كلمة الدكتورة نايلة أبي نادر في تقديم تكريم الدكتور اسماعيل سكرية

 

يشرق هذا المساء صوتٌ نوراني آتٍ من البقاع ليغمرَ الأراضي اللبنانية برمّتها. تتلألأ على منبر الحركة الثقافية صورةٌ مكلّلة ببياض الحِكمة لتبوح بخبراتِ سنين من النضال المهمومِ بالصحة وسلامة الدواء. إنه النائب الثائر، والطبيب المستنير، والمواطن الملتزم، الذي رفض ان يبيع القيم الانسانية من أجل الحصول على مقعدٍ أو موقعٍ مؤقتٍ في المجلس النيابي، لكنه احتلّ في المقابل موقعاً ثابتاً في ضمير اللبنانيين الشرفاء. الدكتور اسماعيل سكرية إسمٌ لمع في ساحات النضال عندما كان عددُ الفاعلين فيها محدوداً للغاية. كان صوتَ الضميرِ الضائع، والمخمور... رفع رايةَ البحث عن الحقيقة، حقيقة ما يجري في كواليس السياسة السوداء. هذه السياسة التي لم تعد تُحسن النظر في القيم الانسانية والمهنية والوطنية.

يوم رخُص ثمن الانسان في وطني، كان اسماعيل سكرية يقدّس آلام المرضى ساعياً الى تأمين العلاج الشافي لهم، مهما كان الثمن. يوم كان معظمهم يستميت في الحصول على موقعٍ متقدّم في السياسة، أو حقيبةٍ في وزارة، كان اسماعيل سكرية يضع في أولوياته القِيم الانسانية الراقية، وسلامة أبناء بلده. لا يوارب، ولا يتنازل عن المبادئ. يصارح الرأي العام، إن في مقابلاته الصحافية او في كتاباته، على تنوّعها. خرج من الأنانيات الضيّقة والرخيصة، لينهمّ بالانسان، والمجتمع. ينطبق عليه قول نابليون مميّزاً بين السياسي المشغول بمصلحته والوطني الحق: "السياسي يفكّر في الانتخابات القادمة، والوطني يفكّر في الجيل القادم".

حاول أن يجسّد صوت المحرومين، ويسلّط الضوء على جراحهم المنسية. حمل همّ المواطن المقهور والمهمّش. فالسياسة خدمة عنده، والمراكز محطّة عابرة في نظره، إنها مناسبة لأداء الخدمات التي تنهض بالمجتمع وبأبنائه جميعاً. أحسن التفنّن في إدارة ملف الدواء. في كواليسه الكثير من الفضائح. في ملفاته عددٌ من الحقائق الصادمة. لأمثاله يقول لاروشفوكو: "أنجح سياسي هو الذي يقول ما يفكّر فيه كلًّ إنسان، في جميع الأوقات وبصوت عالٍ".

نقابيٌّ محترفٌ، يفتح الملفات ويلاحقها حتى بلوغ الهدف. عمِل بجهدٍ على إدخال نقابة الاطباء في لبنان الى المجال العربي، وفي وضع مقومات قانون الآداب الطبية. دافع بشراسة عن مؤسسة الضمان الإجتماعي، لما تلعبه من دور محوري على صعيد الأمن الصحي والأمن الاجتماعي. رفض السير نحو خصخصة هذه المؤسسة، فخاض المعركة تلو الأخرى، وكان الثمنُ باهظاً. سجّل بحروفٍ ذهبية أشرف المواقف وأنبلَها على هذا الصعيد. سطّر في تاريخ النضال النقابي فصولاً من الانجازات والمواقف التي يصعب نسيانها.

تفخر الحركة الثقافية، أنطلياس، في دورتها التاسعة والثلاثين، بتكريم هذا الطبيب العلم، والسياسي العلم، وهي تفرح بوضع منبرها في تصرّف هذه القامة الوطنية الراقية، من أجل تسليط المزيد من الضوء على ما تكتنزه شخصيته من ذكريات، وإنجازات، وشهادات حية. اسماعيل سكرية لك نقول: أهلاً بك في يومك.

 

- اسماعيل سكرية، تليق بك الكلمات الطيبة والشهادات الصادقة، ونحن نبدأ برفيق النضال النقابي، صاحب التاريخ المفعم بالمواقف الثائرة. إنه الوجه المعروف بمناقبيته، وصلابة مواقفه، وسموّ أخلاقه، وإنجازاته النقابية على مرّ السنين، إنه رفيق الدرب النضالي الطويل، الأستاذ أديب بو حبيب. الكلمة لك فللتفضّل.

__________________________________

 


       اديب بوحبيب

            بداية اسمحوا لي ان اتوجه بالشكر للحركة الثقافية في انطلياس وللصديق العزيز الدكتور عصام خليفة لدعوتي للمشاركة في تكريم الصديق العزيز الدكتور اسماعيل سكرية.

