ندوة حول كتاب د. رياض نخّول: إميل إدّه 1884-1949، رائد لبنان الكبير
كلمة الدكتور انطوان ضومط في ادارة ندوة رياض نخول
يسعدني ان يعتلي هذه المنصة اربعة مؤرخين العميد عبد الرؤوف سنو واثنان من طلابي مروان ابي فاضل ورياض نخول الذان صارا زميلين وبهما وامثالهما تستمد الجامعة اللبنانية قوتها وتتغذى ذاتيا. اما اليوم فهي تحتضر بعد ان استباحها السياسيون الفاسدون، وعملوا على انهاكها من دون ان يرف لهم جفن متجاهلين بل غافلين انها احدى ابرز المؤسسات الوطنية، بل هي العمود الفقري للوطن كله، وبعضهم من خريجيها. ويبدو ان بعض من يتولى مسؤوليات سياسية ينسى ماضيه، ويعيش في غربة عن الواقعتأمينا لمصالحه،وربما جاهلا او متجاهلا ان العلم والمعرفة هما اساس كل نهضة وحضارة.
ايها الحضور الكريم
نناقش في هذه الندوة كتاب الدكتور رياض نخول "اميل اده رائد لبنان الكبير". لا اغالي ان قل ان النقاش يستمر عقيما احيانا كثيرة حول قيام دولة لبنان الكبير، نتيجة التعارض بين خلفيات اللبنانيين التاريخية والطائفية التي سكبوها بقوالب قوميات عربية ولبنانية وفينيقية. فقد تغذى بعضهم وما يزال من الماضي خوفا مزمنا، وبعضهم الآخر تفوقا مزمنا على المستويات الاجتماعية والسياسية والدينية. ويتوسل معظمهم ان لم يكن جميعهم عبادة شخصية الزعماء السياسيين على مختلف تلاوينهم:منهم الوطني، ومنهم المتمرس بالفساد والممعن باذكاء نار الطائفية حفاظا على مكتسباته، والمستمد قوته ابدا من ارتباطه بالخارج تأمينا لمصلحة هذا الحامي، وحفاظا على زعامته وان اقتضى الامر التضحية بالناس والوطن. انها معادلة شبه وجودية في التاريخ اللبناني الحديث على الاقل.
لقد اشبعت خلفيات ودوافع قيام دولة لبنان الكبير دراسة، انما من رؤى مختلفة بعضها متباين بل متعارض. ما يحتم علينا اعادة دراسة هذا الموضوع بعمق وتجرد قدر المستطاع، آخذين بالاعتبار عوامل بعيدة اثرت بمجرى الاحداث، لأن الموضوع لا يدرس بآنيته، ولا بالحوادث المباشرة التي سبقته فقط. وبالتالي لعبت الاصلاحات العثمانية، بضغط من الدول الاوروبية، دورا اساسيا على المستويات السياسية والاجتماعية والدينية المتمثلة بخطيْ شريف كلخاناه وهمايون وحقوق الملة، التي ساوت بين المسلمين والمسيحيين في الحقوق بعد ان كان الاختلاف بينا بينهما ولصالح المسلمين، ناهيك بالمشاريع الاستعمارية الاوروبية ولا سيما المسألة الشرقية التي آن اوانها لاقتسام اراضي السلطنة العثمانية. اضافة الى سعي قوى اوروبية استعمارية الى تقسيم ايران ايضا واعطاء ليبيا لايطاليا. فاعتقد المسلمون انهم محاصرون من الغرب المسيحي، ما اثار نقمتهم على المسيحيين المشرقيين. وزاد في تلك المعتركات حدة الصراع بين الدول المنتصرة على المشرق العربي لا سيما بين البريطانيين والفرنسييين، وسعيهم الدؤوب لتأليب اللبنانيين بعضهم على البعض الآخر.
من دون اي لبس تعتبر شخصية الرئيس اميل اده محورية في قيام دولة لبنان الكبير ان عبر اشتراكه الفعال بالوفود المطالبة باستقلال لبنان، او في ممارسة سياسته اللبنانية الداخلية، على الاخص رفضه انضمام لبنان الى سوريا او غيرها من البلدان العربية. ويعتبره بعض اللبنانيين احد ابرز ركائز قيام لبنان وطنا مستقلا برعاية فرنسية منعا من انضمامه الى الوحدة العربية الكبرى او السورية. ونجم عن بعض تصرفاته وسلوكه السياسي نقمة اسلامية ووطنية احيانا حتى اتهمه بعضهم بالخيانة، وبالتالي فالاشكالية حول شخصيته شديدة التعقيد.
