
المحامي روي النقاش
ندوة 7 آذار 2025
السيدات والسادة الحضور الكريم،
نلتقي اليوم في إطار المهرجان اللبناني للكتاب الثاني والأربعين، الذي تنظمه الحركة الثقافية – أنطلياس، لنناقش إحدى أخطر الأزمات التي عصفت بلبنان منذ نشأته – أزمة الودائع المصرفية، التي وضعت اللبنانيين رهائن لواقع مالي مرير غير مسبوق، بعدما تبخرت مدّخراتهم بين ليلة وضحاها، دون أية محاسبة أو تفسير رسمي واضح.
أكثر من 120 مليار دولار من ودائع اللبنانيين تحولت إلى أرقام وهمية، فيما بقي في القطاع المصرفي أقل من 20 مليار دولار بحلول خريف 2021.
وعلى الرغم من تصنيف البنك الدولي لهذه الأزمة كواحدة من أسوأ الانهيارات المالية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، لم يخرج أي مسؤول لبناني ليكشف للبنانيين أين ذهبت أموالهم أو كيف ستُعاد إليهم.
فلا قانون الكابيتال كونترول أبصر النور، ولا قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي صدر، فيما التحقيقات القضائية في الداخل تدور في حلقة مفرغة.
وفي الوقت الذي مُنع فيه المواطن اللبناني من تحويل أمواله إلى الخارج حتى لأبسط الضرورات، كشفت تقارير رسمية أن ودائع اللبنانيين في المصارف السويسرية ارتفعت بأكثر من 2.7 مليار دولار في عام 2020 وحده، دون أي توضيح عن هوية المستفيدين أو الجهات التي قامت بتهريب هذه الأموال.
الأمر الذي دفع النائب السويسري فابيان مولينا إلى التصريح علنًا عن خجله من تورط مصارف بلاده في جرائم فساد ارتكبها سياسيون ونخب لبنانية، متعهدًا ببذل كل جهد ممكن للمساعدة في إعادة هذه الأموال إلى أصحابها الشرعيين.
وسط هذا المشهد، تتجه بعض الطروحات إلى إنشاء صندوق سيادي يستثمر أصول الدولة لتعويض الخسائر، وهو ما يُخشى أن يكون هروبًا من المحاسبة ومكافأة لمن هرّب أمواله، فيما يبقى المودع العادي، الذي منع من التصرف بأمواله، وحده من يتحمل الخسائر.
في ظل كل هذه المعطيات، يبقى السؤال الجوهري: هل استعادة الودائع المصرفية وهم أم حقيقة؟
لمناقشة هذا الملف الشائك،
يسرني ويشرفني أن أرحب بضيفينا الكريمين:
الدكتور كمال حمدان، الخبير الاقتصادي،
الأستاذ كريم الضاهر، المحامي والخبير القانوني
فلنبدأ هذا الحوار الشفاف والصريح حول قضية تعني كل لبناني ولبنانية.
البداية مع الدكتور كمال حمدان
وبإيجاز عن سيرته الذاتية الغنية نقول:
هو المدير التنفيذي في مؤسسة البحوث والإستشارات(بيروت) منذ عام 2007 ولا يزال
عضو في عدة لجان خبراء سبق ان شكلها مجلس الوزراء اللبناني حول موضوعات الإنهيار النقدي (أوائل التسعينات) وحجم القطاع العام ووظائفه وملف تصحيحات الأجور،
عمل في مهمات إستشارية مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (UNDP) والبنك الدولي واليونيسيف ومع مؤسسات حكومية وخاصة في لبنان ودول عربية أخرى.
عضو مؤسس في منتدى البحوث الإقتصادية في القاهرة (ERF) وعضو في الجمعية العربية للبحوث الإقتصادية(مصر)
له العديد من المؤلفات باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية ............... ومن ضمنها كتاب صادر في باريس باللغة الفرنسية حول النزاع اللبناني للطوائف والطبقات الإجتماعية والهوية اللبنانية.
الكلمة للدكتور حمدان فلنرحب به!
نشكر مداخلة الدكتور حمدان القيمة والتي تناولت هذا الموضوع الشائك والمصيري بشموليته مع طرحٍ لحلولٍ عملية نأمل أن تجد آذان صاغية لدى المسؤولين وان تساهم في إعداد خطة التعافي الذي طال إنتظار تطبيقها.
ننتقل الآن إلى كلمة الأستاذ كريم ضاهر، وبإيجاز أيضاً عن سيرته الذاتية الغنية نقول:
محام بالإستئناف في نقابة المحامين في بيروت
حامل إجازة فرنسية في الحقوق وماجيستر في قانون الأعمال والضرائب ودبلوم دراسات عليا في المالية العامة في جامعة باريس 2 Assas
وحامل إجازة لبنانية في الحقوق ودبلوم دراسات معمقة في القانون الخاص من جامعة القديس يوسف في بيروت.
وشهادة تخصص في العلوم المالية من المعهد العالي للأعمال في بيروت
عضو سابق في اللجنة التشريعية لنقابة المحامين في بيروت ورئيس سابق للجنة حماية حقوق المودعين وعضو مستشار في لجنة الإمتثال لمكتفحة تبيض الأموال وتمويل الإرهاب.
عضو في الفريق الرفيع المستوى للأمم المتحدة المعني بالمساءلة المالية الدولية والشفافية والنزاهة
له عدة مؤلفات وكتب ودراسات حول الضرائب والمالية العامة
عضو مؤسس ورئيس سابق في الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين ALDIC
كما نهنئه على تعيينه مؤخراً رئيس لجنة تنفيذ الإجراءات التصحيحية المطلوبة من قبل وزارة العدل وفق خطة العمل الموضوعة من قبل ال فاتف لخروج لبنان عن اللائحة الرمادية.
الكلمة للأستاذ كريم ضاهر فلنرحب به .
نشكر الأستاذ كريم على مقاربته القيمة لهذا الموضوع وسوف تبقى حتماً هذه المقترحات مرتكزاً يبنى عليه لرسم أي مسار حل أو إصدار أية تشريعات جديدة معنية بمعالجة هذا الموضوع وكفيلة بإنصاف المودعين وحمايتهم بعيداً من اية هندسات مالية غير مجدية أدت إلى نهب ممنهج لاموال الشعب لصالح منظومة متسلطة.
في الختام نشكر الحضور الكرام على متابعتهم لهذه الندوة آملين أن تكون قد أعطت الفوائد المرجوة لرفع مستوى الوعي لدى الرأي العام وإدراك الخطر الداهم الذي
أمين الشؤون الخارجية في الحركة الثقافية
المحامي روي النقاش
__________________________
"إستعادة الودائع المصرفية، وهم أم حقيقة ؟"
المهرجان اللبناني للكتاب (الحركة الثقافية - أنطلياس)
الجمعة 7 آذار 2025
دخلت الأزمة المالية ومعها حجز الودائع المصرفية قسراً عامها السادس ولا شيء يُبشّر بقرب إنتهائها أو إنهائها بشكلٍ عادلٍ ومحق... والسبب: إمتناع مقصود عن التعامل الجدي مع الموضوع وتطبيق القوانين سعياً ربما إلى تكرار تجارب القوى الحاكمة والمتحكمة، أو المنظومة كما تسمى بصورة أشمل، بقضم الحقوق بالنسيان أو بمرور الزمن وفي كلتا الحالتين الهروب من المسؤولية والتفلت من المساءلة والعقاب. وفي الحصيلة التنكر من أية مسؤولية عن الأزمة سواء لجهة نشوئها أو إندلاعها أو تفاقمها أو عدم معالجتها.
وعليه، وفي ظل ما حصل من تغييرات وعقد آمال ورغم المشهد القاطم النتاج عن محاولات إعادة إنتاج المنظومة لنفسها بتجاوزاتها ومحاولاتها لطي صفحة الماضي والمضي قدماً بالسيطرة على العباد والتحكم بمستقبل الأجيال، أسئلة كثيرة نطرحها ونحن على دراية ويقين بأن الأجوبة متوفرة وشاخصة والحلول ما زالت متاحة وممكنة رغم الصعوبات والمعوقات. إلا أنه ولسلوك هذا المسار الإصلاحي والتغييري، يقتضي أولاً بأول مواجهة الحقيقة والخروج من النكران بتوصيف صادق وعلمي للأزمة السياسية والمالية والإقتصادية التي نتخبط فيها والتي أضحت اليوم إجتماعية ونظامية ومؤسساتية أيضاً بفعل التسويف الحاصل والمراهنة على مرور الوقت وبالتالي، تفويت الفرص الواحدة تلو الأخرى منذ ما يزيد عن الخمس سنوات العجاف.
