كلمة الدكتورة تراز الدويهي حاتم
في حفل تكريم علم الثقافة البروفسور ناجي الصغير
الأحد 3 آذار2019
أيها الحضور الكريم
عائلة وأصدقاء البروفسور ناجي الصغير
أهلاً بكم في رحاب هذا الدير العريق
تستمر الحركة الثقافية – انطلياس بعقد ندوات احتفالية لأعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي للسنة الثامنة والثلاثين وذلك في إطار المهرجان اللبناني للكتاب الذي يحمل في دورته الحالية 2019، اسم المعلّم بطرس البستاني بمناسبة المئوية الثانية لولادته.
ويندرج تكريم اعلام الثقافة، منذ 1985، كنشاط أساسي، دوري وثابت في هذه التظاهرة الثقافية الوطنية تحيةً وتقديراً واعتزازاً بالدور النهضوي الذي يلعبهُ الأعلام المكرمون الذين أغنوا بانجازاتهم التراث اللبناني والعربي في مختلف المجالات الأدبية والعلمية والفنية.
وفي هذه المناسبة، تطبع سِيَرهم الذاتية في كتيب صغير بعنوان "اعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي" يُوزع على الحضور على ان تصدر لاحقاً أدبيات هذه الاحتفاليات التكريمية في "موسوعة اعلام الثقافة" وقد صدر منها حتى الآن ستة أجزاء. كما يُخصص لكل مكرّم يوم من أيام المهرجان يحمل اسمه. واليوم يحمل المهرجان اللبناني للكتاب اسم البروفسور ناجي الصغير، طبيب الأمراض السرطانية الذائع الصيت لدماثة اخلاقه وكفاءته العلمية هو رئيس قسم امراض الدم والسرطان في الجامعة الأميركية في بيروت ومدير مركز علاج سرطان الثدي فيها.
فهذه العشية تتشرف الحركة الثقافية بتكريم البروفسور ناجي الصغير تقديراً لخدماته استاذاً مميزاً، باحثاً دقيقاً ومنهجياً وطبيباً بارعاً وتحيي التزامه القيم الوطنية والعلمية والإنسانية.
فتكريم الحركة له هو تكريم للشاب العصامي الذي من المدرسة الرسمية شق طريقه الى الجامعات في بلجيكا فالولايات المتحدة طلباً للعلم والتخصص.
هو تكريم لمن لم يُغره المال ولم تبهره المراكز والمناصب في الخارج، بل فضّل، هذا المتجذر في بيئته ومحيطه، العودة الى لبنان لممارسة مهنته وخدمة وطنه، مساهماً في نهضته الفكرية والعلمية. وما احوجنا اليوم لأمثاله من الشباب.
هو تكريم للطبيب الملتزم قَسَمه. "فالطب هو ان يكرس الطبيب نفسه خدمة للإنسانية" هكذا جاء تعريفه في قسم Hippocrateكما في اعلان جنيف عام 2017. فالإنسان هو الغاية والدكتور ناجي الصغير المشهود له بالاستقامة لا يَبْخلُ يوماً بوقته وبجهده وبأفكاره لراحة مرضاه، مجسداً رسالة الطبيب بأبهى حللها.
هو أيضاً وخاصة تكريم لمن نذر نفسه للعلم والمعرفة والبحث فأثمرت ابحاثه 120 منشوراً ودراسة، تندرج تحت عناوين ذات صلة بمرض السرطان وبخاصة سرطان الثدي، مولياً التوعية والكشف المبكر كما المعالجة الأهمية اللازمة. والبروفسور ناجي الصغير اذ يشكر مشاركَتكم له هذا التكريم يقدم لكل منكم أو "منكنّ" إحدى ثمار أبحاثه الصادر عن الدار العربية للعلوم بعنوان "ألف باء أمراض الثدي" عربون محبة. فالثقافة والتوعية هي بنظره الطريق الصحيح الى الصحة. أيها السادة، ان العلم والمعرفة والبحث العلمي هي في أساس التقدّم والرقي في المجتمعات المتقدمة التي ترصد لها الميزانيات الكبيرة إيماناً بانها المعيار الأساسي للتنمية الحقيقية وان آليات التغيير لا تستقيم إلاّ باعتمادها.
