كلمة الدكتورة هدى رزق حنا في ادارة جلسة
تكريم الدكتورة رلى ذبيان
أحلم بوطنٍ لا ينكفئ شعبه في أدراج الطوائف ولا يُقحم مواطنوه في زنزانات الانتماءات، أحلم بجامعة أبيّة غير قابلة لنفوذ المساومات والمحسوبيات الى فروعها ومجالسها، جامعة همّها الدفاع عن العلمنة والانتماء الحصري الى الوطن، والاستقامة في مزاولة الوظيفة العامة، جامعة تجعل من المعرفة حافزاً لفكر وسلوكٍ أكثر إنسانية، ومن الثقافة احتراماً للبيئة وكرامة الانسان، ومن السلطة صوناً لحقوق المواطن الأساسية، ولما لا؟ أحلم بكليّة آداب يضحى التعليم فيها متعة لا وظيفة والبحث مغامرة لا سخرة، فيتحوّل فيها الأستاذ الى مربّىٍ والطالب الى مثقّف شغوف بالمعرفة يمجّد الفنّ الأصيل ويتمرّس على القيم الحقيقة يكلل بها كفاءته العلمية وتحصيله المعرفي.
كثرٌ الذين يشاركونني هذه الاحلام ولكن هناك من يسعى جاهداً لتحقيقها وتجسيدها في ممارسته اليومية للتعليم الجامعي فيمكّن الطلاب من البحث العلمي المنهجي، ويجعل الثقافة من مكونات اهتماماتهم. نعم مع الدكتورة رلى ذبيان يتغيّر المشهد الثقافي، فهي تعمل على خلق نماذج فعّالة في منهجية التعليم، وتسعى الى تمكين مهارة الباحثين وتحاول دمج العمل الثقافي بالتغيير المجتمعي، وتخصص مكاناً وزماناً للثقافة في كليات جامعتنا، كما تحرص على تدعيم الوحدة الوطنية بواسطة الثقافة، وجعل المعرفة تتفاعل مع محيطها فتنظّم المؤتمرات وتلقي المحاضرات وتشارك في الحلقات الدراسية والمنتديات وتراقب وتصحح بتفانٍ الاعمال البحثية التي ينتجها الطلاب فأتساءل مندهشة كيف تجد رلى الوقت الكافي للقيام بأبحاثها الأدبية ولترجمة كتب لفلاسفة وأدباء ومؤرخين فكتاباتها لا تحصى ولا تعدّ.
مواضيع اهتماماتها غنيّة ومتنوعة، من الأدب الافريقي الفرنكوفوني في الستينات والسبعينات الى الأدب الفرنسي الحديث والمقارن الى علاقة الأدب بالفن السابع والرسم وتأثير الاساطير والحكايات على الرواية، الى دراسة الحضارة الفرنسية من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر، الى تدريس اللغة الفرنسية وقواعدها حتى أنها تطرأت من خلال تعليم الترجمة الى مواضيع طبيّة كالأمراض الجلدية والمعالجة بالأعشاب.
ولم يثنها ولعها بالأدب وبتاريخ الحضارات عن تحليل واقع الشرق الأوسط الأليم فحاضرت في السياسة والعمل المدني وركّزت على الحرب اللبنانية ونتائجها وعلى وضع المرأة في الخليج وفي العالم العربي وبخاصة على النزاع الشرق أوسطي على المياه وعلى العوائق التي تحول دون تحقيق السلام ودون انتشار ثقافة السلام في الشرق الأوسط.
سأترك لزميلتي الدكتورة فاتن المرّ المجال لتعداد الأبحاث والتعريف بمسار رلى ذبيان الحياتي والاكاديمي.
دكتورة فاتن المرّ أستاذة في كلية الآداب الفرع الرابع وموضوع أطروحتها "الكلمة والحقيقة في روايات أمين معلوف". درّست وتدرّس في كلية الآداب المواد التالية: محترف القراءة والكتابة، النقد الاجتماعي أو
la Sociocritique، الأدب المقارن، السردية أو la Narratologieوالأدب اللبناني الفرنكوفوني.
لها مقالات أدبية نقدية باللغة العربية وباللغة الفرنسية على سبيل المثال:
Les romans de Carole Dagher entre Histoire et histoire, 2006.
L’Errance dans l’oeuvre au noir de Marguerite Yourcenar et dans les Jardins de lumiere et Samarcande de Amine Maalouf, 2006.
- المكان والزمان في حبي الأول لسحر خليفة، 2011
- البطل الاشكالي في روايات سحر خليفة وآسيا جبار، 2012.
- بين المتخيّل والتاريخي في رواية أرض وسماء لسحر خليفة.
وهي كما لاحظتم تعتمد عناصر ومكونات السردية لتحليل الرواية العربية.
كتبت خمس روايات ومجموعة قصص قصيرة نشرتها دار الفرات ودار النهار ودار الآداب ودار أبعاد وهي: الزمن التالي، الخطايا الشائعة، مفتاح لنجوى، حدثيني عن الخيام، غبار وبين انتظارين.
الشهادات
حان وقت الشهادات وسنستمع الى شهادات قصيرة لمحبي وأصدقاء رلى ذبيان
- نبدأ بالسيدة افلين حمدان أستاذة اللغة والادب الفرنسي في مدرسة الكرمل القديس يوسف – سابقاً ولها كتاب l’homme aux sandales de feuالصادر باللغتين العربية والفرنسية عن دار الفارابي سنة 2017.