لقد حان الأوان للتخلص من آفة التسويات المغرضة والرخيصة على حساب المصلحة العامة والعدالة وطمس الجرائم والمخالفات من خلال نزعة "عفى عن ما مضى". وبالتالي، يقتضي مواجهة الوقائع بشجاعة وكشف الحقائق وتحديد المسؤوليات فعلاً لا قولاً وذلك، لمعرفة من يقف خلف تبديد المال العام وتراكم الخسائر في القطاع المالي، ومن تسبّب بهذه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وأوصل البلاد إلى هذا الدرك؛ أملاً بالحؤول دون تكرار الأخطأ والتجاوزات عينها ولوضع حدّ لمسار الإفلات من العقاب.
مع كشف تلك الحقائق والأمور يضحى متاحاً إلزام الطبقة السياسية بالاعتراف بمسؤوليتها عن سوء إدارة الأموال العامّة والخاصّة، وتحمّل المسؤولية المترتبة عن ارتكاباتها بالتكافل والتضامن مع شركائها الماليين والمصرفيين. وعندها فقط يمكن الكلام عن تغيير وترشيد الحوكمة وإجراء إصلاحات وإسترداد الثقة على الصعيدين المحلي والدولي بغية إيجاد حل عادل ومنصف للودائع المصرفية المحجوزة قسراً منذ تشرين الأول من العام 2019 كما وإعادة إطلاق العجلة الاقتصادية وحماية المجتمع بدلاً من إعادة إنتاج أوجه البؤس نفسها والأزمات المتكرّرة التي لا نهاية لها؛ لا سيما في ظل جهوزية الطبقة السياسية، ومن يدور في فلكها من مستفيدين ومتلطفين، واستعدادها لتجديد نفسها والاستمرار كما لو أن شيئاً لم يكن، بعد أن تكون قد صفّت المجتمع وحمّلته الخسائر وبرّأت ذمّة المرتكبين وطوت صفحة المحاسبة إلى غير رجعة.
وهنا تكمن أهمية توزيع الأدوار والمسؤوليات للدلالة والتذكير ولفت اللإنتباه ليس إلا لتبيان الحقائق ورسم مسار مستدام للحلول الممكنة والمنطقية.
أولاً: إستعراض وتقييم للوضع من حيث تحديد المسؤوليات.
لا نخال أحد من الحضور قد يجهل أو يشكك بالفرضية والمعادلة القائلة بأن الأزمة الإقتصادية والمالية الراهنة مرتبطة إرتباطاً وثيقاُ بموضوع الودائع وأزمة القطاع المصرفي وذلك، رغم أهمية الأسباب البنيوية والنظامية الأخرى التي تسببت أساساً بالإنهيار الحاصل وخسارة الودائع والأزمة المستفحلة. إلى أن الأمور لن تستقيم ولا خروج من هذا النفق المظلم مع إستمرار حالة الإنكار الجماعية والهروب إلى الأمام ورفض تحمل المسؤولية و/أو الخسارة ولو جزئياً من قبل فرقاء النزاع الأساسيين. وبالتالي، لا بد من التوقف تمهيداً عند وضعية كل فريق من فرقاء هذا النزاع الأربعة الأساسيين وأولهم من يشار إليها بالدولة وهم حقيقةً من أدار وأفلس الدولة على مدار ثلاثة عقود من الزمن، وثانيهم المصرف المركزي وثالثهم المصرفيون ورابعهم المودعون المتضررون وبالأخض لجهة تدرج المسؤوليات وتحمّل الخسائر ومحاولات التفلت والتعطيل والتنصل وما نتج عنها من تفاقم للأزمة.
من المسؤول:
لا بد من التوقف تمهيداً عند إدعاءات وإقتراحات كل فريق من فرقاء النزاع الثلاث الأوليين الأساسيين. إلا أن الأمر الأهم يكمن في التراتبية والأولويات بحيث يقتضي البدء بتحديد ما هو مشروع من حقوق وودائع جديرة بالحماية كما وبتحميل من يضعهم القانون في صدارة سلم المسؤولية أي المتعاقدين المباشرين وهم المصارف الممثلين بالإداريين والمساهمين كل ضمن حدود مسؤوليتهم. ومن بعدهم من شاركهم أو طواطأ معهم من مسؤولين سياسيين وإداريين؛ وسيما منهم من خالف و/أو تجاوز و/أو تقاعس بإسم الدولة لمصالح خاصة غير مشروعة.
- الدولة:
واهمٌ ومضللٌ من يعتقد أو يدعي أن الدولة "بريئة من دمّ الصديق" أي من أية مسؤولية بالنسبة للأزمة وتفاقمها ومتمتعة بحصانة تمنع محاسبتها أو تحميلها عبء التعويض و/أو إعادة التسديد. إلا أن ما يجدر التوقف عنده هو أمران مهمان: الأول، وجوب التمييز بين الدولة من جهة وهي حسب التعريف القانوني: " مجموعة من الأفراد يُمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد ويخضعون لنظام سياسي معين مُتفق عليه فيما بينهم يتولى شؤون الدولة..." أي مجموع المواطنين وسيما منهم من تضرر مباشرةُ أو بصورة غير مباشرة من الأزمة؛ ومن جهة ثانية من تم تفويضهم أو فوضوا نفسهم بإدارة هذه الدولة وفق أجندتهم وهم المسؤولون. ومسؤوليتهم مباشرة و/أو غير مباشرة وفقاُ للحال.
وإن ننسى لا ننسى أن قانون العفو الصادر بعيد الحرب الأهلية بتاريخ 28 آذار 1991 قد سمح لدويلات الأحزاب بتييض صفحتهم السوداء والإستيلاء على دولة المؤسسات لإلتهامها وتحويلها إلى محميات طائفية ودوائر نفوذ من خلال ما بات يُعرف بالدولة العميقة.
بعد هذا التوضيح ولإغناء النقاش لا بد من تبيان بعض الأخطاء الجسيمة التي يمكن تحميلها إلى من أدار الدولة بسلطاتها الثلاث خلال ثلاثة عقود من الزمن.
- المسؤولية المباشرة: فعل وتعمّد.
- متسببات وقوع الأزمة:
- السياسات الإقتصادية والمالية: القائمة على رأسمالية متوحشة وإقتصاد ريعي غير منتج تسبب بتدمير وشبه إضمحلال للقطاعات المنتجة من زراعة وصناعة وحرف ومهارات وقد جرى بنتيجته تحفيز القطاعات التي تتأثر بالظروف المستجدة وتؤمن نمو غير مستدام كما والإفراط في الإستهلاك من الصناعات والمنتجات الأجنبية بسبب الإنتاجية المحلية الضعيفة وعدم القدرة على المنافسة مع كلفة مرتفعة وسعر صرف غير واقعي؛ مع تقاعس الدولة بالقيام بمهامها ودورها الراعي مما أدى إلى عجز تجاري كبير ومديونية وبطالة وهجرة أدمغة وتدمير للمجتمع والقيم الإجتماعية ← عجز مستدام في المالية العامة ← الإفراط في الإستدانة ← حلقة مفرغة.
- إنهيار المؤسسات وتدميرها المقصود والممنهج خدمةً للزبائنية والمصالح الخاصة: لقد أمعن المسؤولون في تسخير مؤسسات الدولة والأموال العامة لمصالحهم الخاصة مع تضارب مصالح فاضح وصرف نفوذ واختلاس واستثمار الوظيفة وسواهم من الأعمال والأفعال المحظورة والمعاقب عليها. كما وفي التوظيف السياسي والزبائني غير المجدي الذي إستتبع زيادة الإنفاق العام غير المجدي وغير المبرر وغير الفعال الذي إستتبع بدوره حتمية الإقتراض لسدّ العجز والدخول في دوران الحلقة المفرغة والغليظة التي حرمت الدولة من الإمكانيات لتأمين خدمات عامة بديهية ذات مستوى وشاملة بسبب تضاؤل إيراداتها وتخصيص القسم الأكبر منها لخدمة الدين وتمويل القطاع العام.
وقد تضاعفت بنتيجته الخدمات الرديفة على حساب الدولة ومن مالها العام مما عزز الإرتهان للزعماء الذين عززوا سطوهم ونفوزهم من خلال الفساد والزبائنية. كما جرى تحفيز وتغطية التهرب والتهريب والاقتصاد الخفي أو الموازي (économie souterraine).
