تكريم الأديب عيسى مخلوف

 

تكريم الأديب د. عيسى مخلوف

كلمة د. نجاة الصليبي الطويل

5 آذار 2023

 

مساءُ الخير

 

بدايةً النشيد الوطني اللبناني

 

أرحبُ بكم في مسرحِ الأخوين رحباني ودير مار الياس انطلياس، وبصورةٍ خاصة في المهرجان اللبناني للكتاب الذي تقيمُه الحركة الثقافية – انطلياس.

 

أيها الحفلُ الكريم،

 

لقد شاركتُ عشراتِ المَرّات في تقديمِ أحدِ أعلامِ الثقافة، لكنّني شعرتُ ولأولِ مرّة، عند كتابةِ كلمتي هذه، في تقديمِ الأديب "عيسى مخلوف"، أن مهمّتي شاقّةٌ، وكأنّ الصفحةَ البيضاءَ عاجزةٌ عن تلقّي تزاحمِ الأفكارِ الكثيفةِ حولَه، او كأنّ الكلماتِ غيرَ مؤهَلَةٍ للتعبيرِ عن زَخْمِ فحوى نتاجِ الأديب.

لم أقتنعْ بأهميةِ سردِ مفاصل حياتِه كما جَرَتِ العادةُ في مثلِ هذه المناسبة، وهو الضنينُ بتفاصيلِها، وكأنَ لا أهميّةَ لها بنظرِه. ورغمَ ذلك، كتبَ سيرةَ حياتِه في "ضفاف أخرى" الشَيّق، عبر حوارٍ مع علي محمود خضيّر وتقديمٍ منه. ولكنّها ليسَتْ سيرةَ حياةٍ بالمفهومِ التقليدي، إنما هي بعضُ محطاتٍ حياتيةٍ تصبحُ حجّةً للإنطلاقِ نحو لقاءاتٍ، ومناسبةً للتعبيرِ عن أفكارٍ وأحاسيسَ تدورُ في حركةٍ لولبيّةٍ من الأصغرِ نحو الفضاءِ الأوسع، وتعودُ نحو الأدنى، لحَدَثٍ معيّن أو لصورةٍ أو لنظرةٍ ...

 

 

 

 

 

نعم، نعلمُ أنه وُلدَ في زغرتا في خمسينياتِ القرنِ العشرين، وأنه أمضى دراستَه بين مدرسةِ اللعازريه ومدرسةِ الفرير في طرابلس.

وانتقلَ بعد ذلك في 1976، بعد اقلّ من عامٍ على بدايةِ الحربِ الأهلية، الى مدينةِ كراكاس، وسافرَ في ظروفٍ استــثـــنــائيّةٍ، دون أيِّ مرافقةٍ من الأهل، (وكانتِ الطائرةُ الأخيرةُ التي اقلعَتْ آنذاك من المطار في الحادي عشر من آذار 1976 يوم الانقلاب الذي قامَ به العميد عزيز الأحدب). وانقطعَ عن الأهل، وطالَ الانتظارُ ولم تنتهِ الحربُ كما وعدَهُ والدُه عند وَداعِه. وبدلَ العودةِ الى لبنان، ذهبَ الى باريس حيثُ درسَ في جامعةِ السوربون، ونالَ شهادةَ الدكتوراه في الانتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية.

تزوج ورُزق بثلاثةِ أولاد...

يبدو هذا السيناريو مشتركاً مع الكثيرِ من الشبابِ اللبناني.

 

وهنا أعدتُ التساؤلَ عن العَلاقةِ غيرِ الواضحةِ التأثيرِ والتلازمِ والسببيّة، بين الأحداثِ التي يعيشُها الكاتبُ ونتاجِه: هل هي التي تصنُعه او هو الذي يبرزُها، ويرسمُها من جديد على طريقتِه، جاعِلاً منها أحداثاً غريبة، فتصبحُ غير واقعيةٍ ولاعقلانية أحياناً.

منذ حداثتِه، وقبلَ التأثرِ بالترحالِ المُبْكِر ووحدةِ الغُربة، كان مدفوعاً بعطشٍ وشَغَفٍ مخفيَّــيْــن، فأسّسَ مع بعضِ الاصدقاء "الحركة الثقافية/ حلقة الفن والأدب"، وكانت من أبرز نشاطاتِها، مسابقةٌ لقراءةِ الشعرِ الحَديث.

 

وأعودُ ايضاً الى فترةِ الستينيّات من القرنِ الماضي، حيثُ برزَتْ وقويَتْ، نزعةُ النقدِ البُنيَويّ المرتكزِ على نتاجِ الشاعرِ فقط، والمتمرِّدِ على النَهجِ المتّبع حينها في اللجوءِ الى حياةِ الشاعر ومجتمعِهِ وعصرِه، لدراسةِ أعمالِه. ورُغمَ عودةِ الأساليبِ النقديةِ الى الدمجِ بين الطريقَــتين، لاحقاً، أراني عند قراءةِ كتبِ وشِعرِ عيسى مخلوف أتساءلُ من جديد، عن تأثيرِ أحداثِ حياتِه في أدبِه، وهو مَن أصدرَ قبلَ رحيلِه من لبنانَ، مجلةً ثقافيةً تحملُ اسمَ "تحوّلات"؛ كما نشرَ الشاعرُ أنسي الحاج قصائدَه ومقالاتِه الأولى في "ملحق النهار".

أعودُ وأجادلُ نفسي معترفةً بتطرّقِهِ لكثيرٍ من المواضيعَ المرتبطةِ بأحداثٍ عايَشَها: كالحربِ والدماءِ والخيانات، العنفِ والظلمِ والغربة... وكانت تمحورَتْ أطروحتُه الجامعيّة حول الحربِ الأهليةِ في لبنان وصدرَت في كتابٍ عنوانُه: "بيروت وجاذبية الموت".