- أستاذ حسام ملاعب مهندس معماري له رواية عنوانها "ألم" صادرة عن دار الفارابي سنة 2017.
- السيدة افلين عقّاد أستاذة في جامعة Chicago Illonoisأديبة صاحبة مؤلفات عدّة روائية وبحثية. مؤسسة بيت لحنان للعناية بشؤون النساء المعنفات.
- أستاذ وليد رافع المدير السابق لثانوية راشيا أديب وشاعر ومؤسس جمعية سراة.
- الدكتورة نجاة الصليبي الطويل أستاذة ادب فرنسي في كلية الآداب الفرع الثاني، شاعرة لها "كلمات تلهو" "سنة... سنوات" "دوي السراب" وعضو في الهيئة الإدارية في الحركة الثقافية – انطلياس.
- أستاذ نايل أبو شقرا مؤرخ
- العازف الان اوسطا
خاتمة:
دكتورة رلى، الحركة الثقافية في انطلياس، وأساتذة كلية الآداب بفروعها الخمس، وطلاب كلية الآداب الفرع الأول، وطلاب الماجيستير في مركز العمادة، يكنّون لك فائق الاحترام لأنك لبّيت نداء الجامعة الوطنية واحتضنت شبابها ورفعت عالياً قيم الاستقامة والدقة والرقي في ممارسة التعليم الجامعي.
___________________________
كلمة د.رلى ذبيان في تكريمها
أوصاني والديَّ بشكرِ مَنْ يطالعني بالتحِيّة قائلاً «صباح الخير». فماذا أقول للحركة الثقافية – إنطلياس وهي التي خَصَّتني بهذا التكريم وأنا في منتصف المسار، جاعلة من تاريخ الثاني عشر من شهر آذار/مارس من العام 2019، تاريخا مِفْصَلِيّاً في حياتي، مَحَت بِمَوجِبِه ما كان قبله من مَساءات وجعلت ما تبقّى لي من سنوات بعده صباحات، لا بدّ لي من صَرْفِها في المثابرة على إتقان العمل الأكاديمي والتجلّد تحقيقاً لجَوْدة النشاط الثقافي. أيكون شُكراني لها وافياً حقّها عليّ، وهي التي عندما إرتأت تكريم امرأة خمسينية لم تُنْجِزْ بعدُ ما تصبو إليه، كَسَرَتْ القاعدة التي اعتادت الاعتراف لأهل العلم والثقافة والمناقبية بتميّزهم قبيل وصول رحلتهم إلى خواتيمها، وفي أكثر الأحيان بُعَيْدَها؟ وما السبب في مبادرتها الكريمة هذه؟ دوّهني السؤال ولم أجد عليه جواباً إلا فيما اختُصَّت الحركة الثقافية - إنطلياس به وما نَهَجَتْ عليه. فهي، في كل ما تعقِد العزمَ عليه، تَسْتَلْهِمُ حكمةَ شِيْبِها وتَبَصُّرَ رؤيتهم، لتستكشف مكامِن الطاقة في الشباب فتبرِزها وتقدِّر لأصحابها اندفاعاتهم نُصْرَةً للحَرْف والمُثُل، وتمُدَّهم بما يلزمهم من شجاعة تُعينهم على الاستمرار في خَوْضِ غِمار الحياة.
كيف لا، والحركة الثقافية – إنطلياس مَشْغوفَة بنُسْغ الحياة، تلك العَطِيّْة الأغلى، التي اختارت رعايتها وتعزيزها منذ العام 1978، يوم كَانت رَحَى الحرب تَطْحَن بلا هَوَادةٍ بأضْراسِها البشرَ والحجرَ، دافِعة بلبنان إلى التشظّي. ففي تلك الحِقبة المصطخبة بالشِّقاقات، انفردت إنطلياس، موطن الإنسان الأول الذي عاش في مغارة «كسار عقيل»، في إنشاء حركة ثقافية جعلت منها، بين المتاريس والجبهات، مساحة للتلاقي، تتّسع ليس للسّماح للآخر، بل للاعتراف بحقّ الآخر في الوجود والفكر والقول والعمل والتواصل والعقيدة، واضعةً نُصْبَ أَعْيُنها كرامةَ اللبناني أيّاً كان مَنْبِتُه، لإدراكها أنَّ الثقافةَ أوسعَ أُفُقاً من المَنْبِت وأن مَقاصِدَها نتجاوزه تجاوزاً يُدخِلها كالتِّرْياق في صُلْب مأساوِيّة الوجود البشري. أَوَ ليست الثقافة قراءةً للعالم وإنماءً وإغناءً له؟ أَوَ ليست سَعْياً إلى جلاء لَغْوِ وجودنا الذي لا يُطاق؟ أَوَ ليست محاولة لحِيازَة هذه المملكة المُتفلِّتة من قَبْضَتِنا؟ أَوَ ليست تلك المعركة المُسْتَبْسِلَة الضّارِيَة التي تَتواتَر فيها الانكسارات والانتصارات؟
تلك أسئلة غالباً ما يَحار الشباب فيها، لكنه، وان لم يجد عنها جواباً شافيا، يقع لدى الحركة الثقافية – إنطلياس على فضاءٍ رَحْبٍ، يُدْخِل السَّكينَة إلى قلبه، ويجدّد الأمل في نفسه، ويَشْخَذ عقلَه بالمعارف، مُنَشِّطاً فيه المدارِك، ويَسْقي عروقَه العَطْشَى إلى الهدوء في زمن الضّوْضاء، ويصوِّب له المَسار عندما تُقَوّضه الغَوْغاء.