- السياسات العامة والحوكمة غير الرشيدة: غياب أي رؤية أو خطة إجتماعية أو تنموية تساعد على تحسين أوضاع اللبنانيين وتنوع مصادر تمويل الدخل القوقمي وولوج درب الإنماء المتوازن والمستدام. نموذج إقتصادي هش قائم على تمويل الإستهلاك العام والخاص بواسطة الإستدانة والتحويلات. إقتصاد قائم على إعتبارات ظرفية تبدّلت بدءا من العقد الثاني من القرن الحاضر وغياب تام لأي دراسات تحليلية لوقع الأثر الإقتصادي للتدابير والقوانين المعتمدة (Economic impact assessment) كما وغياب الأرقام الموثوقة والمؤشرات والإحصاءات. المشكلة الأساسية في الدين العام في لبنان لا تكمن في الحجم الذي بلغه، بل في أساسه ومنشأه والمعيار هو مجالات إستعماله إستعمالاً جيداً لزيادة الإنتاجية الإقتصادية التي ترفع مستويات المعيشة وتسمح في المستقبل في إيفاء الدين وإيجاد فرص إستثمار.
- متسببات تفاقم الأزمة:
عدم المبادرة الفورية إلى إتخاذ التدابير اللازمة لدى وقوع الأزمة وسيما:
- عدم ضبط التحويلات والسحوبات (كابيتال كونترول) فوراً بتاريخ وقوع الأزمة أو بتاريخ تكشف بوادرها (منتصف آب 2019)؛
- عدم المبادرة إلى الإعتراف بالأزمة النظامية (systemic) وسيما في القطاع المصرفي والعمل على حلها بشتى الوسائل وبأسرع وقت.
- عدم وقف سياسة الدعم غير المبررة وأستبدالها بمساعدات مختارة وفعّالة؛
- عدم المبادرة لتفادي تفشي حالات شاذة تتعرض للحقوق بسبب الأوضاع الإستثنائية كتعليق موجب تسديد القروض وتعليق المهل وسواها من التدابير التي سبق وجرى إعتمادها في ظروف مشابهة في بداية ومنتصف الحرب؛
- عدم إعتماد وإقرار خطة تعافي متكاملة لحماية الحقوق، وإعادة إطلاق العجلة الإقتصادية وإعادة الثقة.
- عدم المساءلة والمحاسبة ومعاقبة وتغيير المخالفين والمقصرين.
- عدم تطبيق القوانين وعدم إقرار تدابيرها التنفيذية والتطبيقية كما وآلياتها العملية. وأبلغ مثال هو عدم تطبيق القانون رقم 240 تاريخ 16/7/2021 الذي أخضع كل المستفيدين من دعم الحكومة بعد تاريخ 17 تشرين الأول 2019 للتدقيق الجنائي الخارجي كما ورفع السرية عنهم وعن حساباتهم وفوض وزارتي العدل والملية بوضع الآليات المناسبة في مهلة شهرين).
ناهيك عن قانون تعديل السرية المصرفية رقم 306/2022 (عدم صدور مراسيم تطبيقية وعدم مبادرة)؛ والتدقيق الجنائي: وتدابير مكافحة الفساد بقوانينها (28/2017؛ و83/2018؛ و175/2021؛ و189/2021؛ و214/2022؛ وإلخ) وقراراها (قرار مجلس الوزراء رقم 17 تاريخ 12/5/2020).
- إحجام معظم القضاة عن ممارسة دورهم بما تمليه عليهم رسالتهم بذرائع متعددة.
- عدم التصدي لعمليات تزويب ما تبقى من ودائع لمصلحة قلة مرتكبة (تحاويل إلى الخارج + التلاعب بالعملة) وتأجيل الحلول إلى ما لا نهاية مع تيئيس مقصود للمواطنين.
- المسؤولية غير المباشرة:تقاعس وتواطؤ.
- غياب أو تغييب الرقابة والمحاسبة على كل الصعد من (أ) إدارية (ديوان المحاسبة، تفتيش مركزي ومجلس خدمة مدنية)؛ (2) وسياسية (مجلس النواب والهيئات الأكثر تمثيلاُ والناخبين)؛ (3) وقضائية (تبعية عدد من القضاة وترغيبهم وإستفادتهم)؛ (4) ومالية مع مفوض الحكومة لدى مصرف لبنان والمدراء العامين (إقتصاد ومال).
- إستعمال وتسخير التشريعات والتدابير التنظيمية لأسباب ومصالح خاصة وفئوية مما أدى إلى إستباحة المال العام وضرب مبادئ العدالة والشفافية والنزاهة.
- التغاضي عن القيام بالإصلاحات المطلوبة أو بتطبيقها تجنباً للشفافية المتوخاة والمساءلة ونشر الوعي المواطني مما يؤثر على مصالح الطبقة السياسية الخاصة.
- المساهمة في ضرب صورة لبنان ومصداقيته وجازبيته وإفقاد الثقة به وبدوره.
- المصرف المركزي:
- المسؤوليات والتجاوزات التي أدت إلى وقوع الأزمة:
- إعتماد أساليب محاسبية غير نظامية وغير مألوفة وغير شفافة وقاطمة وإخفاء الخسائر (موجودات أخرى).
- التفرد بالقرار من قبل الحاكم وعدم تطبيق قرارات المجلس المركزي وعدم إعتراض أعضاء المجلس أو تظلمهم.
- الإفراط في إقراض الدولة وسدّ عجوزاتها بخلاف أحكام المواد 90 إلى 94 من قانون النقد والتسليف.
- الولوج غير المبرر إلى الهندسات المالية السخية بهدف جذب الودائع من الخارج كما وإنقاذ بعض المصارف "الصديقة" من الإنهيار بسبب سياساتها الإستثمارية المتهورة.
- تثبيت لسعر الصرف لا يعكس قيمته الفعلية وبكلفة باهظة أدت إلى تأجيل وتفاقم المشكلة بدلاُ من حلها.
- القيام بعمليات وهمية لتضليل السوق أو تحصيل عمولات وقائمة بمعظمها على إحتيال محاسبي (اي ما يسمى بsham transactions ormasking the tape or impression of false trading).
- المسؤوليات والتجاوزات التي أدت إلى نفاقم الأزمة:
الخطأ الفادح في تسيير الاعمال والإخلال الفاضح في مهمة المحافظة على النقد اللبناني والاستقرارالاقتصادي وسلامة أوضاع النظام المصرفي (المادة 70). ومن جملة تلك الأخطاء:
- عدم المبادرة الفورية إلى إتخاذ التدابير اللازمة والضرورية لتجنب حالة الهلع (bank run) وإستنسابية المصارف فور إندلاع الأزمة في 17/10/2019 ومنها منعهم من الإقفال لمدة أسبوعين.
- عدم تطبيق أحكام القوانين النافذة فور توفرّ الشروط والظروف وسيما عند ثبوت توقّف أحد المصارف عن الدفع أو في حال تبيّن أنه لم يعد في وضع يمكنه من متابعة أعماله (القانون رقم 2/67 والقانون رقم 110/1991 كما والمادتين 134 و140 من قانون النقد والتسليف)، وفقاً للحال ← إستنزاف الودائع والإضرار بالمصارف والإقتصاد حمايةً لقلة وإفلاتها من المساهمة في الخسائر والمساءلة عن أفعالها أو تقصيرها.
- تجاوز حدّ السلطة وإستصدار التعاميم والإجراءات "الاستثنائية" غير الشرعية ومنها منصة صيرفة وتفاوت أسعار الصرف التي حملت العبء والخسارة إلى الحلقة الأضعف اي المودعين الصغار والمتوسطين.
- عدم محاسبة المصارف التي لم تلتزم بتلك التعاميم وسيما منها التعاميم رقم 154 (الإجراءات الإستثنائية لإعادة تفعيل عمل المصارف في لبنان) و158 و166 و167 والقرار الوسيط رقم 13587القاضي بعدم فرض أي نوع من العمولات الجديدة على حسابات الودائع لم تكن مفروضة قبل 17/10/2019. وكن يقتضي تطبيق المادة 208 من قانون النقض والتسليف لردها ولم يطبق إلا على بعضها لأسباب مجهولة.
- تقصير لجنة الرقابة على المصارف بالقيام بمهامها وعدم قيام كل من حاكمية مصرف لبنان ومجلس الوزراء بإتخاذ التدابير المناسبة بحقها.
- السماح للمصارف بقبول تسديد العملاء الأقساط أو الدفعات المستحقة بالعملات الأجنبية الناتجة عن قروض التجزئة كافة بما فيها القروض الشخصية وذلك بالليرة اللبنانية على أساس السعر المحدد لتعاملات مصرف لبنان مع المصارف (أي 1507ليرة للدولار الواحد) ← خرق فاضح لمبدأ المساواة كما ولمبدأ حق الملكية الخاصة المنصوص عنهما في الدستور.