 

 

في أيِّ حال، لا تبرّرُ أحداثُ سيرةِ حياتِه طريقةَ طرحِه ومعالجتَه للأحاسيسِ والصُوَر، ولا لتركيبةِ جُمَلِه ولا لنبضِ وإيقاعِ كلماتِه وما تختزنُه من دلالاتٍ غريبة. إنسيابٌ دافئٌ لأضدادٍ تترنّحُ بين الضوءِ والعتمة، بين النظرةِ وجمودِ العَينَيْن، بين الأملِ والموت، بين الحياةِ والانطفاء؛ بين الواقعِ والمشاهدِ الحِسيّةِ والمرئيةِ، واللاواقع واللامرئي واللامحسوس... فـتـنـزلقُ في لمحةٍ الى أبعادٍ روحانيةٍ، ضِمنَ أُطُرٍ وأسُسٍ خاصة، تسمعُ طرقَ قلبِك وكأنّك على شفيرِ عالمٍ غريبٍ، تخافُ ولوجَهُ، فيَمَسُّكَ السِحْرُ. تُصيبُكَ عَدوى القلقِ والتخوّف من اكتشافِ ما وراءَ هذه الهِجرةِ المُتجَدّدةِ والمتجذّرةِ دوماً بين الأماكنِ والأزمنةِ، بين البقاءِ والرحيل، بين الحبِّ واللاانسانية، بين الثقافةِ والبربرية، بين الجَمالِ الرابضِ الفاقعِ وحتميّةِ الامِّحاء. وتهابُ ان تقتربَ من شيفرة فَكِّ المحظورِ واسبابِ الوجودِ التي ربما غَفَلْنا عنها وتناسيناها.

 

خطوطٌ جديدةٌ يطغى عليها الأبيض والأسود، وألوانٌ مختلفةٌ خفيّة، يفترضُها القارئُ؛ لغةٌ ظاهرُها ذهنيٌّ وفي الوقت نفسه، لغةٌ لمّاحةٌ توحي اكثرَ مما تقول...

تفاجئُك بفضاءٍ يحيطُ بكَ ويطبعُك بكلامٍ قليل، فتتلقاهُ وكأنّه نشيدٌ كورالي لحواسٍ، ولصُوَرٍ تتطايرُ حولك، وتسجنُك في أثيرٍ، تصفعُك غرابتُه وترنُّحُه بين المألوفِ وألَقِ الفَنِّ والكِتابة.

 

قَبضَ على جمالِ اللغةِ العربيّة وامتلكَها، واطلقَ امكانيّاتِها من خلالِ رُؤاه، وإتقانِه اللغةَ الفرنسية. اقتحمَ حدودُ الأنواعِ والأجناسِ الأدبيّة، ومزجَ في عملٍ واحد، بين الروايةِ والشِعرِ والسيرةِ والمقالاتِ واليوميّات... لغتُه الشفّافةُ والراقيةُ هي حصيلةُ تعمّقٍ في النصوصِ القديمةِ وهو المثقّفُ الواسعُ المعرفةِ، يدورُ في فَلَكِ المبدعينَ من شعراءَ وكتّابٍ وفنّانين.

 

كان لعملِه عامةً وفي الصحافةِ خاصةً، دوراً أساسياً في ممارسةِ الكتابةِ اليوميّة ونحتِ لغتِهِ التي لازَمَت مسارَ تقدّمِه وتطوّرِه. عمِلَ في باريس في أسبوعيّة "النهار العربي والدولي"، ثم بعد توقُّـفِها، في مجلّةِ "اليوم السابع"، وكان، في سنواتِها الاولى، المسؤولَ عن القسمِ الثقافي فيها. عمِل في "اذاعة الشرق" في الثقافة أولاً ثم مديراً للأنباء؛ وكان مستشاراً للشؤون الثقافية في منظمةِ الأمم المتحدة، في إطار الدورة الحادية والتسعين للجمعية العامة (2006-2007).

 

 

شارك في دورياتٍ عدّة كمجلة "مواقف" التي تسلّم أمانة تحريرها ما بين 1992-1994 وفي مجلة Europeالشهرية الثقافية، التي تصدرُ في باريس. وهو يكتبُ حالياً مقالاً أسبوعياً في صحيفة "نداء الوطن" ويشاركُ في الكتابة في "L’Orient Littéraire" .

كما مارسَ التعليمَ الجامعي، وحاضر في "المعهد العالي للترجمة" جامعة باريس III.

سكَنَتْهُ الكتبُ العديدةُ التي ترجمَها (من اللغتين الفرنسية والاسبانية):"قصص من اميركا اللاتينية"، "فان غوغ منتحر المجتمع" لانطونان ارتو... وغيرَها، بالاضافةِ الى دراساتٍ فكريّةٍ وأادبيّةٍ ونصوصٍ شعرية، لعددٍ كبيرٍ من الشعراءِ الفرنسيّين مثل رونيه شار، وإيف بونفوا...

كما اشرفَ على بعضِ الكتبِ منها "جبران الفنان والرؤيوي" الصادر عن دار فلاماريون باريس، وواكبَ معرضاً في "معهد العالم العربي" يحملُ العنوانَ نفسَه.

 

اللافت، صدورُ كتبٍ فنيّةٍ جمعَت بين نصوصِه ورسومِ عددٍ من الفنانين التشكيليّين ومنهم: آدم حنين، اسادور، ضياء العزاوي، اتيل عدنان، كوليت دوبلي، وشفيق عبود.

شاركَ في مهرجاناتِ بعلبك الدولية من خلال عملَيْن اخرجهما المسرحي نبيل الأُظن.

 

ان حوارَ الثقافاتِ هذا، والانصهارَ في طبقةٍ انسانيّةٍ وفنيّةٍ معيّنة، وبغيةَ نقلِ هذا الصقلِ المتعددِ المستويات، الى قارئٍ غيرِ محدودِ الأفق، مغامرةٌ معرفيةٌ وثقافيةٌ وانسانيةٌ شاملة.