يتضمن الكتاب اربعة فصول:الاول دور اميل اده في اثناء الحرب العالمية الاولى، ويتناول فيه الدكتور نخول سياسة الوفود الى مؤتمر الصلح. والثاني اده في زمن الانتداب ويتحدث فيه عن الطروحات السياسية للبنان، ووضع الدستور. وافرد الثالث لرئاسة اميل اده وانجازاته والمواقف منه ومعاهدة 1936. والاخير يبحث في التنافس الفرنسي البريطاني عشية الاستقلال. لن اتوسع بتحليل مضمون الكتاب انما ساضيئ على خطوط عريضة تبرز بعض مواقف الرئيس اده، والشخصيات السياسية الاخرى المتقاطعة معها سلبا او ايجابا افساحا في المجال امام المحاضريْن للغوص فيها. علما ان مواقف شخصيات اخرى تقاطعت مع طروحاته وسياتسته مثل داوود عمون الذي اقترح تقديم عريضة موقعة من اللبنانيين تطالب بحاكم فرنسي على لبنان.
تعتبر شخصية اميل اده اشكالية او جدلية ما يقتضي دراستها ضمن الاطار الكلي للاحداث ودور رجالات الاستقلال في المعترك السياسي بين داعين الى استقلال لبناني ناجز ورافضين لهذا الطرح ومتمسكين بالوحدة العربية وعلى الاخص السورية. سعى اميل اده الى قيام دولة لبنانية مستقلة بدعم فرنسي، وبذل جهودا حثيثة في هذا السبيل، وهو وان ارتضى على مضض بضم الاقضية الاربعة الى لبنان فلأن سكان بيروت شكلوا اغلبية مسيحية، وارضاءً لرغبة البطريرك الياس الحويك، مقترحا ادارة داخلية مستقلة لبعض المدن كطرابلس بامرة حاكم فرنسي منعا من انضمامها الى سوريا. وتأمينا لاغلبية مسيحية في الانتخابات اقترح الاجازة للمغتربين بالاقتراع.
سعى اده الى اقفال المدارس الحكومية لضعف مستوتها التعليمي على ما اعتقد، وكان معظم طلابها من المسلمين فبدا الامر وكأنه موجه ضدهم، وزاد في الامر حدة اقتراحه في مرحلة لاحقة احالة الاحوال الشخصية الى المحاكم المدنية العدلية التي يعارضها المسلمون بشدة. وتمكن من خلال ترأسه المجلس التمثيلي عام 1924، ومن ثم عندما انتخب رئيسا للجمهورية ترجيح سياسته، والشروع بالاصلاح، ومنها مطالبته بترسيم الحدود بين لبنان وسوريا منعا من ضم لبنان اليها. لكن معظم الزعماء المسلمين لم يتآلفوا مع سياسته العامة، ورفضوا التعاون معه وآزرهم في مواقفهم بشارة الخوري الذي في مرحلة ما حمل اليه عريضة موقعة من بعض النواب تحمل على سياسة الانتداب. وهدد الموقعون عليها بالاستقالة من المجلس النيابي، فتقاطعت مواقفهم مع الداعين الى الوحدة العربية. وبذل جهودا في العام 1936 لعقد معاهدة مع الفرنسيين تضمن استقلال لبنان ما زاد في غضب المسلمين عليه لأنها تحبط آمالهم بالوحدة مع سوريا. سار في ركاب سياسة اده غالبية المسيحيين اعتقادا منهم انهم سيكونون اسيادا في لبنان مستقل، وكثيرون رفضوا ضم الاقضية الاربعة، التي يدعي البعض انها سلخت عنه، وهو امر جدلي. في حين رغبت الغالبية العظمى من المسلمين بوحدة قومية عربية لأن كثيرا من القادة القوميين مزجوا بين العروبة والاسلام، وهي معادلة ما يزال كثيرون يعتنقونها.
لم تكن شخصية اده وحدها محورية واشكالية اذ يصب في الخانة عينها سياسيون كثر مسيحيون من امثال البطريرك انطوان عريضة، المطران عبد الله الخوري، وبشارة الخوري، فؤاد عمون وكميل شمعون وحميد فرنجية وميشال شيحا ابو الدستور اللبناني وهنا اسأل الدكتور نخول لماذا تجاهل دوره؟!! ونذكر من المسلمين: رياض الصلح، وعبد الحميد كرامي، والشيخ محمد الجسر، وسليم علي سلام، وعمر بيهم... تلونت مواقف المسيحيين بين مؤيد للسياسة الفرنسية حينا والمعارض لها حينا آخر تبعا للمصالح وتأثر بعضهم بالخارج على تنوعه أكان بريطانيا او فرنسيا او عربيا. اما المسلمون فقد جاهر معظمهم بالعداء للفرنسيين ورفضوا قيام دولة لبنانية ناجزة الاستقلال، ودعوا باستمرار للاتحاد مع البلدان العربية لا سيما مع سوريا اتحادا تاما او فدراليا، وتبعا للمصالح الشخصية تأرجحت سياسة بعضهم بين مؤيد بقوة للوحدة حينا وراضيا بلبنان مستقل حينا آخر.