- التسبب بتحويل المصارف اللبنانية إلى صناديق cashوالإقتصاد إلى اقتصاد نقدي بدائي (cash economy) يشكل ملازاً آمناً لمبيضي الأموال والمتهربين من وجه العدالة؛ مما من شأنه تعريض لبنان لخطر وضعه على اللئحة الرمادية للدول غير المتعاونة من قبل مجموعة العمل المالي (FATF).
- المصارف التجارية:
أم بالأحرى المصرفيون. وهم فئتان: المساهمين المحدودة مسؤوليتهم بقدر مساهمتهم من جهة والإداريين (أي رئيس وأعضاء مجلس الإدارة بالإضافة إلى مفوضي المراقبة وسائر الاشخاص الذين لهم حق التوقيع) الذين يتحملون، وفق القانون، التبعية والمسؤولية الجزائية والمدنية على ذمتهم الخاصة. فهؤلاء يرفضون تحمل أية مسؤولية لأي جهة كانت سواء لجهة إعادة رسملة المصارف أو لجهة المساهمة في تعويض المودعين المتضررين بحجة تحميل الدولة بمفردها مسؤولية ردّ الودائع ولو سوقوا خدعةً بثلاثيتهم الذهبية دولة/مصرف لبنان/مصارف مع تحييد "شعاري/شعبوي" كاذب للمودعين الذين تم تحميلهم بمفردهم من قبل هؤلاء منذ ما يزيد عن الأربعة سنوات تدني قيمة ودائعهم وحجزها وخسارة قيمتها ناهيك عن العمولات الباهظة والإستنسابية المفروضة عليهم زوراً. هذا، ومع العلم واليقين بأن تحميل الدولة المسؤولية بالأولوية على أساس المادة 113 من قانون النقد والتسليف (تغطية عجز مصرف لبنان) وإلزامها بردّ الودائع من خلال أصولها، كما يبغون ويشتهون، من شأنه أن يُخرجهم نهائياً من دائرة الخطر والمسؤولية والمساءلة والمحاسبة بالنسبة لأعمالهم وقراراتهم ويحررهم من أي موجب لإعادة الرسملة أو لتحميل ذمتهم الخاصة جزء من الخسائر والتعويضات.
بالفعل، هذا المنحى المطروح والمروج له بقوة في معظم الإعلام المأجور أو الذي تم ترويضه وبدفع وغطاء قضائي مميز ومشبوه، يقضي بتحميل الدولة مسؤولية عجز وديون مصرف لبنان تجاه المصارف عملاً بأحكام المادة ١١٣ من قانون النقد والتسليف؛ مما من شأنه أن يضع المودعين بمواجهة مباشرة مع الدولة ويعفي المصارف (وبالتالي المصرفيين) من أية مسؤولية بفعل تذرعها بأنها غير متوقفة عن السداد وقادرة، إذا تحملت الدولة المطلوبات، من تأمين ملاءتها ومتابعة أعمالها. وبنتيجة ما تقدم سوف يُضرب عرض الحائط بمبدأ تراتبية المسؤوليات (Waterfall) الذي تم التوافق عليه مع صندوق النقد الدولي وهو الذي يُعتمد لتحديد المسؤوليات وتوزيعها بصورة عادلة ومحقة كما ولملاحقة المسؤولين عن الإنهيار بهدف شطب ما يمكن شطبه من ودائع غير مشروعة أو غير محقة، وإسترداد ما يمكن إسترداده من أصول وأموال لإعادة تكوين الودائع ووضع حدّ نهائي لحالة عدم المحاسبة والتفلت من العقاب. بمعنى آخر، سوف يخسر الموديعون في هذه الحالة ضمانة أساسية وكتلة مهمة مما يمكن تحصيله من أصول وقيم مادية لإسترجاع الودائع.
وفيما يلي سرد موجز وغير حصري لتجاوزات ومسؤوليات المصارف:
- طمع المصارف بالفوائد المغرية وعدم التزامها بالتدابير الاحترازية في توزيع المخاطر وتنويعها.
- تضليل المودعين والإحتيال عليهم لحسهم على إستقدام ودائعهم و/أو الإستثمار بالأسهم التفضيلية والسندات المرؤوسة (subordinated loans) وبغياب أي إلتزام بالقواعد والمعايير.
- عدم الإلتزام بالتدابير والأنظمة الاحترازية في توزيع المخاطر وتنويعها، بِما يُفترض أن لا تزيد التوظيفات لدى مجموعة ماليَّة واحدة One Obligorعن 15 إلى 25% من رأسمال المصرف أو أمواله الخاصة، كحد أقصى للإنكشاف أو تحمل مخاطر الإئتمان تجاه مقترض واحد. وتشترك هنا في المسؤولية شركات التدقيق المكلَّفة مراقبة حسابات مصرف لبنان و/أو المصارف، والتي تغاضت عن تجاوز المصارف السقف المعقول للتوظيفات. كما ولم يعترضوا على ععَدم صحَّة الأرقام والميزانيَّات والأخطار المحدقة بسبب العجز في إمكانية إيفاء المتوجبات.
- مخالفة أحكام المواد 156 إلى 161 من قانون النقد والتسليف لجهة مراعاة، في استعمال الاموال التي تتلقاها من الجمهور، القواعد التي تؤمن صيانة حقوقه، كما وتتبع استعمال الاعتمادات التي تمنحها لتتأكد على قدر المستطاع من أن الاموال التي سلفتها لم تنحرف عن الغاية المصرح بها؛ وعليها بصورة خاصة أن توفق بين مدة توظيفاتها وطبيعة مواردها.
- الضغط على المسؤولين لإجهاض الخطط الإصلاحيَّة لا سيَّما تلك التي اعتمدتها حكومة الرئيس دياب بتاريخ 30 نيسان 2020 كما وتلك التي تم طرحها تكراراُ من قبل حكومة الرئيس ميقاتي. كما وتمويل حملات تضليل إعلامية واسعة النطاق.
- الإستنسابية في سحب وتحويل الودائع المحجوزة بتاريخ 17/10/2019 وإعتماد التفاضلية مع ترجيح المصالح الخاصة كما والساليب الإحتيالية المتعددة.
- إعتماد سلّة عمولات باهظة وأستنسابية مع تهديدات ملازمة للمودعين المحجوزة ودائعهم.
- الشك والإشتباه بعمليات إستغلال المعلومات المميزة (insider trading) لمصالح خاصة.
- تساهل في تغطية مخالفات وعدم الامتثال للمعايير الدولية مع تواطؤ فاضح مع بعض المودعين والموظفين العامين المخالفين.
- الاستفادة من الهندسات المالية والمخالفات السالف ذكرها لتوزيع أرباح وعمولات ومكافآت على نفسهم وأعوانهم وشركائهم.
- التواطؤ و/أو التسهيل في عمليات تسويق الشيكات المصرفية والمضاربة على العملة وsayrafaوتسديد القروض بأقل من قيمتها؛ مما سمح لهم أو لمتولي الإدارة بتحقيق أرباحٍ طائلة على حساب مصالح المودعين والعملاء الآخرين.
- المودعون:
مهما تباينت الآراء أو إختلفت النظريات، لا مفرّ من التسليم بان الحلقة الأضعف والمتضرر الرئيسي هم المودعين الذي فقدوا جنى عمرهم وسبل حياتهم الشريفة. فالمودع هو الذي "أودع لدى المصرف، وفقاً للمادة 307 من قانون التجارة، على سبيل الوديعة (والأمانة)، مبلغاً من النقود ويجب يرده بقيمة تعادله دفعة واحدة او عدة دفعات عند اول طلب من المودع او بحسب شروط المهل او الاعلان المسبق المعينة في العقد". ولا يمكن بالتالي إشراكه بالمسؤولية مبدئياً أو حرمانه من حقه عملاً بأحكام الدستور (الفقرة (و) من المقدمة والمادة 15) والقوانين المرعية والمواثيق الموقعة والنافذة.
إلا أن هذه الحقيقة ليس من شأنها أن تحجب بالمقابل واقع جنوح بعض المودعين لإستعمال القطاع المصرفي اللبناني كملاز آمنٍ وأمين لودائعهم وعملياتهم غير الأمينة وغير المشروعة. كما ولا مجال للإنكار والتنصل أن الكثير من المودعين قد إرتضوا وضع ودائعهم في لبنان رغم المخاطر النظامية المحدقة بسبب نسبة الضرائب العالية المبررة بمؤشر المخاطر (Risk Index). لذا، وعندما قد يحين وقت توزيع المسؤوليات والتضحيات من المفيد أن يرتضي هؤلاء بتحمل بعضها من خلال تسوية على الجزء غير القانوني والنظامي من الودائع - وسيما منها جميع الاموال النقدية المودعة في المصارف ومؤسسات الاعتماد والتسليف الساقطة بمرور الزمن عملاً بأحكام المادتين 90 و91 من قانون ضريبة الدخل (dormant accounts)؛ أو إسترداد الجزء من الفوائد المحققة التي تتخطى المعدّل العام ليبور المرجعي (libor) فضلا عن إسترجاع كل ما تم تخصيصه خلال تلك المدة من عمولات ومكافآت وأرباح وتخصيصات من جراء الهندسات المالية (clawback).