كيف لا، وأمانتها العامة باقية – وان تغيّر كلَّ عامٍ طاقمُها حِرْصاً على ديمقراطية التداول والتفاعل – على عَهْدِها لميثاق المؤسسين، تضُمُّ فيمن تضُمُّ مَنَارات لا تقوى الريحُ على ضوئها الذي يَشُقُّ عُباب الظُلُمات: فأَنْطوانُها أُسْطُوانُها، وسيفه فَصْلُ المَقال بين الصَّلاح والضّلال؛ واعتدالها عَدْلٌ ونجاةٌ طويلٌ باعُها في لَمِّ الشَّتات؛ وهُداها هَدْيٌّ بِلّوْرِيٌّ ورِزْقٌ فيّاض؛ وعِصْمَتُها في بَدِ خليفَتِها، صاحب القلم المُنَقِّبِ السيِّال والمصنِّف للمباحث المتبحِّرة في لبنان تاريخا ثَوْرَوِيّاً على مَظالم الطبقات، وواقعاً جُغْراسياً شرق أَوْسَطِياً مُصْطَخِبا بالنزاعات وأوّلها على الحدود والمياه؛ ودُوَيهيّوها المُشاد لهم بجَوْدة الرأي، يحصِرون الإهتمام عن قَصْدٍ بالتجديد والشباب؛ فهم عندما اطمئنوا إلى استقلال لبنان وفرادته بتعدديته، انصرفوا هذا إلى الرَّسْم بريشة انطباعِيّة اللّمَسات، تَسْتَحْضِر الجبلَ والواد، وتُدْخِل الوجوه القَرَوِيَّة إلى فضاء اللوحة الكلاسيكية(1)؛ وذاك إلى الإبداع الروائي الواقعي المتجاوز للحداثة بأشواط(2)؛ وهذه(3) إلى وَضْع حَجَر الأساس مع الحاتِمييّن، لدار نشر قَصَرَت نفسَها على الإصدار في أدب الناشئة إيمانا منها بأن الكتاب لِبنَة مِدْماكية في بناء شخصية اللبناني الإنسان، المَفْطورِ على الحرية، إبحاراً في انبساطة الأزرق، بحثاً في المجاهِل، تأمّلاً في الغوامِض والتماساً للجمال، والمُلْتصِق مع ذلك بتراب أرضه يقدّسه، والذي إن رأيتَه يقطِف وَرَقَةَ بِطْم أو صَعْتَر بَريّ ويفرُكُها بأصابعه ثم يستنشِق ضَوْعَها، عَرَفْتَه سَليل «خُدور الأسود وجبال النمور»، بناء على ما ورد في نشيد الأناشيد، الذي يفتتح به أنيس فريحة واحداً من كتبه العديدة(4).
ولهذا التكريم الذي مَنَّت عليّ الحركة الثقافية - إنطلياس به، قيمة مضاعفة لوقوعه في أعمال دورة المعلّم بُطْرُس البُسْتاني (1883 - 1819)، الذي، وبحسب ما يقوله فيه الشيخ خليل اليازِجِيّ:
خَدَمَ بلادَهُ ولَيْسَ أَشْرَفَ عنده |
|
من أن يُسَمّى خَادِماً لبلادِهِ(5) |
والذي افتتح الدكتور أنطوان سيف مهرجان الكتاب بسيرته العطرة النيّرة، والذي كرّست له الحركة الثقافية ندوة تولّى الدكتور عصام خليفة إدارتها، وذلك كله للاحتفال بمِئَويَّتهِ الثانية، قبل أيَّة منظمة ثقافِيّة أخرى أو مَحْفِل علمي آخر. واذ لا أودّ هنا الخوضَ فيما أسَّسَ به المكتبة العربية في عصر النهضة من كتب في الصَّرْف والنَّحْو، وتآليفَ في الرياضيات والعلوم التجارية، وتصانيفَ في آداب العرب، ومعاجمَ في اللغة العربية نَقَّتْها ممّا عَلِقَ بها من شوائب التَّتْرِيْك، ولا فيما أنشأه من صحفٍ وبخاصة منها نفير سورية، التي خَضَّب صَفْحَتَيها الصغيرتينْ «بحبر الرسائل الوطنية الداعية أبناءَ البلاد إلى الاتحاد والوِئام» إبان أحداث العام 1860، ودرءاً لتَبِعات «الحزازات والتعصّبات المَنْفوثَة في صدور اللبنانيين»، تماما كما فعلت عامّيات إنطلياس في دير شفيعها مار الياس، ولا في دائرة المعارف التي، عندما إنصرف إلى وضعها وتَبْويبِها، أراد لها أن تكون «قاموساً عاماً لكل فنٍّ ومطلبٍ»(6)، فقارع بها، بما حَوَتْهُ من فَذَاذة وغزارة، «الإنسيكلوبيديات» التي كانت أوروبا تفاخر بها قبل مئة عام تقريباً على انطلاقة مشروعه هذا. بل إنني سأتوقف هنا عند ما كتبه في باب الاجتماع والأخلاق، وبالتحديد عند ذلك الخطاب الطويل الذي ألقاه في الرابع عشر من شهر كانون الأول/ديسمبر من العام 1849 بعنوان تعليم النساء، «يوم لم يَكُنْ أحدٌ يجرأ على ذكر المرأة بالخير»، بحسب