كلمتي هذه ليست إلاّ عناوين استلهمتها من سيرته الذاتية التي تقع في ثلاثين صفحة من "كتيّب" "اعلام الثقافة" وقد توجّها بنموذجٍ من خط يده، فيقول معرفاً برسالته "الطب علم وفن/ وثقافة وابداع/ وبحث واكتشاف/ وخبرة وممارسة/ وخدمة وتفانٍ".
اما للإحاطة بشخصية البروفسور ناجي الصغير وانجازاته فالكلمة لزميله وصديقه العالِم البروفسور سمير العلَم.
رئيس الجسم الطبي في الجامعة الأمريكية في بيروت المركز الطبي
الرئيس السابق لقسم أمراض القلب في الجامعة الأمريكية في بيروت
حاصل على وسام الأرز الوطني برتبة كوماندور
تخرج بامتياز من الجامعة الأمريكية في بيروت وتخصص بأمراض القلب في مستشفى سانت لوكس بجامعة كولومبيا في نيويورك و عمل رئيس مشارك لمختبر تمييل شرايين القلب في مستشفى هاربر بجامعة واين ستايت ميشيغان قبل عودته الى لبنان ليلمع ويصبح من اهم وأشهر أطباء القلب وشرايينه في لبنان والعالم العربي، ويترأس قسم أمراض القلب في الجامعة الأمريكية في بيروت لفترة ثلاثة عقود يدرس ويبحث وينقذ حياة آلاف المرضى، ومن إنجازاته اجراء أول عملية تمييل شرايين القلب وأول عملية تمييل مع وضع دعامة "راسور" في لبنان والدول العربية.
___________________________________
كلمة البروفسور سمير علم
ليس بالعلم وحده يرتقي الإنسان بل بالإحساس النابع من القلب
الصادق المليء بالرغبة لخدمة الإنسان والمجتمع .
الرئاسة الموقَّرة ،
الحضور الكريم،
زملاء وأصدقاء المكرَّمُ ناجي الصغير،
واسمحوا لي أن أتوجّه بالشكر بإسمي وإسم أصدقاء ناجي في
الجامعة الأميركية ، إدارة وزملاء ، لكل كم ساهم في هذه المبادرة
المقدّرة لتكريمه.
يُسعدني وبُشرِّفني أن ألبي دعوة هذا المهرجان الثقافي العريق ،
حاضن الإبداع والعلوم والفنون .
تحيّة للحركة الثقافيّة – إنطلياس ، التي تُعيد للثقافة دورها المركزي
في حياتنا الوطنيّة... حركةٌ تلتزم قضايا الإنسان وحقّه في حياة
كريمة ، إنسان مرتبط بأرضه وتراثه ولغته وحضارته العريقة ،
كما في ميثاقها .
وما أحوجنا في هذا الزمن إلى ما يُعيد للثقافة أصولها وأبعادها ،
ثقافة الأخوين الرحباني وفيروز .
زمن أصبحت فيه الثقافة وجه نظر
والحقيقة ضائعة في متاهات وسائل التواصل الإجتماعي .
والخطاب الوطني عبثي عقيم ، بفسِّر ولا يُؤثّر، خطابٌ لا قيمة له ،
ولا جدوى منه في أغلبيّته مثير للنعرات ... ورُب فتنة أثارها قول.
أن عالماً خالياً من العلوم والآداب والفنون والإنسانيّة ، هو عالم
مبتور الرغبات | منزوع من المثاليّات ،| عالم من الكائنات الآلية
المفتقرة إلى ما يجعل الكائن البشري يستحق هذه المرتبة ...| قالها
أحد المفكرين عند تسلُّمه جائزة Noble.
أقرأ من حكمة الكبير جبران خليل جبران :
أن الحياة ظلمةٌ حقيقيّةٌ إذا لم تُرافقها الحركة
والحركة عمياء لا بركة فيها إن لم تُرافقها المعرفة
والمعرفة قاصرةٌ إن لم يُرافقها العمل
والعمل فارغ عقيم إن لم يقترن بالمحبّة .
هذه الحكمة تشبه المكرّم ناجي ، رجل صالح ، كثير الحركة ، غزير
المحبّة، سخيّ العطاء ،
من بلدة بنت جبيل وأرض الجنوب الطيّبة ،
إنطلق ناجي إلى عالم العلم والعمل ، تدرّج في تحصيل
العلوم المدرسيّة والجامعيّة في لبنان وأوروبا وألولايات المتحدة .