كما يقتضي أيضاُ إشراك فئات أخرى مستفيدة من المجتمع في عملية"المساهمة التضامنية" وعلى وجه الخصوص الذين إستفادوا من الوضع المستجد مع إنهيار العملة الوطنية وإعتماد عدة أسعار صرف للدولار الأميركي وتدابير تنظيمية مسهلة، بتحقيق أرباح ملحوظة على حساب الودائع والمودعين مع ما يستتبع ذلك من نتائج لجهة ضرب مبدئي العدالة والمساواة المصانان دستورياً. بالإضافة إلى الذين تمكنوا من المودعين المقيمين من إخراج ودائعهم المحجوزة بعد 17/10/2019 وإيداعها في الخارج لتحقق لهم مكاسب وأرباح ملحوظة التي يتعين تكليفها بنسب ضرائب بنسب أعلى تسمح بتحقيق بعض العدالة.
ثانياً: المداخل الرئيسية لحماية وإعادة أو تحرير الودائع المشروعة المحجوزة:
إن أي خطة لاعادة أو إسترداد أو تحرير الودائع المصرفية المحجوزة يعتمد أولاً على القانون وأكبر قدر ممكن من المنطق والموضوعية والعدالة وبالأخص فيما يُعرّف بالتدرج في تحديد الأولويات والمسؤوليات. مع العلم أن على الكل تحمّل القدر الذي يعود له من المسؤوليات وفق لما سبق تبيانه.
وعليه، يقتضي أولاً بأول النظر إلى الأرقام الفعلية والحقيقية كما والقدرات المتوفرة وتحديد الفجوات وشرعية الحقوق المطالب فيها؛ وبالتالي إجراء جردة عامة وحيادية وأصولية للحسابات وتدقيق جنائي ملازم بدءاً بالفئات التالية:
١- المسؤولين والموظفين العموميين ومقارنة حجم الحسابات مع ما هو معلن من قبلهم في تصريحهم عن الذمة المالية ومقارنةً بإمكانياتهم الحقيقية من قبل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وفق القانون رقم ١٨٩/٢٠٢٠ وبعد رفع السرية المصرفية عن حساباتهم بموجب القانون ٣٠٦/٢٠٢٢.
٢- مسؤولي ومدراء المصارف وسيما الذين إستفادوا من الهندسات المالية كما والتحويلات ما بعد ١٧/١٠/٢٠١.
٣ – بالنسبة لكل التحويلات التي خرجت من الحسابات المجمدة ما بعد ١٧/١٠ بحجم يفوق معدل ما كان يسدد في حينه والتي يقتضي إعادتها إلى الحسابات إلا تلك التي جرى عليها خصم كبير وتحملت خسائر فادحة.
٤- بالنسبة لكل الحسابات التي لم يتم تحريكها منذ ذمن طويل وتُعرف ب(dormant accounts) وذلك، وفق المادتين ٩٠ و٩١ من قانون ضريبة الدخل.
٥- بالنسبة كل الحسابات التي تكون الأموال فيها ناتجة عن أعمال غير مشروعة (وسيما تجارة المخدرات وتمويل الإرهاب والإختلاس وتبييض الاموال، ,إلخ.) او التي لا يمكن تبرير مصدرها.
٦- أما بالنسبة للحسابات التي يُشتبه أن جزء من الاموال ناتج عن مخالفات للأنظمة مثل التهرب الضريبي ولو مع مرور الزمن فيجرى بشأنها عمليات تسويات(settlement &Plea agreements) وفق ما تسمح به القوانين وسيما القانونين ٨٣/٢٠١٨ و٢١٤/٢٠٢١.
٧- تحديد الحسابات التي استفادت من الفوائد والأرباح والمكافآت المُضخّمة منذ وقوع الحساب التجاري بعجز وذلك، لإجراء التخفيض والشطب والإسترداد (clawback).
بعد الانتهاء من هذه المرحلة، يصار بالتدرج إلى تحديد المسؤوليات وتحديد الجهات التي يقتضي عليها التعويضو/أو التموييل وذلك وفقاً للتالي:
أ) في أول سلم المسؤولين نجد قانوناً أصحاب العلاقة المباشرة اي المصارف وإن إدعت للتخلص من المسؤولية حجية الازمة النظام(systemic crisis) فعليه، يتعين على من يريد من المساهمين المساهمة في إعادة رسملة المصرف وعلى من ثبت عليه مسؤولية من إدارييها وفقاً للقوانين النافذة (٢/٦٧ و٩١/١١٠ وقانوني التجارة والنقد والتسليف) تحمّل المسؤوليات على ذمته الخاصة.
ب) بعد الانتهاء من المرحلة الاولى (أ) يتعين على الدولة (اللبنانية) الراعية اعادة هيكلة القطاع وفقاً لأنجع وأفعل وأنصف المعايير كما ورسملة مصرف لبنان وتحمل مسؤولية سد وتسديد النقص (اي الرصيد غير المسدد) من الودائع المشروعة وفق سلّم أولويات يرجّح بالأولوية صناديق التعاضد والتقاعد وذلك، على مراحل ودون الإضرار بصالح الفئات غير المسؤولة عن الأزمة وبالأخص الأجيال المقبلة.
ومن هذا القبيل يصار:
(١) إلى الشروع في عملية اصلاح لمؤسسات الدولة العامة ومصالحها المستقلة وتأمين فعاليتها وحسن حوكمتها وتحديد نسبة من أرباحها المستقبلية عند الإقتضاء لرفد صندوق إسترداد الودائع الذي من الأفضل أن يكون الصندوق الذي لحظه القانون رقم ٢١٤/٢٠٢١.
(٢) كما يقتضي على الدولة القيام بكل ما يلزم لتتبع واسترداد الاموال غير المشروعة في الخارج بدءاً بتلك المحجوزة راهناً في سياق التحقيقات التي تتناول حاكم مصرف لبنان السابق وشركائه في حال ثبت الإدعاء والجرم.
(٣) كما يقتضي أيضاً اقرار مشاريع واقتراح القوانيين المقدمة التي تخصص الضرائب المفروضة على العمليات التي ذوبت الودائع (أي تسديد القروض بأقل من قيمتها والدعم وSayrafa) لمصلحة صندوق إسترداد الودائع.
(٤) واخيراً تحديد نسبة معينة من أي عملية تخصيص او خصخصة مستقبلية، بعد الإصلاح الشامل، لمصلحة الصندوق. ولا يضير في هذا السياق وعندها (اي بعد إنجاز كل ما تقدم وإصلاح الإدارة والملاك وتنقيتهم من الفساد والزبائنية) بحث موضوع تسنيد ايرادات هذا الصندوق لتمكين المودعين الذين يرغبون من تسييل حقوقهم بصورة مقدمة.
وتجدر الإشارة هنا إذا لزم إلى أن أي خطة لإعادة الودائع يفتضي أن تتلازم مع خطة موازية للنهوض الإقتصادي تُبنى على نظرة شاملة تراعي متطلّبات نشوء أو نهوض جميع القطاعات الإقتصاديّة وسيما إقتصاد المعرفة القادرعلى توظيف التكنولوجيا المتطورة وبناء قدرة إنتاجيّة متقدمة. ومن المهم أيضاً إعتماد حوافز ذكية وفعّالة تُحقق أغراضاً إقتصاديةً وإجتماعيةً نافعة وتشجع الإنتاج والإبداع وتطوير المهارات وخلق فرص عمل وجذب الاستثمارات ودعم البحوث والتطوير وإقامة مناطق تجارة حرة ومراكز إنمائية وتكنولوجية وحواضن وغيرها مما من شأنه أن يُعيد لبنان إلى خارطة العالم المتقدم ويجعل منه مقصد ومرتع مربح لأي إستثمار منتج يحفز النمو وبالتالي يمكنّ الدولة من تأمين الإيرادات اللازمة لسد أي عجز في الصندوق.