ما يقوله في الحدث صاحب النسائيات(7)، نقولا جُرْجي باز. ومسوِّغ التوقف عند هذا الخطاب هو وقوع هذا التكريم بين تاريخين: الثامن من آذار يوم المرأة العالمي والواحد وعشرين منه، عيد الأمّ، أي كما يقول المعلم بُطْرُس البستاني، تلك التي جعلها الله «أمّاً للخليقة»(8)، والتي هي، في نظره، «نِصْفُ الخليقةِ الناطقةِ»(9)، والتي «كان اول من ناصر[ها] في سورية على مِنبر، بل أول رسول نسائي (....) دعا إلى تعليمها وتهذيبها»(10)، رابطاً تحضّرها بمفعوله في «إصلاح أحوال الجمهور والبلاد»(11). وإذ تيقّن من هذه الثابتة التي تقصّاها لدى «أصحاب الدراية والتحقّق»(12) وما كتبوه في أمر النساء واختلاف أحوالهن بين المعرفة والجهل والتمدّن والتوعّر، انبرى المعلم بُطْرس مناوئاً مَنْ لا يستحبّون تعليم المرأة «في معاشر الرجال»(13)، مُنَبِّهاً إلى أن في الاختلاس منها «الحقوق التي أقامها الله لها»(14)، وفي تجريدها من القوى «العقليّة والأدبيّة»(15) التي أسبغها عليها، وفي الحَجْر عليها في غياهب الجهالة، أو في البيت «بمنزلة صَنَم يُعْبَد، أو أداة زينة لأجل الفُرْجَة»(16)، ما «يَحُطُّ شأنَ الإنسانِ ويُوَرِّثُه الذُّلَّ والهَوان»(17).
ولم يّكْتَفِ المعلم بُطْرُس بالتحذير، بل إنصرف، وهو المعروف بانفتاح العقل وسلامَة السَّريرة ومحبّة العِلم والرغبة في تعزيزه بين أبناء وبنات قومه، إلى وضع منهج تربوي يَصْلُح إتّباعه في تعليم النساء، لاشتماله على الديانة، واللغة التي ولدِت فيها كما اللغات الغريبة، والقراءة والكتابة، وعلم تربية الأولاد، والتدبير المنزلي، والجغرافية والتاريخ، والحساب، مفَنِّداً الفائدة المرتَقَبِ مّفْعولها الايجابي في بناء شخصية المرأة وقدراتها ودورها في العائلة، وهي «سرير الطبيعة العظيم»، وفي المجتمع، أو كما كان يحلو له القول، «الجُمْهور».
فـان تعلّـمـت الـديانة، عرفّـت ربَّـها ونـالـت أكبر حقوقها وأتمَّت أعظمَ واجباتها، ولا يمـكن للرجل أن يقوم مقامها فيها، لأن «أوامر الديانة ونواهيها تتجه إلى المرأة والرجل معاً»(18).
وإن تعلّمت لغتَها الأمّ أدّت مُرادَها «بكلام صحيحِ اللفظِ والمعنى» واجْتَنَبَتْ إيقاع الفساد في لغة جيلها بعامة، ولغة أولادها بخاصة، «لأن الولد يتعلّم لغةَ أمّه. فان كانت لغتها صحيحة كانت لغته كذلك، وإلا فلا»(19). وفي تعلمّها لغات غريبة عنها ما «يفتح لها باباً للعثور على فوائد مفقودة أو نادرة الوجود في لغة قومها»(20).
وفي تعلّمها القراءة ما يُقَوّي باصِرَتَها وذاكِرَتَها. فالكتاب يساعدها على استحضار واجباتها الروحية والزمنية و«ويكلّمها بدون صوت، ويُئَنِّبُها من دون خوف ولا خَجَل، ويجيبها من دون تذمّر ولا ضجر». أما تعليمها الكتابة فلا مَضَرَّة فيه البتَّة، لأن المرأة تقعُ في الكتابة على «الواسطة الوحيدة لتبليغ خاطرها مكاناً لا يصلُ صَوتُها إليه»(21).
وفي علمِ تربيةِ الأولاد ما يضمن للأم، إن هي اكتَنَزَتْهُ، نجاحها في «اقتياد الولد»(22) والمحافظة عليه «نَفْساً وجِسماً»(23).
وإذ يدفع عن قارئه الظّنَّ بأن «الاعتناء بالبيت من خدمة، ونظافة، وخياطة، وطبخ، واهتمام بالمرضى وما أشبه»(24)، ما هي إلا أعمالٌ محتَقَرَة، يتمنّى المعلم بُطْرس لو أن ثَمَّة مدرسة تُعْنَى بتعليم خصائصها وأصولها. أما منافع تعليم الجغرافية للمرأة فتكمن في «توسيع عقلها» وإعانتها على إمداد أولادها بالمعارف الخاصة بالأصقاع والأَمْصار.
ويعلّق المعلّم بُطْرس أهمية كبرى على التاريخ الذي، إن تعلّمته المرأة، غذَّت مخزونَها القَصَصي «بأخبار تاريخية صحيحة»(25) يفيد منها أولادها في المستقبل.