            في اللحظة الاولى فكرت كيف يمكنني انا شخصيا ان اقوم بتقديم الصديق الذي يصعب عليي انا او غيري من القيام بهذه المهمة الصعبة ،كون الشخص المكرم سجله وتاريخه حافل بالمواقف المبدئية التي ارتضاها لنفسه في دفاعه وعمله من اجل صحة الانسان رغم كل الصعوبات التي واجهته من قبل اطراف متعددة ، هذه المواقف التي جلبت له العداء من شركات الادوية والمستشفيات والقوى السياسية التي تحمي  تجاوزات واستبداد هولاء الذين حولوا صحة الانسان الى مكاسب تجارية ومالية وسياسية .

           لاول مرة التقيت الدكتور سكرية كان ذلك سنة 1993 بعد ان صدر قرار عن مجلس الوزراء بتشكيل اللجنة المؤقتة لتقوم بمقام مجلس ادارة الضمان الاجتماعي، هذه اللجنة المكونة من تسعة اعضاء التي تمثل فيها  ثلاثة عن العمال ثلاثة عن اصحاب العمل ثلاثة عن الدولة وبرئاسة الدكتور هيام ملاط ، وكان الدكتور اسماعيل من بينهم كمندوب عن الدولة ، السؤال الذي طرحته على نفسي كيف يمكنني ان اعمل في هذه اللجنة  ، انطلاقا من معرفتي كنقابي ما يعانيه الضمان من صعوبات ومن محاولات لضربه وانهائه كأهم مكسب حققه العمال منذ صدور قانون العمل سنة 1946 ويعود كذلك ايضا لمعرفتي ما واجه هذا المكسب منذ صدوره في عهد الرئيس شهاب من عراقيل ومعارضة من قبل النواب واصحاب العمل والشركات وحتى بعض النقابيين مع الاسف ، مما اضطر الرئيس شهاب الى اصداره كقانون بمرسوم رقمه 13955 سنة 1963

           هذه الهواجس بدأت تتبدد منذ انعقاد الجلسة الاولى حيث تبين لي بأن جميع اعضاء اللجنة جادون في معالجة وضع الضمان لانقاذه وللقيام بدوره من الناحية الاجتماعية ، وبدأت العلاقة تتبلور اكثر مع الدكتور سكرية بالمناقشات والافكار وكأننا نعرف بعضنا البعض منذ سنوات .

          وللحقيقة التاريخية اقول عند بداء عمل مجلس الادارة واحالة مشروع الموازنة المقدم من الادارة تبين لنا الخلل المالي الكبير، وبأن الموازنة الادارية هي بحدود الاربعة وعشرون مليار ليرة  ، وكل الموجودات المالية في الضمان هي بحدود الاثنين وعشرين مليار ، وكان الهم الاساسي لمجلس الادارة وللدكتور سكرية كيفية انقاذ الضمان من الافلاس المحتم ، وبدأ التعاون بين اعضاء مجلس الادارة وخاصة الدكتور سكرية ورئيس مجلس الادارة وكل الا عضاء ، حيث اتخذ عدد من القرارات الهامة ومنها كمثال لا للحصر ، بتطبيق براءة الذمة ، عدم ربط التقديمات العائلية والصحية بالاشتراكات ، رفع الاشتراكات في فرعي الضمان الصحي والعائلي مما ادى الى اعادة التوازن المالي للصندوق ، وخلال الست سنوات من عمر مجلس الادارة اصبحت الموجودات المالية حوالي الالف واربعماية مليار ليرة ، هذا ما جرى على مستوى الضمان الاجتماعي .

          كما عمل الدكتور سكرية ومجلس الادارة من اجل توحيد الجهات الضامنة باشراف الضمان الاجتماعي ، وانشاء المكتب الوطني للدواء ، مما يوفر من الفاتورة الدوائية بنسبة تتراوح بين ال40% وال60% لكن كل هذه الافكار والاقتراحالت اجهضت من قبل القوى السياسية ، رغم كل المحاولات العديدة من قبل مجلس الادارة لوضعها موضع التنفيذ .

         اما تجربتي الثانية مع الدكتور سكرية الذي انتخب في نفس الفترة نائبا في البرلمان، وحمل معه قضية الصحة  بكل مداخلاته والاستجوابات للحكومة داخل المجلس النيابي ، وفي نفس الفترة كلف الدكتور سكرية برئاسة مجلس ادارة مستشفى اميل بيطار الحكومي في البترون التي يديرها الضمان الاجتماعي وكنت انا نائبا له ، وعملنا سوية من اجل تطوير المستشفى املين ان تصبح نموذجا كمؤسسة صحية تابعة للضمان الاجتماعي ، ولتحويل كافة المستشفيات الحكومية لاشراف وادارة الضمان .

