الشيوعي،حيث نما وكبِرَ ونضج، وربي على شجاعة مهدي عامل الذي قتلته يقينيته كما جاء في الإهداء، ثم راح في هذا الكتاب يحاوره بعد رحيله، مقاربًا إيّاهُ حينًا ومفارقًا له أحيانًا، ومديمًا بلا انقطاع نقد الأحزاب الإيديولوجية التي لها طواطمها الخاصة، وذلك من خلال مهمة ذات فرادة ندبَ نفسَه لها هي نقد الممارسة النظرية، التي خاض فيها مهدي عامل، والتي يعدها رفيقه القديم كريم مروة محاولة غير موفقة، كما قال لي أخيراً.
قلت في البداية إنني وجدت في الكتاب مشروع شراكة فكرية بين معمم وعلماني، ينتميان في النشأة الفكرية إلى أصوليتين عريقيتين مختلفتين، ولقد لاحظت ذلك من محاذاة السطر للسطر، ووقع الفكر على الفكر، والنهج الحر الخارج من رحم الدوغمائية على النهج، حيث تجدهما معاً، ومن موقع الاختلاف مع الرأسمالية، يقران بانفتاحها واستفادتها من أفكار ماركس الذي نبه في كتاب رأس المال إلى مواطن الخلل في النظام الرأسمالي، فكانت أفكاره موضع اهتمام الأنظمة الرأسمالية ومفكريها والمنظرين، فعالجوا ما نبه إليه بمنظومة ضمانات اجتماعية وخدمية وحقوق الإنسان والعدالة والمساواة بين الناس أمام القوانين.
لكنني، تداركًا، ألفت إلى أن المقدمة تشير إلى فرق فارق بين الأحزاب الدينية والأحزاب الايديولوجية، لأن نصوص هذه الأحزاب خالية من الأبعاد الميتافيزيقية، كما أن تجسيدات الوعي الديني في عقول شرائح من المعممين والمبشرين لا تبتغي إلا التوجيه لممارسة طقوس الإيمان بطريقة شرعية والسعي إلى إعداد جنود للاستيلاء على السلطة السياسية، علماً أن قليلاً من الشك يحيي عقل الإنسان، فبين الشك واليقين جدلية، على نحو ما بين الفكر والواقع كما تقول المقدمة.
هنا أتوقف قليلاً عند ظاهرة عايشتها من خلال استماعي إلى جدل الإخوة والرفاق، إذ كان الدينيون منهم يستشهدون بالنص وبالسنة وبقول الصحابي لتعزيز وجهات نظرهم، فيما كان الإيديولوجيون الماركسيون، يتذرعون بنصوص ماركس وإنجلز ولينين وستالين في مرحلة ما، كحجج قاطعة لا تحتمل الجدل، وكنت أجد في هذا نوعاً من إضفاء القداسة على تلك النصوص، بل في مرات كثيرة كنت أعجز عن التفرقة بين التزمت الديني وأخيه الإيديولوجي. لأن بعض العلمانيين يمارسون التفكير الديني الغيبي كما جاء في كتاب مهدي عامل الذي نشر بعد اغتياله بعنوان (في نقد الفكر اليومي)
هنا أذكر بما قاله السيد القمني، بأن الكتب المقدسة ليست مصدراً للمعرفة بل هي موضوع للمعرفة، لأن المعلومة إدارك وليست كلاماً، والخلاف على اعتقاد لا يمكن الاتفاق حوله، لأن الاعتقاد ليس مصدراً معرفياً.
ومن باب الدلالة أيضاً، أذكر بمقال شهير كتبه كريم مروة بعنوان "يجب محاكمة لينين" لأنه تعسف في تفسير الماركسية، إلى درجة التخطي، ولوى عنق التاريخ بأن أطلق الثورة في مجتمع كان لا يزال يرسف في إقطاعيته وتخلفه، واعتمد بدعة حرق المراحل، ما أدى إلى حرق التجربة الفكرية الهائلة، التي بدأها ماركس وسار على نهجها من بعده كثيرون، فما كان من منظري الحزب الشيوعي اللبناني إلا أن انقضوا على أستاذهم العريق وأوسعوه محاكمة أين منها تلك التي تعرض لها رئيف خوري في ذلك الزمان الذي كان يبشر بإشراق الأنوار.
على أن من يقرأِ الكتاب يكتشفْ تقيد المؤلف بمنهجية واضحة جعلته صالحًا لأن يكون مرجعاً من مراجع كليات الفلسفة والعلوم الاجتماعية، لما فيه من دقة علمية وتقسيم بَيِّن وسلاسة تعبير تبلُّ جفاف المصطلحات الفكرية والنظرية، وتروض صعوبة المطارحات الإيديولوجية والفلسفية، وذلك بشكل محايد، يتعمد عدم إيصال القارىء إلى اليقينية التي قتلت مهدي عامل، ويلقي الأضواء الساطعة التي تحرِّرُ الفكر من ظلام الجمود والاسترخاء الرخي على وسائد الأوهام، ويحرض كما الشيخ علي، على الشك الذي يحيي العقول، ويرفض الاستكانة للاستبداد الذي عدد في أحد مقالاته ظواهره وأمثلة عنه، محذِّرًا بالدرجة الأولى من الاستبداد الفكري الذي يسيطر على العقول من خلال ترسيخ المسلمات فيها، فيشلها بذلك عن الإبداع والابتكار والتبصر، ولهذا تجرأ في المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي اللبناني في العام 1998 وقال في كلمته: "احذروا من تبشير الشيوعيين بأنهم ماركسيون فإن فعلتم جعلتموهم ينامون على حرير الجهل". ولو عاصر المؤلف الزمن البكداشي وأدلى بالنصيحة نفسها لكان من أهل الردة والمندسين والتحريفيين وما إلى ذلك من أساليب القمع الستالينية.