أخيراً، لا يَحْصِر البُستاني مَنْفَعَة الحساب في النظريات، ولا «في أرباب التجارة والدواوين»(26)، بل إنه، وإن لم يتّسع مقاله لشرح لزوميته للمرأة نفسها، إلا أننا نستطيع القول إن المعلم بُطْرس يوحي لنا بوقوعه في صُلْب علم الاقتصاد المنزلي، التي تجهد المنظمات غير الحكومية المعنية بتمكين المرأة في البلاد النامية والقرى النائية، في تعليمه اليوم للنساء، ضماناً لتوازن دَخْل العائلة وخَرْجِها.
ولعل أنبل ما دعا إليه المعلم بُطْرس البستاني، وهو المؤسس للمدرسة الوطنية في العام 1863 التي فتحت أبوابها أمام «الطلبة من جميع الطوائف والمذاهب»(27) والمشتغل في التربية منذ مستهل سيرته المهنية، فهو عنايته بمسألة «التثقيف العقلي القويم»(28) الذي حرص على توفيره للأحداث من فِتْيان وفتيات، متوسّلاً وسائط تضمن لهم ولهنّ التسلية النافعة، فعمد إلى ترجمة رحلة رُوبِنْصُن كروزي، ونشْرِها في العام 1861 بعنوان التُحْفَة البُسْتانِيّة في الأَسْفار الكروزِيَّة. ولقد استهلها بمقدمة قال فيها:
وإذ كانت مهذَّبة لا بدّ من أنها تكون أكثرَ قبولاً لدى جُمهورِ هذا العصر الذي انفتح فيه باب المعارف لجنس النساء أيضا والذي فيه يجب الإنتباه إلى تنظيف دواوين العرب وكتاباتهم ومجالسهم مما لا يليق من الكلام والأعمال....»(29).
وفي خطابه هذا، تجاوز المعلم بُطرس البستاني عصره، ووضع خطة ساوى فيها بين الرجال والنساء على صعيد القدرات العقلية خصوصاً ذاهبا حدّ القول، لاثبات رؤيته التقدمية في المرأة، إنه «لو أُهْمِل الرجل من كل عناية ومُنع عنه كلُّ وسائطَ المعرفة والتمدّن، كما يكون الحال غالباً مع المرأة، أفما كنا نراه قد تقهقر إلى درجة النساء....؟»(30).
وإذ حَرَص على إبقاء المرأة على خاصيّاتها الجسدية والسلوكية والسيكولوجية، أكّد على استحالة «وجود العلم في عامة الرجال دون وجوده في عامة النساء، كما أنه لا يوجد نساء عالمات في عالم من الرجال جاهل»(31). ففي هذا الثنائي، ترابط وتفاعل وتناغم، لتأثير «أحدِهِما بالآخر»(32).
وإن كان المُعلم بُطْرُس قد اعترف للمرأة بحقّها في التّرَقّي وسّواها بالرجل، إلا أنه جعل واجبها وواجبه أكبرَ من الحقّ، وهو ما يوافقه عليه الشيخ عبد الله العلايلي عندما اسْتَهَل كتابه مَثَلُهُنَّ الأَعْلى، السَيّدَة خَديجَة قائلاً «أَنَّ الواجِبَ - على المَرْءِ والمَرْأَة، الرَّجُل والرَّجُلَة، إِزاءَ المجتمع وحِيال الفِكْرَةِ الصَّانِعَة لمَعَارِجِه، الصّائِغَةِ لِمَراقِيهِ - هو الأَكْبَرُ عَلَيْهِ، من الحَقِّ لِهَؤُلاَءِ وهَؤُلاءِ - أو في حال أَدْنَى، هما قَدْرٌ سَوَاءُ»(33). وفي تَرَقّي هذا وهذه ما يجعل إصلاح المجتمع عملية مَيسْورَة تتقاطع فيها المسؤوليات، ويقع تعليم النساء في أساسها وذلك منذ نُعومة أظْفارِهِنّ. بل إن للمرأةِ التأثيرَ الأعظمَ فيها لأن، وبناء على ما يقوله المعلّم بُطْرس، «ما يجعل الناس بَرابِرةً أو متمدّنين، أَصْحاب دِرايَةٍ أو كَافرين، أشْراراً أو صالحين، عُلماءَ أو جاهلين، إلى غير ذلك، إنما هي المرأة. وهي سيّدة هذا الكون، وقالَبَه في طُفولِيّتِه، ومِرآتَهُ وقُدْوَتَه في صِباه، (...) وقائِدتَه في شَبابِه، وراحَتَه وبَلْسَمه في شَيْخوخَتِه»(34).ولدى توقّفه عند فوائد تعليم النساء يستقوى المعلّم بُطْرس بما كتَبَتْه «إحدى النساء الفاضلات في هذا المعنى وخلاصته أن المرأَةَ يجب أن تتعلَّمَ ما يجعلها حكيمةً من دون عُجْبٍ، ومغْبوطَةً من دون شهود، ومفيدة من دون شهرة، ويقتادها إلى المعرفة الحقّ ومحبّة الحقائق، ويُقَوِّمُ أفكارها، ويهذّب عَقْلها، ويعلّمها الإفْتِكار والمُقايَسَة [أي التقدير بين أمرَيْن]، والتأليفَ [أي الجمع بين الأشياء وتنظيمها](35)، والتركيب والترتيب، ويجعلُها تفضّل الأشياءَ الحقيقيةَ الصادِقَة على الأمور المُبْهِجَة الحديثة».