كما يقتضي أيضاً إعتماد حوكمة جديدة للقطاع المالي وإصلاح هيكلي شامل للنظام المؤسساتي القائم (PFM) برمته من خلال أنظمة حديثة متطورة قوامها الشفافية والنزاهة والحوكمة الرشيدة والحكومة الرقمية (e-government) والمحاسبة والفعالية على أساس الكفاءة (meritocracy).
المحامي كريم ضاهر
إستاذ محاضر في قانون الضرائب والمالية العامة
__________________________________________________
ندوة الحركة الثقافية اطلياس (7-3-2025)
محاوراساسية - مداخلة كمال حمدان
(مسودّة المداخلة)
قبل تناول ما آلت اليه مسألة الودائع المصرفية في لبنان إثر الانهيار الاقتصادي عام 2019، لا بدّ من تسجيل معطى مهمّا ذا بعد ماكرو اقتصادي وسياسي. هذا المعطى يتجسّد في ظاهرتين: الأولى، إتجاه الودائع المصرفية نحو الانتفاخ مع استهلال الحقبة الحريرية، حيث مالت قيمة الودائع المصرفية الى الارتفاع حتى استقرت ما بين 3 أضعاف و4 أضعاف الناتج المحلي القائم، وهو رقم غيرمسبوق في المقارنات الدولية؛ والثانية، توطّد التشابك العضوي بين رأس المال المصرفي الكبير وأركان الطبقة السياسية (زعماء سياسيون، وزراء ونواب حاليون وسابقون،...) بحسب ما أثبتته العديد من الدراسات. وتغذّت هاتان الظاهرتان من تطورات سياسية في المنطقة آنذاك (التفاهم السعودي-السوري وإنضمامه الى التحالف الدولي لتحرير الكويت، ثم توقيع اتفاق أوسلو)، ومن تداعيات السيطرة التدريجية للنمط الاقتصادي الريعي في لبنان. وهما استمرّتا في الترسّخ حتى إستنفاد هذا النمط مقوماته بدءا من أوائل العقد الثاني من الألفية، وهي الحقبة التي شهدت أيضا انطلاقة "انتفاضات الربيع العربي".
النمط الريعي وأليات التورّم المالي:
- اعتماد سياسة التثبيت النقدي بعد مجيء الرئيس الحريري الى الحكم أوائل التسعينيات، شجّع تعاظم قيمة الودائع وتنامي الاستهلاك على حساب الاستثمار المنتج في القطاع الخاص، مع إنحصار معظم هذا الاستثمار في أنشطة البناء والمضاربات العقارية؛ ما أفضى الى مفارقة نادرة نسبيا تمثّلت في تجاوز قيمة الاستهلاك العام والخاص لمستوى الناتج المحلي القائم على مدى سنوات طويلة، بحسب ما تؤكده نتائج تقارير المحاسبة الوطنية (الصادرة عن إدارة الاحصاء المركزي). ولكن تجارب البلدان الأخرى تثبت أن نجاح التثبيت النقدي يتطلّب توفّر شروط محدّدة (ضبط العجز المالي، زيادة الانفاق العامالرأسمالي...)، ولم تتحقّق هذه الشروط في الحالة اللبنانية.
- استسهال اللجوء الى الاقتراض العام من الداخل (سندات الخزينة بالليرة وبالدولار) والخارج (مؤتمرات باريس واحد وإثنان وثلاثة وغيرها) للتمكّن من تغطية العجوزات السنوية في الموازنات التشغيلية المتعاقبة (عجوزات تتراوح بين ربع وثلث إجمالي النفقات العامة تبعا للسنوات). وأدت سياسات الاقتراض المفرط، التي حفّزها التثبيت النقدي، الى إشغال المصارف والمجتمع بصورة متزايدة بعمليات إصدار وتسويق وتداول سندات الدين بالليرة وبالدولار الأميركي.
- من معالم النمط الريعي أيضا الازدياد العشوائي في عدد العاملين في القطاع العام بما فيها المؤسسات العامة والمصالح المستقلة والقوى الأمنية المختلفة، وبمعدلات مضاعفة مقارنة مع ما كانت عليه عشية الحرب الأهلية عام 1975، وسط تراجع مريع في انتاجية العمل في القطاع الحكومي بحسب ما أظهرته العديد من الدراسات الصادرة عن جهات ومنظمات دولية مختلفة (كان العدد يبلغ نحو 75 ألف موظّف أواسط السبعينيات، وارتفع الى ما بين 275 ألف و300 ألف راهنا بمن فيهم المتقاعدون)؛
- تعزّزت تلك المعالم أيضا عبر الإجازة للحكومة (بدءا من عام 1998 الذي شهد إنعطافة تصاعدية في منحى تطور قيمة العجز والدين العام) بإصدار سندات خزينة بالدولار المحلي بحجة أن ذلك من شأنه أن يخفض كلفة خدمة الدين العام، في وقت كانت فيه الودائع موزّعة مناصفة بين العملة الوطنية والدولار الأميركي.... ولكن هذه الحجة لم تكن سوى أداة للتستّر على المصالح الفعلية لرأس المال المالي والمصرفي، التي تقضي بتأمين معدلات ربح عالية للمصارف وكبار المودعين عبر تشغيل واستخدام ما تراكم لدى المصارف من فائض ودائع بالعملات الأجنبية، في إصدار سندات بالدولار. وهذه الخطوة لم تكن مسبوقة في تجارب الدول التي عانت من مشاكل العجز والدين العام؛
حول توزّع المسؤوليات ...
- تحتدم المواجهات المعلنة والمستترة حتى يومنا هذا بين الأطراف اللبنانية المعنية بأزمة الودائع، لجهة توزيع المسؤوليات. واستنادا الى القوانين والتشريعات المعمول بها، وبخاصة قانون النقد والتسليف، يقع جزء كبير من المسؤولية (بل لعله الأكبر) على المصارف التي تجاوزت بل تنكّرت للوظائف المحدّدة المناطة بها واستسهلت التصرّف المفرط بودائع زبائنها عبر تحويل معظمها الى شهادات إيداع في مصرف لبنان، في وقت كانت الموازنات المتعاقبة تعاني على مدى عقود من عجوزات بنيوية وتفتقد الى قطع حسابات منتظم. وحتى لو اعتبرت المصارف أنه فرض عليها الخضوع للضغوطات من جانب الطبقة السياسية (والأصح الحديث هنا عن إغراءات كبيرة رافقت تلك الضغوطات) كي تستمرّ في لعب دور المقرض الأخير للدولة العاجزة عن تغطية نفقاتها، فان هذا الاعتبار لا يعفيها بأيّ شكل من الأشكال من المسؤولية الأساسية عن تفجّر أزمة 2019. وربطا بالدينامية العلائقية المتبادلة بين طرفي المعادلة داخل القطاع المصرفي، أي بين المصارف ومصرف لبنان، لا بدّ من الإقرار بفداحة الجرائم المالية وعمليات التزوير والاحتيال وإخفاء الحقائق في مصرف لبنان منذ عام 1993، بمشاركة الحاكم والمتنفّذين من المدراء وأعضاء هيئة الرقابة ومفوّضي الحكومة. وما كانت عمليات الاحتيال هذه لتحصل لولا تواطؤ "صقور" المصارف، وأركان أساسيون من الطبقة السياسية، الأمر الذي مهّد عمليا للانهيار الاقتصادي والمالي عام 2019. وتقع المسؤولية أيضا على وزراء المال المتعاقبين، وبخاصة الوزير الذي بقي محتلا موقعه هذا ما بين٢٠١٤ وعام ٢٠٢٠ (علي حسن خليل)، أي خلال السنوات التي شهدت تبديد معظم الودائع. كما تقع على لجنة الرقابة على المصارف وعلى مفوض الحكومة لدى مصرف لبنان وأعضاء المجلس المركزي الذين يخضع تعيينهم لحسابات تحاصصية سياسية وطائفية.