التحق في مستشفيات عريقة في نيو يورك وميتشيغان ، كان آخرُها
في الجامعة الأميركيّة ، حيث يترأس أعلى المراكز الآكاديميّة
والمهنيّة ، بما فيها قسم أمراض الدم والسرطان.
وقد أبدى إهتماما مبكّرا في علوم طب السرطان ،
وتعمٌّق في الدراسة، و إكتساب المعرفة خصوصاً في أمراض
سرطان الثدي، وأنجز وفرة من الأبحاث الأساسيّة والمنشورات
الإحصائيّة والسريريّة يفوق عددها المئة .
وكان للأبحاثه أهميّةٌ بالغةٌ تحاكي الأصول والمسببات الجزيئيّة
والجينيّة geneticوالخصوصيّات السريريّة المتميّزة في لبنان
والشرق الأوسط |، وتحديداً ما يتعلّق بظاهرة ملفتة هي تعاظم
الحالات المبكّرة عند السيّدات صغيرات السن .
وقد ساهم في تأسيس و تفعيل جمعيّات علميّة وأهليّة مؤثرة فاعلة،|
وشارك في وضع إرشادات قيّمة و أنظمة علاج حديثة ومتطوّرة
تتصل بالوقاية والكشف المبكر والعلاجات الكيمائيّة
والهورمونيّة الهادفة المصوّبة Target| ، ولأهميته كان له
التأثيرالكبير في تبديل النظرة المجتمعيّة لمرض السرطان
وخصوصاً سرطان الثدي .
أكرمه الله وحاز على التقدير الرفيع من الجمعيّات العلميّة و الأهليّة وأصبح مُحكماً في مجلات علميّة رفيعة المستوى ، وحصل على أوسمة وطنيّة وعالميّة ذات شأن .
تبؤّا مناصب أكاديميّة عالية والتحق بزمالة وعضويّة مؤسسات أكاديميّة وتنظيمّة عالميّة وذات شهرة واسعة.
كمال العلم في العمل وأفضله ما ظهر في الجوارح ... ألقول المأثور...
كما سبق ...
إنجازات الدكتور ناجي كبيرة ومؤثّرة وهي ضروريّة للتطوّر والتقدُّم في العمل الآكاديمي لأي طبيب جامعي . وهي كثيرة ومتعدّدة لا يمكن سردها لضيق الوقت ويمكن الإطلاع عليها على صفحات الجامعة الأميركيّة وغيره من مواقع الإنترنت.
ولكن بعيداً عن الألقابإلى جانب السيرة الذاتيّة والسجل الحافل بالنجاحات هناك جانب قد يكون أكثر أهميّة في شخصّة الدكتور ناجي، وأعني به ذلك البُعد الإنساني العميق في نظرته للمريض وثقافته الطبيّة المميّزة وذلك القدر الكبير من اللطف والتواضع والتطوّع لتوفير المساعدة لأكمال العلاج، وأنا شاهد على ذلك .
يُطالعني صباح كل يوم بطلب ليستأذن المشاركة بندوة إعلاميّة أو حديث أو صحفي طبّي ...ليس حبّاً بالظهور بل تشدّداً واندفاعاً لرسالة التوعية والكشف المبكر.
ثقافته تُجسّد القيم والفضائل التي ورثها عن عائلة كريمة وأدبيّات يتماير بها صرحنا الطبّي العريق ، قوامها الإحترام والعناية والإعتناء والتعاطف والإبداع توفر للمريض تجربة وجدانيّة غنيّة تتخطّى الخدمات الطبيّة المتطوّرة . ثقافة يتهدّدها ، كما المجتمع كذلك الثقافة وصناعة الكتاب ، تعاظم التكنولوجيا وبروز بدائل آليّة معها تبدّلت الألقاب وحتى الأدوار ، جميعاً تُنذر بتقويض المفاهيم الإنسانيّة التي عليها نشأ الطب وتطوّر على مدى العصور .
أمام هذا المشهد المثقّل بالتغيّرات والتحدّيات ، نحيّ من بقي على المبادىء ثابتاً وعلى القيم والأخلافيّات أميناً وفي خدمة المريض متفانياً.