وعلى ضوءِ ما تقدَّم من اسْتِعراض لنهج المعلّم بُطْرس البستاني في تعليم النساء، يتّضِحُ لنا أنه لم يكن سابقاً لعصره وحسب، بل إن ما كتبه فيه، وان لَمْ يُشَر إليه بالبَنَان لأننا كعرب ولبنانيين مقصِّرون في الإضاءَة على مخزوننا الفكري في علم الاجتماع والأخلاق، يؤسِّس للجَنْدَرِيَّة، التي أضْحَت اليومَ اختصاصاً يدَرَّس في الجامِعات، ويدخل في صُلْب قرارات منظمة الأمم المتحدة، وبخاصة منها القرار 1325 الداعي الدول الأعضاء فيها إلى الاعتراف بحق المرأة في التعليم وبغيره من حقوق الإنسان، بل وبحقّها في المشاركة في صُنْع القرار السياسي في بلادها، على المستوى المحلّي بدءاً بالمجالس البلدِيّة وصولاً إلى الحَلْقَة البرلمانِيّة، كما على المستوى الدولي، حيث يُؤْخَذ بآرائها ويُعْتَدُّ بمواقفها، من خلال المنظمات النسائية الدولية غير الحكومية، في المقررات الأُمَمِيَّة.
وبالعودة إلى المعلّم بُطْرس البُستاني، نجد أنه ما كان يخشى أن تنالَ المرأة قِسْطاً وافراً من المعرفة، تكتَسِبُه ليس بالتعلّم وحسب، بل من خلال اجتهادها الخاص عبر الانكباب على قراءّة الكتب. وفي ثِقَتِه هذه ومقاله هذا الواقِعِ في صُلْب زمن النهضة، التي كان لبنان أولّ مَن حمل لِوائِها في العالم العربي، ما يعيدنا بالذاكرة إلى القرن الرابع عشر الطلياني النَّهْضَويّ، حيث نلتقي بالرسّام سيمون مارتيني (Simone Martini) (المولود نحو عام 1280 أو 1285 والمتَوفّى عام 1344)، العائِدِ في مَنْبِتِه إلى مدينة سِيِنّا (Sienne)، وهي واحدة من الدول المَدِينِيَّة الإيطالِيّة السبّاقة إلى الدعوة إلى تحقيق الإنْسانَوِيّة، التي تعني خصوصاً نشرَ المعرفة بين الأنام بعد أن كانت حَبيسَةَ الأدْيِرَة وغيرها من المَعاقِل الإكْليريكِيّة. ولقد كمنت فذاذة مارتيني، ليس في إبداعه التصويري والفنّي وحسب، بل في إقباله على إدخال المرأة القارئة إلى فضاء الكنيسة، عبر استخدامه واحداً من أكثر الرموز تأثيراً في العامة، وأعني بها «أُمَّ النور»، العذراء مَرْيَم عليها السلام، تلك التي كان المؤمنون يتضَّرعون إليها في ظَلْماء القرون الوسطى، طالبينَ منها التوسّط لأجلهم لدى ابنها الفادي عليه السلام والآب الخالِق عَزَّ وجَلّ.
فاللوحة المُشار إليها باسم البِشارة (L'Annonciation)، التي رسمها عامَ 1333 والموجودة اليوم في رِواق المناسِك أو العِبادات (Galerie des Offices) في مدينة فلورنسا المُتَوسّطِيّة، مَشْهدِيَّة أسْكَنَ فيها مارتيني شخْصين: الملاك جبريل وقد تدثَّر بثوبٍ فَضْفَاض وأغرقه الرسام في لون ذهبي مُتَوَقِّدٍ برّاق ومَرْيَم. يتبدّى الوسيط الإلهي في الرسم جاثياً على رُكْبَتَيْه أمام مريم، يَنْظُرُها بِحُنُوٍّ امتزج بالتَّهَيُّب، مُعطِياً مُبْصرَهُ انطباعاً بأنه حَطَّ من عَلٍ تَوّاً. يَفْتَرُّ ثَغْرُ الملاك قليلاً، لتخرجَ منه البِشارَةُ القاطِعَةُ المسافةَ بين شفَتَيْه وآذان القديسة المُرْتَقَبَة في خَطٍ فيه أخْتِيال، والمَنْقوشَة بقوله: «السلام عليك يا مَرْيَم، يا مُمْتَلِئَة نِعْمَةً، مبارَكَةٌ أنتِ بَيْنَ النساء؛ لا تَجْزَعي، فإن لكِ لدى الباري عَزّ وجَلَّ حَظْوَةً». كانت مريم، عندما باغتها الملاك بزيارته، مُسْتَغْرِقَةً في القِراءة، فإذا به تَجْفُلُ في وِقْفَةٍ يتجلّى فيها ذُعْرُها، كما لو أنها كانت تسعى، في انْتِحائِها إلى زاوية المَشْهَدِيَّة، إلى اجتِناب كُلِّيَة القوة الماثِلَة في كلمات الملاك. في ذلك الزمان، كان مَنْ يتأمَّل في اللوحة من معاصري الرسّام، يَعْجَبُ لوِقْفَة مَرْيم الدفاعِيّة، وتلك اللامبالاة الطابعة ملامِحِها على نحو مثير للفضول، إلى درجة حَسبوا معها كما نَحْسَب أنها تريد التَّمَلُّص من القَدَر المكتوب لها، متدثّرة بردائها الجوخِيّ.