شدد القادة المسلمون في مؤتمرات الساحل على الوحدة العربية. وكان رياض الصلح من اكثر المتحمسين لها أفدرالية كانت او ناجزة. واستمر متشددا بمواقفه حتى بعد معاهدة 1936 حيث اعلن، بدعم من بريطانيا وبعض العرب، العصيان لاسقاط الوحدة اللبنانية، وشكل فرق "القمصان الحديدية" وتقدم مناصريه في الشوارع الحاملين الخناجر والمسدسات والهاتفين باسقاط الرئيس اده. وازداد حماس وآمال الداعين الى الوحدة العربية بمواقف قادة عرب على الاخص نور السعيد الساعية ابدا لتحقيقها.
على المستوى الفدرالي تقاطعت سياسة القادة المسلمين احيانا مع الطروحات الفرنسية، اذ اعتبر الحاكم الفرنسي ترابو ان لبنان مؤلف من ثلاث قطع اصطناعية منفصل بعضها عن البعض الآخر هي: البقاع والجبل والولاية ويقصد بها المدن الساحلية، ما يعني وجوب ضمه الى سوريا. واحيانا بررت فرنسا الطرح الفدرالي باسباب اقتصادية وسياسية، تخفيفا للنفمة الاسلامية التي واجهتها في لبنان وسوريا. وكانت بريطانيا تدعم سرا الطرح عينه، ما اربك وضع السياسيين المسيحين المجتهدين لتحقيق الاستقلال الناجز. وفاقمت الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي الوضع اللبناني المهتز اصلا بامتدادها الى بعض المناطق البقاعية وراشيا بحيث ذهب ضحيتها بعض المسيحيين ما ازّم الوضع الطائفي اللبناني.
استمر اللبنانيون فريقين على الاقل: معظم المسيحيين المتمسكين بفرنسا لتضمن لهم الاستقلال، والغالبية العظمى من المسلمين مدعومين من الانكيز املا بتحقيق الوحدة العربية. فتش في هذى الاطار عن دور الجنرال سبيرز الانكليزي في حبك الكثير من المؤامرات والخدع لتأليب اللبنانيين بعضهم على البعض الآخر بهدف اضعاف الفرنسيين. ومع ذلك فاذا بسحر ساحر تنقلب الممواقف خصوصا بعد انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1943 حيث يقول رياض الصلح في هذا الصدد:" بعد نجاحي في انتخابات 1943 النيابية عرضت مجددا على اده فكرة الوحدة العربية التي رفضها رفضا باتا الامر الذي دفعني الى الاعراض عنه وتجديدنا الاتفاق مع بشارة الخوري الذي سار معنا بخطى اسرع منا في سبيل ما نرمي اليه. وتبعا للمواقف المتقلبة تنكر بعض الساسة اللبنانيين لمواقفهم ونضالاتهم ارضاءً للخارج ايضا، او ربما لتبوء مركز سياسي مرموق. اذ لما انتخب بشارة الخوري رئيسا للجمهورية لم تتم الوحدة، ولم يعد لا هو و لا رياض الصلح من ابرز دعاتها. وقد هبطت عليهما وعلى غيرهم من الساسيين نعمة وطنية فتمسكوا بلبنان ناجز الاستقلال.
ايها الحضور الكريم بعد هذه اللوحة القاتمة عن مواقف السياسيين اللبنانيين وانقسامهم الى معسكرين متقابلين غلبت عليه بحدة الطائفية الملونة بالقومية. فاذا بهم يتفقون على استقلال لبنان ويبرمون الميثاق الوطني الذي يعتبر ميشال شيحا اباه. من دون الاخذ بالاعتبار مواقف الشعب اللبناني بعد ان عبؤه بالطائفية حتى الثمالة، او العمل على تأهيله للانصهار الوطني. لقد مضى على الميثاق ثمانون عاما، وما يزال عدد وافر من اللبنانيين لا يفقهون مداليله، او لماذا ابرم، فاذا سألنا اليوم عينة منهم عن مضمونه ومراميه، باعتقادي سيتلعثم كثر بالاجابة. ما يعني انه انزل من اعلى الهرم الى اسفله من دون استيعاب، ولم يعمل الساسة على انضاجه على المستوى الوطني، انما استغلوا اللبنانيين وحرضوهم طائفيا بعضهم على البعض الآخر، ما يفسر الثورات والحروب والازمات المتلاحقة التي شهدها وطننا كما الانقسامات الحالية الحادة بين البنانيين.
ويؤرقني سؤال في هذا الاطار المظلم: هل فعلا استحق اللبنانيون استقلالهم وهم ما يزالون اليوم قبائل وعشائر طائفية ومذهبية متناحرة عاجزين عن انتخاب رئيس للجمهورية، وكل يعمل لصالح الجهة الخارجية التي تؤازره؟! انها لعنة الطائفية التي استغلها الساسة اللبنانيون الفاسدون ولن يخلصنا منهم ومن مساوئهم الا قيام دولة مدنية تعمل على الانصهار الوطني يسوسها نخب نيرة الافكار.