- يشير تقرير شركة التدقيق الفاريز ومارسيال - بالرغم مما واجهته هذه الشركة من إحجام عن تزويدها بالمعلومات المطلوبة - الى عمليات مالية مشبوهة طاولت العديد من الملفات، ومنها: ملف الهندسات المالية المتعاقبة، وملف أموال شركة "فوري" (رشاوى رياض سلامة المثبتة تبلغ 330 مليون دولار)، وملف اقتطاع عمولات ضخمة ومنتظمة على مدى سنوات مقابل خدمات أعمال وساطة مالية مفترضة بين المصارف ومصرف لبنان (شركة أوبتيموم الذي قدّر الهدر فيها بما بين 8 و12 مليار دولار)، وملف الصندوق الأسود في مصرف لبنان الذي استخدم لشراء الذمم وتوزيع الرشاوى على سياسيين وموظفين مدنيين وأمنيين كبار وإعلاميين و"خبراء وأصحاب رأي"، فضلا عن ملف برنامج صيرفة وخصوصا برنامج دعم الاستيراد الذي أهدرت على هامشه مليارات من الدولارات لصالح التكتلات الاحتكارية ومن يشاركهم ويحميهم من سياسيين وزعامات متسلّطة على الدولة العميقة. والى هذه اللائحة تضاف أيضا ملفات أخرى قديمة العهد تتعلق بعشرات البنوك التي تمّت تصفيتها "على زغل" والتي رافقها تكتّم شديد من جانب مصرف لبنان على شروط هذه التصفية ومن دون الخضوع لأيّ مساءلة. والمؤسف أن جلسات مناقشة موازنة ٢٠٢٤ شهدت ضخامة أظهرت حجم الاعتراض من جانب النافذين على فرض ضرائب على المستفيدين من أرباح استيراد السلع أيام حكومة حسان دياب. وينطبق هذا الاعتراض ايضا على مشروع فرض ضرائب على المستفيدين من سداد قروض دولارية بالليرة او بشيكات مصرفية (بالدولار المصرفي أو اللولار).
بعد مضيّ أكثر من خمس سنوات على الانهيار المالي، لا تزال أطراف المنظومة السياسية والمالية والمصرفية المعنية بهذه الجرائم مصرّة على الإنكار وعلى وضع نفسها خارج نطاق المساءلة والمحاسبة. ويطرح هذا الواقع المرير العديد من التساؤلات: لماذا التغيّب الفعلي للقضاء و/أو تغييبه عن عملية السطو على المال الخاص والعام؟ ومن يتحمّل مسؤولية عدم استكمال التحقيق والتدقيق في حسابات مصرف لبنان، والاستنكاف عن كشف المستفيدين وملاحقتهم في الملفات المشار اليها (الدعم، برنامج صيرفة، تصفية القروض المصرفية بالدولار على حساب المودعين ولصالح مؤسسات القطاع الخاص)؟ ولماذا لم يستكمل التدقيق المالي الجنائي في أوضاع المصارف التجارية اللبنانية، كما في المؤسسات العامة، لتحديد حجم المخالفات والجرائم المالية وكشف أسباب إختفاء أموال المودعين والنيل العادل من الفاعلين؟
لقد فشلت معظم الحلول المقترحة لمعالجة موضوع إعادة الودائع، وكلّ من هذه الحلول إصطدم بتعقيدات جمّة أو كان أقرب الى "بالونات اختبار". ومن المشاريع التي جرى تسويقها: ليرلة الودائع بأسعار صرف متعددة، تحويل الودائع الى أسهم مصرفية« bail-in » ، إلغاء أو مصادرة جزء من الفوائد، تسنيد الودائع أي تحويلها الى سندات طويلة الأجل، إستعادة الودائع عبر أرباح موعودة من خصخصة الأصول العامة كليا أو جزئيا، استخدام احتياط الذهب إما عبر تصفيته أو رهنه، التمييز بين الودائع المشروعة وغير المشروعة وكذلك بين الودائع المؤهلة وغير المؤهلة (تخفيفا لحجم المشكلة)، الخ...وآخر المشاريع المطروحة هو المشروع المقدّم من النائب فريد بستاني (يراهن في الأساس على محصلة النمو الاقتصادي، ويعد بتسديد الودائع خلال ستّ سنوات بنسب متفاوتة سنويا على ان يسدد ثلث الوديعة بعملتها الأصلية والباقي بالليرة اللبنانية بسعر صرف السوق).
محاولات الدولة تقدير الفجوة ونسق توزيع الخسائر:
- تأخرت وتباينت محاولات قياس الفجوة المالية منذ حكومة الرئيس حسان دياب تحت ذرائع مختلفة، ما جعل قيمة الخسائر تتضاعف بين بدايات الأزمة والفترة الراهنة. حاليا تشير احدث التقديرات الى أن هذه الفجوة لا تقلّ عن 70 الى 75 مليار دولار. وطرأت تعديلات على آليات ومقاربات توزيع الخسائر وسقوف التعويض المقترح إعطاؤه للمودعين ومداه الزمني والعملة المحرّر بها، ناهيك عما رافقها من تمييز اعتباطي بين الودائع .... وفي معظم هذه المقاربات، إن لم يكن جميعها، برز إصرار المصارف - مدعومة من جزء من الدولة العميقة وتشكيلات السلطة - على إعفاء نفسها الى أبعد حدّ من تحمّل أعباء المعالجات، فيما إتجه بعض السلطة وجمعيات المودعين والمجتمع المدني نحو إبراز مسؤلية المصارف، بينما تقلّبت مواقف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تبعا لتغيّر المعطى الجيوسياسي في لبنان والمنطقة وعواصم القرار.
- إن تجاهل المعطى الزمني جعل معظم المؤشرات الاقتصادية - بما فيها تقديرات حجم الفجوة وسعر الصرف - تتفاقم كلما حصل تأخر أو تأخير في تنفيذ استراتيجيات الاستجابة للأزمات القائمة، وهذا ما إنعكس بالطبع على موضوع توزّع الخسائر. وقد أنتج الكثير من السيناريوهات الصادرة عن جهات متعددة داخل لبنان وخارجه بشأن توزيع الخسائر. وبالنسبة الى السيناريوهات الرسمية،سجّلت فروقات بين نسق توزيع الخسائر كما اقترحتها حكومة الرئيس دياب، وتلك التي تضمّنتها عبر مشروعين اقتراحات حكومة الرئيس ميقاتي، مع الاشارة الى أنه في الحالتين لم تصل المشاريع المقترحة الى المجلس النيابي، بل أن بعضها لم يصل أو يقرّ في مجلس الوزراء. وانخفضت قيمة التعويض للمضمون من 500 الف دولار (في مشروع حكومة دياب) الى 100 الف دولار (في مشروع حكومة ميقاتي) تسدّد في الحالتين على مدى عشر سنوات او 15 سنة، مع تلميح البعض الى أن المبالغ المدفوعة حتى تاريخه بموجب التعميم 158 يرجّح أن تحسم من تعويض ال 500 الف دولار او 100 ألف دولار. ويذكر أن مشروعين لحكومة الرئيس ميقاتي قد سقطا تباعا: الأول سقط في شباط 2024 على أيدي جمعية المصارف وحاكم مصرف لبنان وعدد من الوزراء وكان يحمّل الدولة أعباء أقلّ نسبيا في عملية تسديد الودائع؛ والثاني تلى المشروع الأول بعد أشهر معدودة وإتجه نحو زيادة الأعباء أكثر على الدولة وتخفيفها على القطاع المصرفي (البنك المركزي والمصارف التجارية).
- إن تجاهل أو تجهيل العامل الزمني ينطبق أيضا على التأخر/التأخير في عملية بتّ العشرات من الاصلاحات القانونية والتشريعية والادارية، التي إما أنجز بعضها القليل بتسرّع وعلى "زغل" ومن دون مراسيم تنظيمية أو أنها استمرت قيد الإعداد أو عرضة للتأجيل. ومن ضمن التشريعات الملحة التي تأخر صدورها أو حتى أسدل الستار على إصدارها، مشروع قانون الرقابة على التحويلات الى الخارج/الكابيتال كونترول، وذلك بسبب تواطؤ كلّ أطراف الطبقة السياسية (وهنا يصحّ القول "كلهم يعني كلهم" بدءا من رئاسة مجلس النواب الى رئاسة لجنة المال والموازنة الى غالبية الكتل النيابية - بما فيها كتل "المعارضة" - ووزراء الحكومة السابقة الى " ...).
- إن تقدير قيمة الخسائر يجب أن يراعي التعديلات الجارية في بنية الودائع: ويتبيّن بحسب مديرية الاحصاء في مصرف لبنان، أن قيمة الودائع الاجمالية في نهاية عام 2023 بلغت 86،1 مليار دولار (نحو 174 مليار دولار عام 2018)، موزّعة على 1،02 مليون حساب، ويشكّل كبار المودعين نحو 1% من عدد هذه الحسابات (10494حساب) ويستأثرون بنحو 38% من اجمالي قيمة الودائع (32،5 مليار دولار). وكانت لجنة الرقابة على المصارف قد أحصت في شباط 2020 عدد كبار المودعين بنحو 21592 مودع يمتلكون ودائع قيمتها 57،8 مليار دولار. أي تراجع عدد كبار المودعين في غضون اربع سنوات، بنسبة 51% وتراجعت قيمة ودائعهم بنسبة 44%. أما الذين يمتلكون ودائع تتجاوز 10 ملايين دولار، فان عددهم انخفض بنسبة 57% (الى 411 حساب)، كما انخفضت قيمة ودائعهم بنسبة 52،7% (الى 9،9 مليار دولار). وقد عمد قسم مهم من كبار المودعين الى تصفية أجزاء متفاوتة من ودائعهم عبر وسائط شتّى: سداد ديون مستحقة للمصارف، وتنفيذ عمليات عقارية، وليرلة جزء من الودائع وبيع شيكات مصرفية في السوق الثانوية بحسومات متفاوتة، مع العلم ان البعض قد نجح في حالات معيّنة في تهريبها الى الخارج.