هنيئاً لك د. ناجي هذا التقدير، وإني شاكر وفخور أن أكون شاهداً ومشاركاً في هذا الإحتفال المميّز .. يُكرّم فيه زميل وصديق عزيز ومواطن صالح من لبنان .
عشتم وعاش لبنان ...
بروفسور سمير علم
أمراض القلب والشرايين
رئيس الجسم الطبّي
الجامعة الأميركيّة في بيروت المركز الطبيّ
بيروت في 5 آذار 2019
___________________________________
كلمة الدكتور ناجي الصغير
حضرات النقباء والزملاء والاصدقاء
حضرات رئيس واعضاء ادارة الحركة الثقافية – انطلياس
حضرة مديرة الجلسة الدكتورة تراز الدويهي حاتم
حضرة الزميل البروفيسور المعلم سمير العلم
حضرات سيداتي آنساتي سادتي
كم انا سعيد وخجول بالوقوف امامكم في هذا الحفل التكريمي المهيب لتقدير مسيرة اعتز ان اكون صاحبها، واعتبره حافزا جديدا لأستمر في طريق ابتدأته منذ صغري بالدراسة والعمل والمثابرة لتحقيق الأحلام الكبيرة الشخصية والعائلية، والوطنية والعربية، والانسانية والدولية.
البداية والنشأة
اما بلدة الولادة فهي بنت جبيل عروسة الجنوب ومدينة العلم والادباء والشعراء، التي يأبى أبناءها الا بان يقولوا انها "مدينة" بنت جبيل، لأهميتها ومكانتها التاريخية؛ لكنهم بذلك يحرموننا من اسم "الضيعة"، الاسم الذي يرمز إلى الحنية والطيبة والأخوة، والرواق والهدوء والاسترخاء، والطبيعة الخضراء، والأدب والشعر والإبداع وكل ما ينبع منها ونتوق اليه!
من بنت جبيل إلى برج حمود، ضاحية بيروت الشمالية، التي ترعرعت بها مع الكادحين الطيبين الذين لجأوا اليها من كافة المناطق اللبنانية ليؤمنوا لقمة العيش والعلم لأولادهم. كان والدي سعيد ووالدتي فاطمة، رحمة الله عليهما من اوائل النازحين والمهاجرين من الجنوب الى بيروت في منتصف القرن العشرين الذين ذاقوا متاعب ومصاعب الحياة، وأبوا الا ان يؤمنوا لأولادهم ظروفا أفضل من ظروفهم فعملوا ليلا ونهارا لكي ندرس وننهل من العلم والمعرفة ونتحلى بالأخلاق الحسنة من اجل الحصول على شهادة قوية ومهنة مرموقة وعيش كريم. كانوا لي المثل الأعلى للعمل الدؤوب والمثابرة والتضحية والمسؤولية تجاه العائلة والأقرباء والأصدقاء والجيران وأهالي الحي وابناء الوطن وكل إنسان.
من مدرسة العرفان في برج حمود الى ثانوية التربية الحديثة في النبعة الى مدارس بيروت (الاشرفية الرسمية/رأس النبع الحديثة/ رمل الظريف الرسمية)، خلال الستينيات سنين النضالات وحركات التحرير والثورات في العالم العربي وفرنسا، والحركات السلمية والدعوة إلى المحبة ومناهضة الحروب في اميركا والعالم كله، وسنين النهضة الثقافية والفورة الفنية في لبنان مع فيروز وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين وإحسان صادق وشوشو وأبو سليم وأبو ملحم وأم ملحم، والكثيرين الذين ليس هناك مجال لتعدادهم لضيق الوقت، والأخوين رحباني الذين نجتمع في هذه القاعة التي تحمل اسمهم الخالد، وفي مصر مع عبد الحليم حافظ وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش والكثيرين أيضا، وفي العالم مع البيتلز والروك اند رول وجاك بريل وغيرهم. تلك السنين تركت فينا اثارا لا يمحيها الزمن ونتمنى لو نستطيع إعادتها إلى ابناءنا.