صُور الفنون من رسمٍ ونحتٍ ومسرح، المقيمةُ فيه، دفعَتْ بكتاباتِهِ نحو جماليةٍ خاصّة، ونبضٍ غريبٍ صعبٌ تفكيكُهما. تطبعُ قلبكَ وذهنك رؤاه، وتردد ذاكرتُك صيغاً ومفردات وانسياب موسيقى.

 

أصدر اكثر من عشرين كتاباً في الشعر والنثر والبحث (معظمها باللغتين العربية والفرنسية، وبعضها بالاسبانية والانكليزية أيضاً):

  • "نجمة امام الموت ابطأت" 1981
  • "عزلة الذهب" 1992 باللغتين العربية والفرنسية
  • "عين السراب" 2000 الذي نُقل الى الفرنسية
  • "رسالة الى الأختين" 2004 بالعربية والفرنسية

 

 

  • مسرحية "قدّام باب السفارة كان طويل" مع الفنانة نضال الاشقر 2008
  • "مدينة في السماء" نُقلت الى الفرنسية 2014
  • "نامت احلامهم وتأرجحت على الموج" نُقلت ايضاً الى الفرنسية
  • "أمواج" بالعربية والفرنسية. واكب صدور هذا الكتاب الفني معرض "الموسيقى العربية في مدينة الموسيقى" في باريس 2018
  • "أقنعة الغربة" صدر بالعربية والفرنسية والاسبانية 2018
  • "ما سوف يبقى" 2019 بالعربية والفرنسية
  • "شروق"، نص مسرحي مستوحى من اساطير بلاد ما بين النهرين والساحل الكنعاني (غير منشور)

وهناك دراساتٌ عديدة الى جانب الترجمات.

 

وفي النهاية، نستخلصُ، أن عيسى مخلوف يدورُ بهدوءٍ في عالمٍ متعدِّدِ الأوجُهِ، فتعكِسُ مرايا معرفتِه شَظى الجروحِ المُسَنّنة، والتمازجَ السريعَ للألوان، فتُضحي ظلالاً، ويَخرجُ من نفسِهِ ويَرمي بذكرياتِه وبذهنِه وبلغاتِه عليها، فيسمو ليحتضنَها جميعاً في أدبٍ كثيفٍ و"مضغوط" من جِهة، ومنفتحٍ على كلِّ الاحتمالاتِ من جهةٍ أُخرى.

تناقضاتٌ كثيرة ينظِّمُها في "سلام عنفي"، كالكلمةِ القُصوى التي لا تُــــكْسَر.

_________________________________

 

شهادة في عيسى مخلوف

جمع في مفرد

مارلين كنعان

السيدات والسادة،

حين طُلِبَ مني أن أتحدثَ عن عيسى مخلوف تهيَّبتُ. من أين لي الكلامُ عن سيدٍ من أسيادِ الشعرِ والأدبِ والترجمةِ والصحافةِوالنقدِ الفنيّ والبحثِ الجامعيِّ الرصين؟

لو كان لا بدّ لي من الشَهادةِ في عيسى مخلوف لردّدتُ مع سعيد عقل مطلِعَ قصيدتِهِ في سيدِ البُلغاء علي بن إبي طالب في ديوان كما الأعمدة:

 كلامي على ربِّ الكلامِ هَوًى صَعْبُ     تهيَّبت...

مكانةُ الرجلِ مشهودٌ لها، وليست بحاجةٍ إلى شَهادتي أنا بالذات. غير أن الاحترامَ والمحبةَ والإعجابَ الذي أكنُّهُ للصديقِ السابحِ في بحرٍ من المعرفةِ والأدبِ واللياقةِ واللطفِ والجمالِ الإنساني جعلني أقبلُ هذا الطلب.

تعرفتُ إلى عيسى مخلوف في بدايةِ الألفيةِ الثانية. ومُذذاكَ لم تنقطعْ عَلاقتي به وحواراتي اللامتناهيةُ معه في بيروتَ وباريس، وقراءتي لكلِّ كتبهِ ومقالاتِهِ وترجماتِهِ التي تضاهي في جمالِها جمالَ المؤلفاتِ الأصلية.

كانت البدايةُ مقالاً لي تناولَ كتابًا له صاغَ جُمَلَهُ كَشَكِّ لؤلؤ وصوّرَ عباراتِهِ بسحرٍ حملني إلى فردوسٍ نثريٍّ لا نهايةَ له. لم يكن هذا الكتابُ الفردوسَ الوحيدَ في نصوصِ عيسى مخلوف. كلُّ إصداراتِهِ جنائنُ معلَّقةٌ ترتقي في مبناها ومعناها إلى مرتبةِ الحدثِ الفكري.

عيسى شاعرٌ يُحوّلُالكلماتِ العاديةَ بصنعةِ الالخيميائي وبراعتهِ إلى ذهب. يسكُبُ عليها رهافةَ شعورِهِ وحساسيتِهِ ومعارفِهِ التي تتراص في نصوصهِ كمنحوتاتٍ تبلغ في كثيرٍ من الأحيان جماليةً آخاذة، تُحوّلُها على طريقةِ حجرِ الفلاسفة، فتصبحُ أثيريةً شفافة، تستبدُّ بالقارئِ وتُسكِرُهُ بإكسيرِها حتى الثمالة.

لن أُعدّدَمؤلفاتِ عيسى ومآثرَه ولن أستغرقَ في المديحِ والثناءِ المُلازِمَين لمناسباتِ التكريم. بل سأتحدثُ عن الكَثرةِ التي تُميّزُ شخصيتَه واهتماماتِهِ المتنوعة.