        خلال وجودنا في مجلس ادارة المستشفى واجهتنا امور عديدة اعرض منها قضيتنا ،الاولى ابلغتنا الادارة المالية للمستشفى بأن مندوب وزارة الصحة وممثلي شركات التأمين طلبوا ان يحسم من المستحقات المالية عليهم بحدود 30% كما يجري مع المستشفيات الاخرى ، فكان جواب الدكتور سكرية حازما بالرفض ، لاننا نحن نتقيد بالتعرفة المحددة رسميا من قبل الضمان ووزارة الصحة ، بينما المستشفيات الاخرى تلغم فواتيرها لذلك تقبل بالحسم .

         والقضية الثانية تبين لمجلس الادارة بأن عدد من الاطباء المتعاقدون مع المستشفى يستغلون مجيء المرضى الى المعايناة الخارجية التابعة للمستشفى ويحولون مرضاهم الى عياداتهم الخاصة ، فطلب الدكتور سكرية من جميع الاطباء المتعاقدون الالتزام بتنفيذ العقود معهم والذي يلزمهم بعدم تحويل المرضى الى عياداتهم الخاصة . وقد اصبحت المستشفى كمؤشر ومرجع لادارة الضمان لتحديد كلفة الاسشفاء عند التعاقد مع المستشفيات الخاصة .

           اما تجربتي الثالثة مع الدكتور سكرية كانت بعد انتخاب مجلس ادارة جديد للضمان وخروجنا منه ، استمر الدكتور سكرية بمتابعة العمل وتم انشاء الهيئة الوطنية الصحية ( كجمعية ) انطلاقا من ايمانه بصحة الانسان وعملنا سوية من اجل احترام الاتفاقيات الدولية ، وشرعة حقوق الانسان التي وقع عليها لبنان والتي تنص صراحة على الامور التالية - الحق في الصحة - الحق في التعليم – الحق في العمل – الحق في السكن -، هذه الاتفاقيات التي لم تحترم من قبل السلطات اللبنانية والحكومات المتعاقبة منذ التوقيع عليها حتى الآن ، وها نحن اليوم نعيش في ازمة خانقة ، المواطنون يموتون على ابواب المستشفيات - يتزايد فيها العاطلين عن العمل حتى وصلت الارقام الى حدود 40% - ونسبة 35% من خريجي الجامعات  لايجدون فرصة عمل وهم مشروع هجرة – وتهديد المواطنين بحرمانهم من حقهم في السكن نتيجة لقانون الايجارات الجائر وعدم وجود سياسة اسكانية بديلة – والتلاميذ مهددون بالطرد من المدارس – وارتفاع الاسعار الخ ... اين هي دولة الرعاية الاجتماعية التي نادى وعمل ومازال الدكتور سكرية يطالب بها؟؟؟!!!

          وللحقيقة اقول ان الدكتور اسماعيل سكرية تعرض الى الكثير من المضايقات من قبل القوى السياسية والاحتكارات بعد فضحه الصفقات التي تتم على حساب صحة الانسان في الدواء والاستشفاء، وابرزها فضيحة ادوية السرطان ، ومغارة على بابا في وزارة الصحة ، وكشفه مع عدد من زملائه الاطباء ، للامراض السراطانية التي تصيب المواطنين القاطنين على طول مجرى نهر الليطاني ،وعمل جاهدا لفصل قضية الصحة والدواء عن المصالح والتجازبات السياسية ، مما عرضه الى الهجوم وحتى العداء من قبل القوى السياسية ، بطرفيها 8 و14 اذار كما كانت تسمى ، وقد اشار في كتابه عن المضايقات التي تعرض لها ومنها اخراجه من البرلمان الذي تم باتفاق سوري لبناني .

          وفي هذا المجال  لا بد من ذكر احد الوزراء الذي تعرضوا مثل الدكتور سكرية للهجمات والتدابير من قبل السلطات السياسية في لبنان ، والذين عملوا من اجل مصلحة لبنان كشعب وكوطن ، ومن اجل تطبيق القوانين واحترامها ، ومنهم الدكتور اميل بيطار الذي اطيح به في عهد حكومة الشباب عندما تناول قضية الدواء واحتكاره

          واخيرا للاطلا ع على مواقف الدكتور سكرية المكتوبة والمنشورة تجدونها في المؤلفات الثلاث التي صدرت وهي : 1 - الدواء ... مافيا ام ازمة نظام ؟ 2 -  الحق في الصحة في لبنان – 3 - الصحة حق وكرامة – وأخيرا نص المؤتمر الصحفي الذي عقده باسم الهيئة الوطنية الصحية في نقابة الصحافة بتاريخ 19 شباط 2020 والذي نشر في العديد من الصحف ووسائل الاعلام، والذي اعتبر من قبل الكثيرين كبرنامج عمل في مجال الصحة امام الحكومة والمسؤولين ، كما يمكنكم متابعة لقائاته عبر التواصل الاجتماعي التي غطت اخيرا كل هذه المواقف .

واخيرا اعتذر من الدكتور اسماعيل سكرية لانني لم اتمكن في هذه العجالة ان افيه حقه .

فتحية مني للدكتور سكرية هذا المناضل من اجل الانسان وصحته .

3/10/ 2020                                                                            اديب بوحبيب

_________________________________________________