السفر الى أوروبا وأميركا
وثم كان السفر الى فرنسا لتعلم الفرنسية ودراسة الهندسة التي كنت اعشقها وبالأخص هندسة الطيران، ولكن والدي الذي اصطحبني الى المطار أنداك الى باب الطائرة، همس في أذني قائلا "بابا، انت هلا مسافر على فرنسا ... عمول شي حرزان كتير ... عمول حكيم"! مازالت همساته ترن في أذني، من هناك ابتدأت رحلة الطب! في ليون، درست اللغة الفرنسية وقمت بزيارة الجامعات الفرنسية بطريقة الأوتوستوب لكي اتعرف عليها واختار احداها، على غير ما اصبح متوفرا الان اذ انهم بكبسة زر كمبيوتر يستطيع الشباب الاطلاع على كل خياراتهم و تقديم الطلبات على الانترنت. كانت هناك لذة، ولكنها كانت مجبولة بالمشقة والعذاب الذين يعلموا الإنسان الصبر ويشكلوا حوافز للتفوق. كان لا بد لنا ان نجتهد فوق العادة لكي نحقق طموحاتنا ولكي نرضي اهلنا، كيف لا وان اهلنا يضحون بكل شيء في سبيلنا ولا ينسون شيئا لتامين راحتنا. أذكر كيف انني وصلت الى باريس بالطائرة ثم استقليت القطار ذاهبا الى ليون حيث كنت مسجلا في جامعتها لدرس اللغة الفرنسية ووصلت الى الفندق بعد منتصف الليل جائعا لا اجد لا مقهى و لا مطعم و لا خدمة غرف، فاذ بي بينما كنت افرغ الشنطة، اجد بيضتين مسلوقتين مع رغيف خبز و ملح وضعتهم لي امي بين الملابس!
استقريت في بلجيكا بجامعة بروكسل الحرة التي كانت وما زالت من اصعب الجامعات للدراسة والتخرج. تحلو الحياة في الغربة مع الاصدقاء الطلاب اللبنانيين والعرب، وتتوسع افاق العقل مع التعرف على الطلاب الزملاء "الاجانب" البلجيك والاوروبيين والاميركيين، وتنكب على الدراسة والمثابرة عندما يكون الاساتذة متطلبون جدا ولا يتساهلون معك، يؤمنون لك الظروف ويطلبون منك ان تتفق لكي تتخرج.
من بلجيكا الى نيويورك للتخصص؛ هناك زاد شعوري بالثقة بالنفس حيث وجدت ان معلوماتي لا تقل عن معلومات زملائي الامريكيين وانهم يعاملونني وكأني واحد منهم. تعلمت ان لا اخاف من ان اتكلم بصوت عال وان امشي بخطوات واثقة، وكيف احافظ على تواضعي واخلاقي، وكيف اكون طموحا اكثر لان كل المجالات متاحة وليس علي الا الابحار نحوها. ومن أمثلة التواضع التي نتعلمها خلال التدريب والدراسة في اميركا هي التواضع وعدم الاكتراث للألقاب مع المحافظة على الاحترام المتبادل!
العودة الى لبنان
بعد التخصص وممارسة الطب وعلاج السرطان واكتساب الخبرة في نيويورك والرياض وديترويت، كانت العودة الى لبنان سنة 1993، السنة التي هي من اهم محطات حياتي لان العودة كانت دائما الحلم وبالبال. كنت دايما افكر وأقول انني اتعلم و اتخصص في الخارج لكي اعود و اخدم بلدي واهلي في لبنان. هنا احب ان اذكر انني لم أبرز شهاداتي الاصلية الا عندما فتحت عيادتي في بيروت. كنت اعلق على حائط عياداتي في نيويورك وديربورن هايتس شهادات نسخ فوتوكوبي مبروزة الى ان عدت الى لبنان و في شنطة اليد (رول) شهاداتي الاصلية.
في لبنان كانت الفرحة وكانت الصدمة، بل الصدمات! الفرحة بالوطن والعودة والأهل والأصدقاء، وتحقيق الحلم الكبير بالانتساب إلى الجسم الطبي والأكاديمي للجامعة الاميركية في بيروت والاعتزاز به. أما الصدمات فكانت كثيرة ، منها ما يتعلق بالطب والطبابة ومنها ما يتعلق بالمجتمع؛ لم اتفاجأ بها ولكنني أصبحت أعايشها يوميا، صعوبات كثيرة لدى المرضى لكي يحصلوا على علاجهم ويؤمنوا تكاليفه، وجود حالات كثيرة متقدمة المراحل، وجود نقص كبير بالوعي الصحي، والخوف الزايد من كلمة سرطان وعدم التلفظ بها.