عيسى مخلوف هو أولاً مترجمٌ ينقلُ النصوصَ من الفرنسيةِ والإسبانيةِ إلى العربيةِ بأمانةٍ وأناقةٍ وروحٍ خلاقةٍ قلَّ نظيرُها، كترجمتِهِ عن الفرنسيةِمسرحيةَ مهاجر بريسبان لجورج شحادة، وكتابَ أنطونان أرتوفان غوغ منتحر المجتمع،وروايةَ فيليب سولرس رغبة، وكترجمتِهِ عن الإسبانيةِ قصائدَ لبابلو نيرودا، وكتابَ الأحلام المشرقية-بورخِس في متاهات ألف ليلة وليلة وهو عبارةٌ عن ترجمةٍ لبعضِ أشعارِ الناقدِ والقاصِّ والمترجمِ الأرجنتينيّ ودراسةِ تأثّرِهِ بالثقافةِ العربية،وقصص من أميركا اللاتينية، وغيرَها من الكتب.

 وهو ثانيًا أديبٌ وباحثٌ يكتبُ بالعربيةِ والفرنسيةِ والإسبانية.ولربما يعودُ الفضلُ في انفتاحهِ على العالمِ إلى تعدُّدِ اللغاتِ التي يُتقنُها والتي علّمتْهُ أن ليس هناك فكرةٌ واحدةٌ بل ملايينُ الأفكار، وأن ليس هناك دينٌ واحدٌ، بل آلافٌ الأديان، وأن ليست هناك نظريةٌ ورؤيةٌ واحدةٌ بل آلافُ الرؤى، وأن كلَّ ما لا يقبلُ النقاشَ مُرعِبٌ، وإن كان صحيحًا، ما جعلَ كتبَهُ الموضوعةِ باللغةِ العربية لا سيّماعين السراب، ورسالة إلى الأختين، التي نال عنها جائزةَ ماكسجاكوب سنة 2009،ومدينة في السماء،علامةً فارقةً في الأدبِ العربيِّ الحديث، وقد نقلَها إلى اللغةِ الفرنسية كبارُ المترجمينَ والأدباء.

وهو ثالثًا شاعرٌ مُلهَمٌ، تلفتُنا قصائدُه المشغولةُ بعناية والمصوغةُ بعمقٍ وإبداع كعزلة الذهب، وهيامات،وما سوف يبقى،الخ.،  وقد جمعتْ إلى محاسنِ الكلامِ وفرادةِ الصوَرِ الشعريةِ التبّصرَ في موضوعاتِ الحياة.

وهو رابًعا ناقدٌ فنيٌّ شارك في إقامةِ عددٍ من المعارضِ لرسّامينَ ونحّاتين مميزّين، كالمعرِضِ الاستعاديِّ لأعمالِ جبران خليل جبران في معهدِ العالمِ العربي في باريس سنة 1998 والذي رافقَهُ صدورُ كتابٍ باللغةِ الفرنسيةعن دار فلاماريون بعنوان جبران الفنان والرؤيوي. كما وضعَ دراساتٍ جماليةً معمّقةً تناولتْ أعمالَ الفنانِ صليبا الدويهي، ونخبةٍ من الفنانين التشكيليين كأسادور وضياء العزاوي، وآدم حنين، وإيتل عدنان، ونذير نبعة، وشفيق عبود، وأسعد عرابي، وغيرِهِم. واستوحى بعضُ كبارِ الفنانين من قصائدِه ونصوصِه رسوماتٍ ومنحوتاتٍ زيّنتْ عددًا من كتبهِ، أو واكب صدورُ بعضِها معارضَ فنيةً وموسيقيةً كمعرِضِ الموسيقى العربية في باريس الذي رافق صدورَ كتابِه أمواج سنة 2016.

 وعيسى أخيرًا  كاتبٌ مسرحيٌّ وأستاذٌ جامعيٌ درّس في السوربون وفي جامعةِ جنيف، وصحافيٌ بارزٌعمِلَ مديرًا للأخبار في إذاعةِ الشرق في باريس، وفي النهارِ العربيّ والدوليّ وأشرفَ على القسمِ الثقافيّ في مجلةِ اليوم السابع  وأمانةِ التحريرِ في مجلّةِ مواقف، كما عمِلَ مستشارًا خاصًا للشؤونِ الاجتماعيةِ والثقافيةِ في الأممِ المتحدة.

غير أن عيسى قبلَ كلِّ شيء، إنسانٌ حرٌّ خفِرٌ ذوّاقةٌ مولَعٌ بالفن ومنحازٌ إلى الجمالِ أينما كان. هو نموذجٌ نادرٌ للمثقفِ الموسوعيِّ الذي تبطلُ أمامَ اتساعِ ثقافتِه، الحدودُ والفواصلُ،والذي تجتمعُ في شخصهِ المعارفُ والدماثةُ الأخلاقيةُ العالية، ما يجعلُ الحديثَ معه شديدَ المتعةِ والفائدة.

يُقيمُ عيسى مخلوف في باريس. غير أنه يُقيمُ فعليًا على تقاطعِ الثقافاتِ والحضاراتِ، في اللغةِ والكتبِ والأسئلةِ، وفي اللوحاتِ والمنحوتاتِ والصوَرِ الفوتوغرافيةِ والمعارضِ وصالاتِ السينما والموسيقى والمتاحفِ والمكتباتِ وأروقةِ الجامعاتِوالحدائق، التي تعكسُ في نظرهِ تصّورًا مثاليًا لنظامِ الكونِ ولعالمٍ يسودُه التناغمُ والانسجام. وقد كانَ لي ذاتَ يومٍ حظُّ التنزّهِ برفقتِهِ في بعضِ هذه الحدائقِ، كتلك النزهةِ بالقربِ من باريس وسطَ المناظرِ الطبيعيةِ الخلاّبة، التي لم يتوقفِ الرسّامُ الانطباعي جان-باتيست كميل كوروعن رسمِها أثناءَ تجوالِهِ في فرنسا. أو كمثلِ تلك النزهةِ في حديقةِباغاتيل وأشجارِها العملاقةِ ونباتاتِها المتنوعة وجسورِها الصغيرةِ وورودِها الرائعة. أو تلك النزهة،على هامشِ أحدِ المؤتمرات، في حديقةِ اللوكسمبورغ، حيث المساحاتُ الخضراءُ تتنافسُ بجمالِها مع التماثيلِ والزهورِ والأشجارِ والملاعبِ ونافورةِ ميديسيس وانخطافِ عيسى بجمالِ الطبيعةِ  والمنحوتاتِ في لحظاتِ تأمّلٍ كثيفة.ولعل هذه الأماكنَ التي تعجُّ بها العاصمةُ الفرنسية أصبحتْ هي وطنَ مخلوف والكتابةَ سُكناهُ منذ مغادرتِهِ لبنانَ وابتعادِهِ عن الأهلِ والأصدقاء، وعن جبلِ إهدن المتلونِ بألوانِ الشروقِ والغروبِ والمتوشِّحِ بالغيومِ والضباب.