تحمِل مريم في يدها كتاباً أحمرَ، يَرْمُزُ إلى الحكمة، وهو مَشْقوق؛ وفي الشِّق، دَسَّت القارئة إبهامها الصغير لتَحول دون إضاعتها للمقطع الذي كانت مستغرقة في قراءته، عندما فاجأها الملاكُ قاطعاً تركيزها وخَلْوَتَها وحاملاً إليها بِشارَةً ما كانت لِتَفْقَهَ مُفَادها بعد ولا لتتخَيَّل حتى ما ستكون عليه مفاعيلها بالنسبة إلى البشرية جمعاء. أما الكتاب، ففي شكله ما يوحي بانْطِوائِه على العبادات والصلوات الشخصية، وهو من النوع الذي كان موجوداً في أواخر القرون الوسطى ومستخدَماً في العائلات الزمَنِيّة المَيْسُورة الحال، يلجأ إليه أفرادُها كما العامةُ القادِرةُ على القراءة لإتمام صلواتهم وأفعال تَقْواهم الخاصة، كما يَعْتَمِدونَه في تعليم القراءة للأولاد.
نشهد إذن في مَشْهَدِيَّة هذه البِشارة، التي خَضّبتها ريشة الفنان، على ولادة شيء جديد: إن عذراء مارتيني امرأة نبيهة، وهي ما عادت تلك البريئة السّاذَجَة التي اعتاد علماء اللاهوت على رؤيتها فيها. إنها تتحكَّم بالقراءة التي وصلت بها إلى منتصف الكتاب، نتيجة مِراسِها بها. إذ كانت القراءة ممارسَةٌ ماضية في أن تصبح اعتيادِيّة لدى الناس الذين كانوا قد نالوا، في أواخر القرون الوسطى، قِسْطاً من التعليم. والعادة المَعْنِيّة هي القراءة بصمت، المجيزةُ باكْتِسَاب العلم واحْتِياز المعرفة، عبر اسْتِقَائِهما من الموارد المُنتقاة طَوْعاً، وليس إذعاناً لنهج أو طاعَةً لأمر، بل على ضوء المُكْتسَب بالدراسة والمطالعة. فمن الطبيعي إذ ذاك أن يُذْعَرَ الإنسانُ المستَغْرِقُ في القراءة، كما عذراء مارتيني، التي تَنْتَفِضُ وَجَلاً عندما يَنْتَزعُها أحدُهم، وإنْ كان رسولاً إلهِيّاً، قاطعاً عليها انْسِيابِيّة قراءَتِها.
لكن ماذا لو كانت دائرة المعارف (1875)، التي وضعها المعلّم بُطْرس «الجَبّار»(36)، واهتم بتَبْويبِها في هيكل أَبْجَدي، بمساعدة ابنه سليم، جاعلاً من العالم فيها «قريَةً كونِيّةً» سَبَقَت العَوْلَمة بنَيّف وقرنٍ من الزمان، متوفِّرة في عصر مارتيني؟ أما كان الرسّام الإيطالي اسْتَحْسَنَها، بل أُعْجِبَ بها، لنَهْضَوِيَّتها، فوضَعها بَيْن يَدَيّ العذراء مَرْيم تقرؤها؟
مَرْيَم التي ولسبب نجهله، قامَ أحدُهم يوماً بخَلْعِ اسمِها على زهرة بَرِّيَّة، هي «بَخور مَرْيَم» التي، ما أن تَسْتَشْعِر أنَّ الشتاء بات على أُفول، حتى تَشُبُّ وتَتوَثَّبُ، فَيَفْتَرّ ثَغْرُ الصخر لتَوَثُّبِها مُبْتَسِماً. لبَخور مَرْيَم قصة تطول، وهي التي بها تزولُ الأشْجان وتتآلف القلوب. فهي جامِعةٌ للنقائض. إذ تَحْسَبُها لرِقَّتِها هَشَّة سريعة العَطَب، ولكنها مُعَمِّرة لانْبِثاقِها من دَرْنَة تقوم لها مقامَ خزّان الغِذاء، دائرية الشكل، بل قُلّ «لوغارِتمِيّة»، أعطاها الإغريق لأجلها اسم «سيكلامين» (cyclamen)، ومن هذا اللفظ يُشْتَقّ الجَذْر «cycle» أي الدورة والدائرة. فهذه الزهرة، وإن غابت في نهاية آذار، تعود للإزهِرار في آذار التالي، مُرْتَضِيَة الاحتجاب لأشهر يَشْتَدّ فيها القَيْظ، ولكن مقاومة الموت الذي لا يقوى عليها. أفلا تتشارك هي الأخرى مع دائرة البستاني اللامتناهية هذه السَّرْمَدِيَّة التي يتوقُ الإنسان إلى نَيْلِها والتي لا ينالها إلا الأَفذاذ، كالمعلم بُطْرس، الذين صَرَفوا حياتهم في تَنوير الخَلْق، ولم يُعْطَوْا في الغالب زهرة يُشْكَرون بوَساطتها على سَعْيهِم. وإن كان الشيءُ بالشيء يُذْكَر، فإن للمُعَلم بُطْرُس، وإن من بعيد، علاقة بلفظ «الدائرة» التي تقوم عليها سرمدِيَّة بَخُور مريم، علاقة مُثَلَّثَة نستنبطها من أصل أسرته وسيرته السِّنِيّة. علاقته