وفي هذا الصدد يقول حسن قبيسي :" هكذا كان اطلاعنا على كتابات ماركس ونقاشنا لها وأن كثيراً من الموبقات على صعيد الفكر والسلطات تبرر باسم النظرية الماركسية والحزب الماركسي والحكم الماركسي."
أيها الحفل الكريم...
توغل الدكتور محمد علي عميقاً في مسألة الأحزاب الشمولية التي تشكل البنى التنظمية والفكرية للاستبداد، وأشبع بحوثه بدقته وخبرته ومعرفته ليصل في النهاية إلى أن ولايات الفقهاء على أنواعها سواءٌ أكانوا آيات الله أو أمناء عامين، أو رؤساء وهبهم الله وذرياتهم ما لا يوجد في أمثالنا من الناس العاديين، هي نفي للديمقراطية أي تعطيل لجنى مئات ملايين العقول، وتدجين لها من أجل أن تسلس القياد إلى عقل واحد قيض الله لصاحبه أن يستيقظ - مبكراً ذات صباح - ويستولي على السلطة، مستغلاً غرق أصحابها في سبات عميق، وكأنهم لم يتعلموا من الشعر العربي إلا ما قاله أبو مسلم الخراساني غداة انقضاضه على الدولة الأموية وإقامة دولة العباسيين على أنقاضها :
أدْرَكْتُ بالحَزْمِ والكِتْمان ما عَجَزَتْ
عنه مُلُوكُ بني مَرْوانَ إِذْ حَشَدُوا
ما زِلْتُ أَسْعَى عليهمْ في دِيارِهُمُ
والقَوْمُ في مُلْكِهِمْ في الشَّام قَدْ رَقَدُوا
حتَّى ضَرَبْتُهُمُ بالسَّيفِ فانْتَبَهُوا
مِن رَقْدَةٍ لَمْ يَنَمْها قَبْلَهُمْ أَحَدُ
ومَنْ رَعَى غَنَماً في أَرْضِ مَسْبَعَةِ
ونامَ عَنْها تَوَلَّى رَعْيَها الأَسَدُ
قد أكون أطلت جداً في هذه المداخلة. لكنني لا أزالُ أحوم بين دفتي الكتاب، لأن تناوله بما يستحق من رأيٍ وملاحظات لا يمكن أن يقتصر على ندوة واحدة ولا على عدد محدود من المتداخلين، بل هو محتاج إلى ورشة فكرية حقيقية تتناول بالتدقيق المصطلحات التي أولاها الكتاب عناية كبيرة لا سيما تعريف حزب وحزب الله كما ورد في القرآن الكريم في مواضع مختلفة، كما أن موضوعات الحتميات القاتلة لن تشبعه سطور قليلة، وكذلك الأبحاث السوسيولوجية عن الطائفية والطبقة في الفكر البورجوازي وفي الفكر اليساري.
ولكن، تبقى لي ملاحظة أخيرة، وهي أن نقد الممارسة النظرية ينتمي إلى نهج فكري مختلف عن التأويل، ذلك أن التأويل اجتهاد يقوم به المستنيرون خدمة للنص كي لا يصطدم بالواقع، أما نقد الممارسة النظرية فيهدف إلى إخراج الممارسة العملية من قوالب النص لتطهيره من القداسة وتكييفه مع المعاملات التي تحتاج إلى التبصر والتجريب والكشف والمحاولة دون قيد على ابتكار علمي أو نتيجة قد تبدو صادمة للموروث الديني، وهنا لا أملك إلا أن أحيي الشيخ علي حب الله عندما برهن أن نظرية النشوء والارتقاء ليست كفراً، لأن الصلصال جماد، والنبات ابن الصلصال زائدٌ نموًّا، كما الحيوان نموٌّ زائدٌ حسًّا، أما الإنسان فحيوان زائدٌ عقلًا، فإذا كان الله قد خلق الإنسان من صلصال كالفخار فهذا لا يعني أنه أنشأه فوراً من أدنى المواد دون المرور في المراحل التي ترتقي من خلالها.
وبعد يا سادتي
كل مرة أقف فيها أمام هذه الحضرة أشعر بأن الحركة الثقافية في انطلياس تمنحني وساماً قد لا أستحقه، لكنني في كل مرة أدعى فيها، سأظل ممتثلاً لا سعياً وراء الأوسمة، بل طمعاً في مزيد من الأوكسجين الفكري الخالي من الوباء والذي يفوح في رحاب هذه الكنيسة المحترمة.
________________________________