والكتابةُ عند عيسى مخلوففعلُ وجودٍ يُحرُّكُهُ هاجسٌ ورؤية. هي وليدةُ الجرحِ الذي حملَهُ معه من وطنٍ يتقاتلُ أهلُهُ وتُدَّمَرُ مدنُهُ وقراه، ووليدةُرفضِ السائدِ والشعورِ الحادِّ بالزوالِ والتعبيرِ عن الذات في ردِّ فعلٍ على الواقعِ وما فيه من عنفٍ وبؤسٍ وظلام.ولربما كانت أيضًا مسعىً جماليًا يُخفّفُ بواسطتهِ حدةَ العنفِ الذي يحيط بالحياة.

تجذًرتْ هذه الكتابةُ فيالنظرِ إلى الوجودِ الانسانيِّ في تعقيداتهِ وجمالاتهِ وقباحاتهِ وسطَ هذا الكونِ الغامض. وتغذّتْ من قصائدِ كبارِ الشعراءِ ونصوصِ كبارِ الأدباءِ الذين قرأ مخلوف كتبَهم ودواوينَهم أيًا تكن اللغةُ التي وُضِعتْ بها. ومنهاقصائدُ ونصوصُ شعراءِ وكتّابِ القرنِ التاسعِ عشر في فرنسا كأبولينير وبودلير ورامبو ومالارميه وبروست. وقصائدُ ونصوصُ كبارِ شعراءِ وكتّابِ القرنِ العشرينكرينه شار وميشال فوكو وإيف بونفوا وبيار بورديو ورولان بارت وجاك بيرك، وقد تابع مخلوف محاضراتِ بعضِهم في الكوليج دو فرانس، فضلاً عن متابعتِهِ النقدَ الشعريَّ والأدبيَّ الذي يُنشَرُ في الكتبِ والمجلات وتَعرّفِهِ إلى عددٍ كبيرٍ من الشعراءِ والروائيين والمفكرين والفنانين التشكيليين من جنسياتٍ مختلفة.

وتغذتْ هذه الكتابةُ أيضًا من سَماعِ الموسيقى في كلِّ عصورِها، ومن مصاحبةِ أعمالِ الفنانين التشكيليين، وكتبِ أدباءِ وشعراءِ أميركا اللاتينية أمثال بورخِس وماركيس ويوسا، ومؤلفاتِ المتصوّفةِ والروحانيين وكلِّ تراثِ الأدبِ والشعرِ العربيّ، في قديمِه وحديثِه.

كلُّ النصوصِ التي وضعها عيسى مخلوف منذ كتابِهِ الأول نجمة أمام الموت أبطأت حتى اليوم أكانتْ شعرًا أو سردًا أو تأملاً أو نقدًا أدبيًا، والتييتحاورُ فيها الشعرُ مع السرد،والفلسفةُ مع الفن، والعلمُ والروحانية، تتلألأ جمالاً وعمقًا وترتفعُ بقارئِها إلى سماءٍ مرصَّعةٍ بالنجوم.

الشعرُ لا يقتصرُ عند مخلوف على القصيدةِ بل يتسربُ منها إلى كلِّ نصوصهِ، يتراءى بين الأحرفِ والأسطرِ والكلمات، أكانتْ هذه النصوصُ أدبيةً أم صحافية.

ليس ثمة نصٌّ مخلوفيٌّ،أيًا يكن نوعُهُ الأدبيّ، لا شعرَ فيه ولا كلمات تشتاق إلى تخطّي حدودها.ولئن كانت المسافاتُ معدومةً بين الشعرِ والنثرِ والسردِ والتأمّلِ الفلسفيِّ والسيرةِ الذاتيةِ والبحثِ العلميِّ والفنيِّ في كتاباتِ مخلوف، فإن أهميةَ هذه الكتاباتِ تكمنُ في جمعِها هذه الأنواعَ الأدبيةَ والمعرفيةَ كافةً في صفحةٍ، أو في جملةٍ، لا بل في كلمةٍ واحدة.

يسهُلُ على مَن يقرأ  كتاباتِ عيسى مخلوف أن يعرِفَ أنه ينتقي كلماتِهِ من الروح، يرعاها برفقٍ ورقةٍ ويزيّنُها بمعارفَ وتطلعاتٍ ناشئةٍ من الحريةٍ والتأملٍ الذي لا حدَّ له. لذا كانت كتبهُ خارجةً عن المألوفِ شكلاً ومضمونًا "تُخالِفُ السائدَ وتمضي في طرُقِها" على ما يقول الشاعرُ العراقيُّ علي محمود خضيّر في تقديمِهِضفاف أخرى،الحوارَ المطوَّلَ الذي أجراه مع مخلوف والصادر عن دار الرافدين. 

في ضفاف أخرى يكشِف عيسى مخلوف عن نفسهِ مسترجعًا مسرى حياتهِ منذ الطفولةِ في شمال لبنان والذكرياتِ التي رافقتْها، وحنانَ الأم وحبَّها الدافق، وجمالَ الطبيعةِ وموتَ الأخِ واندلاعَ الحربِ الأهليةِوتهاوي لبنان، والهجرةَ إلى فنزويلا، فباريس، والدخولَ في الحياةِ الأدبيةِ والثقافيةِ والتعرّفَ إلى قممِ الفكرِ والشعرِ والفنِ والأدبِ والإبداع.