الاهتمام بالشأن العام
فبالاضافة الى الاهتمام العيادي الطبي بالمرضى وصحتهم، والتدريس والابحاث، كان لا بد من الاهتمام بالشأن الصحي العام. كانت مكافحة التدخين من اول اهتماماتي. لقد كانت اعلانات التدخين في سنوات التسعينيات منتشرة في كل مكان، المحاورون على شاشات التلفزة يدخنون, سياسيون، رجال دين، فنانون، ممثلون، كلهم يدخنون في العلن. كنت انزعج وأتألم كثيرا لهذه المناظر لأنها بمثابة ترويج رخيص لسموم التدخين ومضاره الصحية من امراض قلب وشرايين ورئة وسرطان. تجرأت ان أتدخل واكتب مقالات ومقابلات في الافكار والنهار و السفير و كل التلفزيونات والصحف ووسائل الاعلام للتنبيه من مخاطر التدخين، حتى ان الصديق الإعلامي مرسال غانم في احدى حلقات كلام الناس قال لاحد السياسيين الذي باشر بتدخين سيجارة على الهواء.. "دخيلك اطفيها هلا بيدقلنا الدكتور ناجي الصغير... ". قلت ذات مرة في مجلة الأفكار لزياد الرحباني بعد احدى حفلاته "لا تدخين في بيت الدين"! كانت معركة مكافحة التدخين بالاشتراك مع العديد من الزملاء والناشطين مهمة جدا ووصلنا الى اصدار قانون منع التدخين في الاماكن العامة ومنع اعلانات التدخين، ولكن حاليا وللأسف هناك عودة إلى الوراء وان الوزارات والبلديات تتقاعس عن تطبيق القانون، وعاد التدخين، السيجارة والاركيلة، ليصبح افة كبيرة في مجتمعنا، افة سوف تتسبب في المستقبل القريب بأمراض كثيرة. ان من افضل واهم ما اقترحه هو زيادة ثمن علبة السجاير الى 20,000 ليرة لبنانية حتى لا يستطيع المراهقون والمراهقات الشباب و الشابات شراءها من مصروفهم اليومي (الخرجية). نعم ان الوقاية وحماية الأجيال الصاعدة اهم وتنجح اكثر من محاولات ارشاد البالغين للإقلاع عن التدخين.
وبالالتفات إلى المجتمع، نلحظ ونحلل وندرس الامراض ومسبباتها ونعمل على الوقاية منها والكشف المبكر عنها. لقد لاحظت منذ بداية العمل في لبنان والدول العربية ان سرطان الثدي متقدم ومنتشر في اكثر الحالات. درسنا الأوضاع وقررنا القيام بحملات التوعية للكشف المبكر بمبادرات فردية وثم مع الجمعية اللبنانية لاطباء التورم الخبيث الذي كان لي الشرف بتأسيسها سنة ١٩٩٧، ومن ثم مع وزارة الصحة بحملات مبرمجة منذ سنة ٢٠٠٢، واصبحنا الان نرى اكثر من ثلثي حالات سرطان الثدي بمراحل مبكرة ويمكن شفاء معظمها حتى بدون استئصال كامل للثدي وبدون استئصال كامل لعقد الإبط، ومؤخرا اصبح لدينا ادوات وفحوصات نستعملها لكي نشفي مرضى الحالات المبكرة حتى بدون علاج كيميائي. وهنا لا بد ان اثني واشد على ايدي السيدات الناجيات من سرطان الثدي وخاصة السيدة ميرنا حب الله، والمتطوعات الذين يعملون معي في الجمعية اللبنانية لمكافحة سرطان الثدي التي كان لي شرف تأسيسها سنة ٢٠١١، والتي تقوم بالتعاون مع مركز علاج سرطان الثدي في الجامعة الاميركية في بيروت الذي أتشرف بإدارته، باعمال جبارة للتوعية والكشف المبكر وتقوية المرضى وجمع التبرعات لمساعدة المرضى المحتاجين لتغطية تكاليف العلاج والتأمين أفضل علاج لهن. انني افتخر بان اقول اننا غيرنا وجه سرطان الثدي من مرض مخيف ومميت الى مرض يمكن علاجه والشفاء منه، واننا مستمرون بالعمل والتعليم ودعم الابحاث حتى لا تخسر اي سيدة ثديها او حياتها بسبب السرطان. ولا ننسى السيدات اللواتي عندهن مرض يحتاج للعلاج الكيميائي والهرموني والمهدف فنساهم بتامين سبل العلاج الأفضل بالأبحاث والمساندة في لبنان والدول العربية.