مشاريع المعالجات "الأكثر جذرية":
الاقتراح الأكثر جذرية والذي يبقى للأسف ذا طابع نظري في ظل موازين القوى السياسية والاجتماعية الراهنة، يمكن أن يندرج تحت سلّة العناوين العامة التالية:
- رفع السرية عن الحسابات المصرفية المتعلقة بالودائع، وكذلك رفع الحصانات عن كل من تعاطى الشأن العام منذ عام 1993؛ تصنيف هذه الحسابات كلما كان ذلك ممكنا تبعا لمعايير محدّدة: الحجم، العملة، الآجال، نسبة الفوائد المتراكمة الى القيمة الاصلية للوديعة، وتيرة التحويلات من الوديعة الى الخارج أو من الخارج الى الوديعة، المصادر الأساسية لتكوين الوديعة، وجهة تطورها منذ تاريخ أساس، مدى غلبة الطابع العام الريعي أو الطابع العام الانتاجي على صاحب الوديعة....؛
- إخضاع الأرباح المتراكمة في هذه الحسابات منذ عام 2015 الى ضريبة لمرة واحدة، يجري تطبيقها بشكل تصاعدي – يراعي واقع تصنيف الحسابات وفقا للمعايير المذكورة أعلاه - على كبار المساهمين وكبار المودعين وعائلاتهم وفروعهم، بما في ذلك ما حولّوه من أرباح الى الخارج في شكل أنصبة ربح على نشاطهم في لبنان. وربما يصار الى تخيير أصحاب الودائع الكبيرة – تبعا لمصادر تشكّل ثرواتهم - بين الاخضاع للتحقيق أمام هيئة قضائية مستقلة او التخّلي الطوعي عن نسبة وازنة من الفوائد التي حصلوا عليها.وهذا يسمح باسترجاع جزء اساسي من فائض الفوائد الذي أنتجته سياسة التثبيت النقدي والسياسة النقدية عموما؛
- ينبغي إلزام كل من ثبت أنه قام بتحويل ودائع بعد تشرين الأول 2019 الى الخارج بإعادتها الى لبنان...وتطرح تساؤلات حول الحجم الحقيقي لهذه التحويلات وللمصارف والمؤسسات والأفراد المعنية بها. وفي غياب المعطيات المجمّعة، نذكر تقديرات مختلفة تطال فترات زمنية متقاطعة: بعضها يشير الى نحو 2،27 مليار دولار ذهبت حصرا الى سويسرا بين 17تشرين الاول 2019 وأواسط كانون الثاني 2020، ولا يشمل هذا الرقم تحويلات المصارف اللبنانية الى فروعها في سويسرا؛ ثمّة تقديرات أخرى (سمير حمود رئيس سابق للجنة الرقابة) تصل الى 6،5 مليار دولار لغاية نهاية خدمته الوظيفية في آذار 2020؛ ويقترب هذا الرقم الى ما توصّل اليه آلان بيفاني 5،5 مليار الى 6 مليار دولار لغاية حزيران 2020؛ ويغطي توفيق كسبار الفترة 2015-2020 ويصل الى فجوة مالية قيمتها 24،6 مليار دولار بالاستناد الى تقرير ألفاريس ومارسيال (بما يشمل "أرباح" الهندسات المالية، وفائض الفوائد والعمولات الضخمة)؛ أما منصور بطيش فيقدّر قيمة الأموال المحوّلة بنحو 12 الى 14 مليار بين صيف 2019 وتموز 2023.
مشاريع نأمل ان تكون قابلة للتنفيذ
بالرغم من أنبرامج الدعم وصيرفة وسداد القروض الدولارية قد صدرت بشأنها قرارات أو حتى قوانين، إلّا أن هذه الأخيرة بقيت من دون تنفيذ. غير إن انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة برئاسة نواف سلام يفترض أن يعزّزا الأمل بإعادة فتح هذه الملفّات وصولا الى تطبيق هذه القرارات.
- تطبيق التشريعات المتعلقة بإجراء إقتطاع ضريبي على الأرباح المحقّقة من تصفية القروض بالدولار الممنوحة من المصارف الى القطاع الخاص على اساس سعر 1500 ل.ل للدولار، والتي تقدّر الخسائر المتأتية عنها بمليارات الدولارات، مع العلم ان قيمة هذه القروض (التي تشكّل في الواقع جزءا لا يتجزّآ من قيمة الودائع) كانت تراوح في الأصل بين 35 و40 مليار دولار أميركي، وقد صفّي جزء كبير منها – خصوصا من كبار المودعين - عبر عمليات متعاقبة نفّذت بأسعار صرف متفاوتة يقل متوسطهاعن ربع أو خمس قيمة القرض الفعلية؛
- تنفيذ إقتطاع ضريبي على الأرباح المتحصّلة من الدعم الممنوح الى كبار المستوردين والتجار والصناعيين في ظل حكومة الرئيس حسان دياب، وكان هذا الدعم قد أقرّ بحجة مساعدة الفئات الفقيرة والمتوسطة على مواجهة تداعيات الانهيار النقدي على أحوالهم المعيشية؛ ولا بأس هنا من أن نشير الى تحكّم وسيطرة الإحتكارات على أسواق االمستوردات التي تؤمن معظم الاحتياجات المعيشية للسكان (راجع دراسة (Economic Competition، وقد استفادت هذه الاحتكارات بنسبة كبيرة من قيمة الدعم الممنوح.
- معالجة مزاريب برنامج صيرفة الذي قضى في الأساس بتقديم دعم بسيط لأجراء وموظفي القطاع العام (بأسلاكه المختلفة) عبر إتاحة المجال أمامهم بتحويل معاشاتهم بسعر صرف يقل بنسبة %3 الى %5 عن سعر السوق. وسرعان ما إتسع نطاق تطبيق البرنامج ليتحوّل الى بازار إنخرط فيه الكثير من الوسطاء أفرادا وجماعات، وإقتطعوا لأنفسهم نحو 2،5 مليار دولار من دون وجه حقّبحسب شركةالتدقيق ألفاريز.
- معالجة مزاريب شركة اوبتيموم؛ التي تبيّن من التحقيق الجنائي الذي قامت به شركة ألفاريز، ثمّ من تحقيقات القاضية (المتقاعدة راهنا) غادة عون، أنها اقترنت بأرباح على عمليات مالية مشكوك بأمرها بقيمة ثمانية مليارات من الدولارات (ثمّة تقديرات أخرى تزيدها الى 12 مليار دولار) تمّ تحويلها عبر وسطاء الى جهات لا تزال مكتومة (أو على الأرجح الى "جماعة" حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة)، مقابل أعمال وساطة مالية ومصرفية بين مصرف لبنان وعدد من المصارف.
- إعادة تحديد الآليات الناجعة التي تتيح التعامل مع من تحوم عليهم "الشبهة" بصفتهم استفادوا عن غير حقّ مما تسرّب لهم من معلومات من داخل القطاع المصرفي بدءا من عام 2017 ، حول تفاقم التردّي في أوضاع هذا القطاع، مما دفعهم (دون غيرهم من عامّة المودعين) الى الخروج المبكر من النظام. وفي هذا الاطار، لا بأس من التذكير أنه سبق للتعميم (رقم 154 آب 2020) أن طالب المصارف بتشجيع زبائنهم، الذين حوّلوا الى الخارج ما يوازي 500 ألف دولار أو أكثر بعد تموز 2017، على إعادة 15% الى حسابات خاصة مجمّدة لمدّة خمس سنوات في المصارف المحلية، على أن ترفع هذه النسبة الى 30% بالنسبة الى أعضاء مجالس ادارة المصارف وكبار المساهمين وعلى "الاشخاص المعرّضين سياسيا" والذين يحتلون مواقع رفيعة في الادارات والمؤسسات العامة. ويشار الى أن بنك التسويات الدولية كان قد سجّل بدء زيادة قيمة ودائع اللبنانيين في المصارف خارج لبنان منذ أواخر عام 2017، وبخاصة بعد احتجاز الرئيس سعد الحريري في السعودية، ثم خصوصا بين 2019 والفصل الثاني من 2022.