هذا المسرى ترك أثرَهُ في شخصيتهِ وكتاباتهِ ومفرداتِ لغتهِ المتجدّدة التي تميّزُهُ عن سائرِ الكتّاب.  

فهو وإن كان يعيشُ في باريس يكتبُ بلغةِ الضاد وينشَطُ في سياقٍ عربيٍّ عمومًا ولبنانيٍّ خصوصًا. والرجلُ لم يكفَّ عن الانشغالِ بواقعِ لبنان الذي يتحدثُ عنه دومًا بحنينٍ لافت.

والعيشُ في باريس يعني في ما يعنيه العيشَ في العصرِ وهمومهِ وتحولاتهِ البيئيةِ وتحدياتهِ الفكريةِ والسياسيةِ والتكنولوجيةِوما آلت إليه الحياةُ في زمنِ الذكاءِ الاصطناعيّ وأثر كلِّ ذلك على الإنسان وعلى الإبداع. لكنه يعني أيضًا العيشَ في أكثرِ المدنِ انفتاحًا واهتمامًا بالفنونِ والأدب والثقافة.

في باريس يقرأ عيسى مخلوف الكتبَ بحثًا عن أجوبةٍ لهواجسَ لا تزال تلاحقُهُ مذ نشر قصيدتَه الأولى في الملحق الثقافي لصحيفة النهار. ويعبّرُ عن هذه الهواجسِ في كتابةٍ تنمو بلا توقفٍ كشجرةٍ باسقةٍ في سماءٍ لا حدَّ لها. ويبدو لي أن كتبَه تستكمل بعضَها في مسارٍ طويلٍ يبدأ ولا ينتهي في كتابٍ واحد. كأنّه يحاولُ الذهابَ بالكتابةِ على ما يقولُ جورج باتاي إلى "أقصى الممكن"، مستهديًا بجمالِ عباراتهِوحُسْنِ فصاحتهِ الخارجةِ عن نظيراتِها إلى معنًى وجوديٍ يتفلتّ، كلما مُسَّ، من عقالِهِ.

نقرأ عيسى مخلوف بما يسمّيه رولان بارت "لذةَ النص". ثمة في نصوصهِ ابتهاجٌ بالعبارةِ وموازنةٌ بين العمقِ والإيقاع، بين النظريةِ والغواية. ولعل هذه الموازنةَ، هي سِمةُ أسلوبهِ الضاربِ في عمقِ الآدابِ والمنفتحِ على كلِّ جديد، وهي سرُّ تجددِّهِ الفكريِّ الدائم الذي يأخذُنا إلى مطارحَ خارجَ السَّائدِ تُنقذُنا من الواقعِ في طقوسهِ وعاداتهِ وحروبهِ وتعقيداتهِ التي لا تنتهي.

منذ تعرُّفي إلى عيسى لم أكُفَّ عن الافتتانِ بفضولهِ الأدبيّ والفنيّ الجامح. فهومتضلعٌ من الجمال في شتى وجوههِ ومعجَبٌ به دومًا في كلِّ مكان. قد أذهبُ إلى حدِّ القولِ إن الجمالَ عندَه في مرتبةِ الإله، أكان في الكلمةِ أو النغمةِ أو اللونِ أو الشكل. على كلِّ حال، لم أصادفْ في حياتي مَن يُحبُّ الجمالَ أكثرَ منه، وقد نحتَ لنفسهِ عالمًا من كلمات وتشبّثَ بجمالِها بكل قواه. فكأني بهيستظلُّ فيئَها ويُمسكُ بواسطتِها الوجودَ في لحظةِ إشراق.

مُبهرٌ عيسى مخلوف باندفاعهِ وصدقهِ وحيويةِ لغتهِ التي تبعثُ في قارئِها الحياةَ.تأسرُنا أفكارُهُ وإيقاعاتُ كتاباتهِ وصورُها الأخاذةُ التي لا نُدركُ كنهَها، وهي بالتأكيد تقدّمُ إضافةً جديدةً للكتابةِ العربيةِ الحديثة.

هذه الكتابةُ الملتصقةُ بلحمِ الكونِ وبكلِّ ما هو مهمٌّ في الوجود، كأسئلةِ الحرب والهُويةِ والمنفى والموتِ والاغترابِ والحبِّ والفنِّ والجمالِ والأدبِ والشعرِ، تستحقُّ أن تدخلَ في المناهجِ التعليمية، ليس فقط لأنها استطاعتِ الغوصَ في أعماقِ الذات، ومازجتْ بين المعنى والمبنى في انفتاحٍ على الحضاراتِ والفنونِ المختلفة من خلالِ تنقلِها بين الآدابِ والفلسفاتِ والعلومِ والجمالاتِ الطبيعيةِ والفنية، بل لأنها نقلتْ لنا أيضًا انطباعاتٍ وأحاسيسَ وأفكارًا كُتِبت بلغةٍ مشغولةٍ كالدانتيلا لا تحتاج إلى أجنحةٍ كي تطير.

كلماتُ عيسى مخلوف تصعد وتهبط، ترتطم بالواقعِ وتتزاوج وإياه ثم ترفعُه حتى يُخَيّلَ إلى القارئ ان كلَّ كلمةٍ خَطَّها قلمُهُ حقيقةٌ في كيانها، بعيدةٌ كلَّ البعدِ عن الحبكةِ الكتابية.