الشأن العام وحوادث السير
واود في هذه المناسبة الاشارة الى موضوع اخر يجذب اهتمامي ولا علاقة له بالسرطان ولكنه اسوء منه ويفتك بحياة اللبنانيين اكثر من السرطان، الا وهو حوادث السير. مثل كل واحد منا لدي اقرباء واصدقاء فقدوا فلذات أكبادهم أو اعز أقرباءهم، أو توفوا، او اصبح لديهم اعاقات جسدية ودماغية بسبب حوادث السير. هناك اكثر من ٦٠٠ قتيل و٦٠٠٠جريح كل سنة معظمهم من الشباب في لبنان ذو عدد السكان ٤،٠٠٠،٠٠٠. فاذا حسبتم هذا العدد على الولايات المتحدة الاميركية (300.000.000) تخيلوا ان يكون هناك ما يعادلها يعني اكثر من 40.000 قتيل و400.000 جريح كل سنه: انها اعداد مخيفة وغير معقولة وتقيم الدنيا وتقعدها، ولكن في لبنان لا تقيمها ولا تقعدها! انني اتوجه الى مديرية قوى الامن الداخلية وديرية امن المرور والى صديقتنا الوزيرة السيدة ريا الحسن واتمنى عليها اعطاء الاولوية لنشر ثقافة قيادة السيارات الواعية واستبدال زيادة قيمة ضبط السرعة باصدار نقاط يتم تسجيلها على رخصة القيادة لكي يتم سحب الرخصة عندما يتخطى السائق عددا معينا منها، وان تتفاهم مع وزارة التربية لتدريس قيادة السيارات في المدارس الثانوية، ومع وزارة الاشغال العامة والبلديات على فرض اصلاح كل الطرقات وتزييحها بالكامل بالخطوط الضوئية والفوسفورية التي تعكس الضوء ليلا ، وتوفر أيضا الكهرباء، واصدار قانون من مجلس النواب يجعل تجديد رخصة القيادة إلزامي كل خمس سنوات ولا يبقى صالحا حتى سن الخمسين، وأنا متأكد ان رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري وممثله بيننا الصديق النائب علي بزي وسائر النواب سوف يوافقون على ذلك.
الشكر والتكريم
ان تقدير اعمالنا ونشاطاتنا وإنجازاتنا من قبل الزملاء ومن الحركات الثقافية والجمعيات العلمية اللبنانية والعربية والأوروبية والاميركية، ومن المسؤولين وخاصة رؤساء الجمهورية يشجعنا على العطاء اكثر وعلى تحمل اكبر للمسؤولية. وكم هو أيضا حلو الشعور بالإنجاز عندما تدخل المريضة الى العيادة مرعوبة وتخرج منها مرتاحة ومبتسمة ومتآملة وتبدأ معك رحلة التشخيص والعلاج. وما احلاها عندما تبتسم المريضة وتقول لي: هلأ صرت منيحة يا حكيم بس شفتك، وأحس ان الكلمات نابعة من قلبها وليست مجاملة! جميل ان ترى انسانا في الكوريدور يقول لك: حكيم كتابك ساعدني وشجعني كتير. فمن اكثر ما اعتز بانجازه أيضا هو كتاب "الف باء الثدي" وكتيب "المعرفة طريق النجاة"، بالإضافة الى مشاركتي بتأليف ارشادات علاج سرطان الثدي للمدرسة الاوروبية للسرطان والجمعية الاوروبية لعلاج السرطان التي يتم اعتمادها في كل انحاء العالم والتي اعطيت عنها عشرات المحاضرات في عشرات بلدان العالم، وكذلك ارشادات تدريب اطباء السرطان في اوروبا والعالم، وارشادات علاج السرطان مع الالتفات الى الامكانات المادية والتي نتمنى تعميمها لان تكاليف العلاج اصبحت باهظة جدا ويمكن ان تكسر ميزانيات كل الدول واصبح علينا نحن الاطباء التعاون مع السلطات الصحية لتعميم ارشادات العلاج ومراقبتها. وانا اعتز بالعمل أيضا ضمن برامج الطب الغلوبال Global Medicine: نعمل افضل ما نستطيع عمله بالموارد التي نمتلكها ونعمل على تحسين مواردنا:
Doing the best we can with the resources that we have, while working on improving our resources
مكافحة الفساد
منذ تأسيس وترأس مؤتمرات الجمعية اللبنانية لاطباء التورم الخبيث ومؤتمرات افضل ابحاث السرطان ومؤتمر بيروت لسرطان الثدي وانا اتكلم عن مكافحة الفساد العام الذي اصبح في هذه الايام شعارا على السنة الجميع. كنت اقول في جلسات افتتاح المؤتمرات انني اتمنى لو نستطيع ان نزود المسؤولين السياسيين والإداريين بعلاج كيميائي يقتل كل انواع الفساد او علاج مهدف يقتل بعض انواع الفساد بفعالية اكبر، او بعلاج هورموني يوقف الفساد، او بعلاج مناعي يوقف قدرة الفاسدين على التحايل على الاصلاح، واليوم اود ان اضيف على كل ما ورد انني اتمنى الوقاية والكشف المبكر عن الفساد والرقابة الصارمة والمحاسبة والا يعود هناك احدا فوق القانون، فبذلك نعود الى العدالة الاجتماعية والمثل الإنسانية والأخلاق الحسنة ونحن متفائلون بحصول هذا في عهد الرئيس العماد ميشال عون !
التعاون العلمي
انني اعتز بصداقة زملائي في الجامعة الاميركية في بيروت، الاساتذة الاطباء والمتدربين وكذلك الطلبة والممرضين والصيادلة والموظفين. اننا نعلم ونتعلم. انني احب ان اقول اننا نعتبر انفسنا تلامذة دائمون. ان العلم هو اسئلة وبحث عن الاجوبة سويا اكثر منه انفراديا. لقد ولى زمن الانجازات الشخصية البحتة واصبحنا نعيش في زمن الانجازات الجماعية. الافكار الفردية تتبلور وتتطور بالاعمال والابحاث الجماعية وهذا ما نعمل عليه team work. نفرح لانجازات زملائنا ونصفق لهم من القلب لاننا نتقدم سويا ونطور بلادنا سويا.
التشكرات
واخيرا لا آخرا، وختامها مسك، اشكر كم جميعا واشكر زملائي وأصدقائي ورفاق دربي وعائلتي. فانا لم يكن باستطاعتي إنجاز ما فعلت لولا تضحيات اهلي، وصبر زوجتي صفاء علي وتحملي وأنا اقضي ساعات العمل اليومية الطويلة في المستشفى والجامعة، وكذلك ساعات اضافية في المنزل في التحضير والكتابة، ومحبة اولادي ياسمين وسعيد وملاك وباسم الذين حاولت ان ابذل كل ما استطيع لتأمين حاجاتهم وتعليمهم وارشادهم، والذين اشعر دائما انني كنت اود ان امضي اوقاتا اكثر معهم!، هنا يحلو لي وألوم نفسي في وقت واحد، ان اذكر "نهفة" من نهفات ابني باسم في صغره، حين رآني ذات يوم في البيت لا اكتب او اعمل على الكمبيوتر فقال لي "بابا ما في عندك اليوم هوم وورك"! شكرا لكم جميعا، شكرا للحركة الثقافية في انطلياس على هذه المناسبة الكريمة التي هي من احلى لحظات العمر، والتي اعتز أيضا بانني جزء من معرض كتابها السنوي الذي يحمل اسم المعلم الكبير بطرس البستاني والألقاب الفرنسة: "Maison du Livre" و الأيام الذهبية Les Journees d’Or.
الدكتورناجي الصغير
استاذ في كلية الطب في الجامعة الاميركية في بيروت AUB
رئيس قسم أمراض الدم والسرطان في الجامعة الاميركية في بيروت المركز الطبي AUBMC
مدير مركز علاج سرطان الثدي في الجامعة الاميركية في بيروت المركز الطبي