لا أرى اليومَ في العالمِ العربي كاتبًا أو شاعرًا تُشبهُ كتابتُهُ كتابةَ عيسى في توهجِّها. ولعله حالةٌ أدبيةٌ قصوى أفخر أني تعرّفتُ عليه ذات يوم.  ولا أحسَب ما أقولهُ شعورًا شخصيًّا، بل هو شعورٌ أجمعَ عليه كلَّ من قاربَ نصوصَه التي تطرح علينا أسئلةً جوهرية، تقودُنا في اتجاهِ الذاتِ المتأرجحةِ بيننوازعِ العنفِ والموتِ وبين نوازعِ الرّقةِ والحياةِ دونَ اتباعِ مسالكِ التفكيرِ الجافة.

لست أظنُّ أن ما قلتُ قد أحاطَ بنتاجِ عيسى مخلوف. ثمةَ قراءاتٌ أخرى ممكنةٌ لهذه الكتاباتِ الذاهبةِ نحو الأقاصي. غير أني لا أردعُ نفسيفي الختامِ عن الاعترافِ بأن ما يشدُّني إلى كتابتهِ بقوةٍ هو أسلوبُهُ في مقاربةِ موضوعاتهِ التي لا تنضب، حيث التقاءُ الفضاءِ اللامتناهي بالحميم، وحيث الكلماتُ تصبح وحدَها خشبةَ الخلاصِ من العدم، ولعلها العنفُ الوحيدُ الذي يستطيع أن يغلِبَ كلَّ عنفٍ آخر.

 

السيدات والسادة،

قيل في الأوبانيشاد إن جوهرَ الإنسانِ الكلمةُ، وجوهرَ الكلمةِ الشعرُ.ولو انسحبتِ الكلمةُ والشعرُ من حياتِنا لعشنا في الرتابةِ التي يوقفها من وقتٍ إلى آخرَ صنّاعُ الجمال، أولئك الذين تماهَوا بالكلمةِ وبنَوا من خلالِها الكونَ من جديد. عيسى مخلوف بلا أدنى شك واحدٌ منهم. ولعله كان في ذاته كلمةً نرغب في قراءتِها كلَّ حين.

 فهنيئًا له هذا التكريمَ الذي يستحقُّه بامتياز وخالصَ الشكرِ إلى الحركةِ الثقافية – انطلياس.

_____________________________________________________

شهادة د.انطوان ابو زيد بالأديب عيسى مخلوف

عيسى مخلوف، أديب الضفاف وجسرها، والباقي يحيا في العبور

 

أديبنا المحتفى به، والمنوّرة به حلقتنا، لم يُتحْ لي ملازمته طويلاً، لغربة أبعدته عن الديار، ولكن بريقاً في عينيه كان يقول، كلّما جمعتنا الصدفة لأكثر من ثلاثين سنة خلت، ولخمس عشرة سنة خلت في باريس بمناسبة الاحتفاء بالشاعر عباس بيضون وصدور أحد كتبه الشعرية مترجما الى الفرنسية.

ما عرفته عن الأديب، أختصره بثلاث سمات كبرى: السمة الأولى، كونه مثاليا طوباويا وواقعيا في آن، وصديقا بعيدا مكانا وقريبا روحيا، في منزع يكاد يكون مستحيلا، وتجعله المحبة ممكنا.

 

السمة الثانيةأنّ غاية الثقافة لديه، واللغة، بل اللغات التي استطاب نسغها في المغتربين الفرنسي والأميركي اللاتيني، إنما هي بناء الجسور الموصلة الى معرفة الآخر، طمعا في مسالمته ونمائه وحرّيته والإقرار بفضله. ولا أحسب الشعر الذي ابتدعه وطار، سوى خطوٍ للروح المجنّحة في عبورها الى ذلك الآخر. وههنا الذات لن يهنأ لها بال إلاّ بالتخفف من أثقالها واكتشاف الذّرى الجديرة بالبقاء.

 

السمة الثالثة،وهي أنّ عيسى مخلوف، قبل أن يكون شاعرا وأديبا، وباحثا، هو بنّاء، معمرجي جسور، بينه وبين ذاته القديمة والجديدة، وبين السماء والأرض ونجماتها، وبينه وبين إخوانه، وبينه وبين وطنه، وبين ألمه وآلام الناس، وبين المهاجرين المغتربين وأحلامهم وانكساراتهم، وبين أدبه المعاصر وتراث أمّته التليد، وبين أمس شعره ويومه.

 

وهو بيننا، اليوم، نستزيد من فضل عماره وجسوره الفكرية والأدبية. أطال الله بعمرك وجزاك خيره والنّعم الكثيرة.

 

أنطوان أبو زيد

2-3-2023

___________________________________________

كلمة الأديب عيسى مخلوف في تكريمه

نبذة

 

وُلدتُ في زغرتا في خمسينيّات القرن العشرين. أمضيتُ فترة الحضانة في مدرسة اللعازاريّة، ثمّ انتقلتُ إلى مدرسة الفرير في طرابلس. فيمرحلة البدايات، أسّستُ مع بعض الأصدقاء، "الحركة الثقافيّة/ حلقة الفنّ والأدب"، وأقمنا نشاطات كان من أبرزها مسابقة لقراءة الشعر الحديث شاركَت فيها مدارس عدّة من زغرتا - الزاوية. كانت اللجنة التحكيميّة التي جاءت من بيروت إلى زغرتا مؤلّفة من أدونيس ومحمود درويش وسمير الصايغ. في الفترة نفسها، أصدرتُ مجلّة ثقافيّة تحمل اسم "تحوُّلات"، ونشر أنسي الحاج قصائدي ومقالاتي الأولى في ملحق "النهار".

في العام 1976، وبعد أقلّ من عام على بداية الحرب الأهليّة، أرسلني والديَّ إلى مدينة كراكاس حيث كان لنا أقرباء. سافرتُ في ظروف استثنائيّة ولم يتمكّن أحد من أهلي من مرافقتي إلى المطار. قبل خروجي من المنزل، قبّلني والدي وهو يقول: "ستنتهي الحرب خلال أسابيع قليلة، وسنعود ونلتقي". والدتي لم تنهض من مكانها، كأنّها كانت ترفضذهابي ولا تستطيع تحمّله، علمًا أنّها هي التي سعت إليه لإبعادي عن أجواء الحرب. اقتربتُ منها وقبّلتُها، وعندما انطلقت السيّارة، سمعتُها تصرخ باسمي.

لدى وصولي إلى فنزويلا، علمتُ أنّ الطائرة التي حملتني إلى هناك كانت الطائرة الأخيرة التي أقلعت يومئذ من مطار بيروت. كان ذلك في الحادي عشر من آذار 1976، يوم الانقلاب الذي قام به العميد عزيز الأحدب. وانقطع الاتصال بأهلي وأصدقائي طوال أشهر، وطالت الحرب. وبدل أن أعود إلى لبنان، جئتُ إلى باريس حيث درستُ في جامعة السوربون ونلت شهادة الدكتوراه في الأنتروبولوجيا الاجتماعيّة والثقافيّة، وتمحورَت أطروحتي الجامعيّة حول الحرب الأهليّة في لبنان، وصدرت في كتاب عنوانه "بيروت أو جاذبيّة الموت".

في باريس، عملتُ في "النهار العربي والدولي". لكنّ هذه الأسبوعيّة سرعان ما توقّفت وعاد معظم الذين كانوا يعملون فيها إلى بيروت. ثمّ عملتُ في مجلّة "اليوم السابع" التي أصدرها بلال الحسن، وكنتُ، في سنواتها الأولى، المسؤول عن القسم الثقافي فيها. بعد "اليوم السابع"، عملتُ في إذاعة الشرق، في الثقافة أوّلًا، ثمّ مديرًا للأنباء بعد عودتي من نيويورك حيث كنتُ مستشارًا للشؤون الثقافيّة في منظّمة الأمم المتّحدة، في إطار الدورة الحادية والستّين للجمعيّة العامّة (2006-2007). 

إضافة إلى ذلك، حاضرتُ في "المعهد العالي للترجمة" (جامعة باريس الثالثة)، وكتبتُ في دوريّات عدّة منها، باللغة العربيّة، مجلّة "مواقف" التي تسلّمتُ أمانة تحريرها بين 1992و1994، ومجلّة "Europe" الشهريّة الثقافيّة التي تصدر في باريس. أمّا الآن، فأكتب مقالًا أسبوعيًّا في صحيفة "نداء الوطن"، وأشارك في الكتابة في "LOrient littéraire".

أصدرتُ أكثر من عشرين كتابًا، في الشعر والنثر والبحث. عدد من هذه الكتب نُقلَ إلى لغات عدّة، خصوصًا اللغة الفرنسيّة (مع جمال الدين بن شيخ وعبد اللطيف اللعبي ونبيل الأظن وفيليب فيغرو). كتابي الأوّل كان مجموعة شعريّة بعنوان "نجمة أمام الموت أبطأت"، صدرت عن دار النهار للنشر في العام 1981. من الكتب التي صدرت في ما بعد: "عزلة الذهب"، "عين السراب"، رسالة إلى الأختين"، "مدينة في السماء" و"ما سوفَ يبقى".  في البحث: "الأحلام المشرقيّة"، و"تفّاحة الفردوس/ تساؤلات حول الثقافة المعاصرة". وفي الترجمة )من اللغتين الفرنسيّة والإسبانيّة(: "قصص من أميركا اللاتينيّة"، "فان غوغ مُنتحر المجتمع" لأنطونان أَرْتو، "رغبة" لفيليب سولرس، بالإضافة إلى دراسات فكريّة وأدبيّة ونصوص شعريّة لعدد كبير من الشعراء الفرنسيين، ومنهم رونيه شار وإيف بونفوا. ومن مؤلّفاتي الأخيرة: "ضفاف أخرى"، وهو حوار طويل أجراه معي الشاعر العراقي علي محمود خضيِّر. هذا الكتاب رحلة في الزمان والمكان، وكذلك في النتاجات الفكريّة والإبداعيّة التي تركت أثرها العميق في نفسي.

من الكتب التي أشرفتُ عليها كتاب بعنوان "جبران الفنّان والرؤيويّ"، صدر عن دار "فلاماريون" في باريس، وواكبَ معرضًا أُقيم في "معهد العالم العربي" ويحمل العنوان نفسه. كما صدرت كتب فنّيّة جمعت بين نصوصي ورسوم عدد من الفنّانين التشكيليين ومنهم على سبيل المثال: آدم حنين، أسادور، ضياء العزّاوي، محمود الزيباوي، إيتل عدنان وColette Deblé. أمّا شفيق عبّود فلقد رافقَت رسومُه ترجمتي لقصّة "أجمل غريق في العالم" لغبريال غارسيا ماركيز.

شاركتُ في "مهرجانات بعلبك الدوليّة" من خلال عملين أخرجهما المخرج المسرحي نبيل الأظن. العمل الأوّل، ترجمتي لمسرحية "مهاجر بريسبان" لجورج شحادة، وكانت مشاركتي في العمل الثاني من خلال نصّ شعريّ، ضمن احتفاليّة "إلك يا بعلبك"...

لم أقطع صلتي بلبنان الذي أزوره باستمرار وأنشر كتبي فيه (دار التنوير ودار الرافدين). هنا أهلي والكثير من أصدقائي الذين يعانون بشدّة من الأزمة التي يعيشها البلد على جميع المستويات.

ختامًا، لم يصحّ ما وعدني به والدي يوم تركتُ لبنان، لكنّ صدى عبارته يتردّد في نفسي: "سنعود ونلتقي". ولا أنسى الكلمات الأخيرة التي تلفّظَت بها والدتي عشيّة غيابها: "لم نشبع من رؤية بعضنا". ما حدثَ معي يحدث كلّ يوم أيضًا مع سواي، ولا يزال يعيشه ألوف اللبنانيين الذين يضطرّون إلى الرحيل، جيلًا بعد آخر.