الأولى بها علاقة سَلَفه أبي محفوظ بالطبيعة والأرض. إذ يقول الدكتور فؤاد أفرام البستاني في الروائع، إن أصل أسرة البستاني يعود إلى «قرية بقِرْقاشا (...) الواقعة في جبة بشراي من لبنان الشمالي»(37)، حيث عاش أبو محفوظ مشتغلاً بالزراعة، باذلاً جهده في العناية ببستانه حتى عَمِر وضُرِب المثل به، فتكنّى صاحِبُه بِصُنْعَتِهِ وقيل له «البستاني»، المُصْغِي لأنفاس الأرض، ولما يهرمِسُ به الشجر من كلمات في العشِيَّة، ولما تتأوّه به أغصانه حين يُثْقِل الثمر كاهلها، والمراقب لدورة الزمان وما يرخيه من تأثير في المكان. والعلاقة الثانية، تكمن في أنّ المعلّم بُطْرس استهل دائرة المعارف واشتغل بها بلا انقطاع، مصدراً أول أجزائها سنة 1876، ومتابعاً إصدارها كل سنة، حتى «فاجأه الموت، وقد أعَدَّ ثلثي السابع، فشاء القدر أن يوقف «دائرته» - التي تشبه دائرة بَخور مَرْيم من حيث إن «فيها استئناف للقديم وفيها أخذ بالجديد»(37)، عند كلمة «دائرة»»(37). أما علاقته الثالثة، ففي الصورة التي كان يطمح للمرأة أن تجسّدها أقلّه في زمانه، وهي الجامعة للأضداد من رِقّة وصلابة، تتوسّلهما لتُدْخِل إلى المجتمع التغيير البنّاء. فالنساء «وإن سُبِكْنَ في قوالب التعليم والتمدّن وانْصَعْنَ إلى شرائع تقتضيها الهيئة الاجتماعية، كَلَّلْنَ عالمنا بتيجان الفوز والنجاح و[حَلَّيْنَ] جِيْدَهُ بقَلائِدِ الراحة والسلامة، و[طَوَّقْنَهُ] بأطواق السعادة»(38)، تلك السعادة التي نشعر بالكثير منها عندما يقع بَصَرُنا على أزهار بَخُور مَرْيَم العائدة في موطنها إلى بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط، والأخّاذة بألوانِها المتنوعة بين الوردي والأحمر الأُرْجوانِيّ والزّهْريّ الشاحِب والأبيض النّقِيّ، واللافتة بأوراقها القلبية الشكل، والمختزنة في دَرْنَتها مادة تُفرِز رَغْوَة يغتسل بها الراعي، ويُسمّيها لأجل ذلك «الغاسول»، بالإضافة إلى مادة سُمِّيَّة تدفع عنها الحيوانات والأعشاب الطُّفَيْلِيّة، وأخرى علاجية، يستفاد منها كمادة قابضة في داء المفاصِل، وأمراض القلب، وآلام الرأس، والتضخّم الذي تُصاب به الغُدّة الدُّرْقِيّة.
وما الكلام على بَخُور مَرْيَم أو الحَلْقِيّ أو العَرْطَنِيثا أو الدغنينة أو الزّعبوط أو قَرْن الغزال إلا بسبب من هذه الأُصُصّ المزدانة بتلك الأزهار من فصيلة الربيعيّات، التي اصطفاها سليمان الحكيم من بين أنواع كثيرة أخرى، ليُصمِّمَ تاجَه على شاكلتها. ولأن الطبيعة أرادت لشهر آذار أن يستضيف الربيع، أردت من جهتي أن أفْرُش مُقدَّم هذه الخشبة بأُصُصٍ زُرع فيها بَخُور مَرْيَم. وأنا أرجو كل سيدة، بل كل زَنْبَقَة غَوْرٍ، حاضرةً مجلسنا هذا، أن تقبِل مني أَصيصاً حاملاً له. وإن ذَوَت بعد حين الأزهار واندَثَرت، تبقى دَرْنتها أو دائرتها حيَّة، كدائرة المعلم بُطْرُس البُسْتاني، وتعود لتزهر في آذار القادم، حاملة السيدة المتقبّلَة للهدية على العودة بالذاكرة إلى هذه الأمسية فَتْذكُرُني كما آمَلُ بالخير، مجدِّدَة معي الشكر للحركة الثقافية - إنطلياس التي جمعتنا في فَيّءِ مَصْلوب الخشب عليه السلام، وارتقت بنا إلى حيث يحِبُّ لنا أن نصل من وِئام وتناغم وسلام.
أنظر في وجوهكم النيّرة وأرى وجه أمي ووجه أبي؛ وأظنُّهما من حيث هما، يُلْقِيان عليكم التحية ويتقدمان منكم بجزيل الشكر لحضوركم والتفافكم حولي.
والشكر واجب تُمليه عليه محبتي للشهود الذين تكبّدوا مَشَقّة الحضور، وقلّدوني أوْسِمَةً شَدَّت من إِزري، وقوّت من عزيمتي. فأقول شكراً صادقاً لكل من:
الأستاذة إڤلين حمدان، رئيسة مؤسسة مهدي عامل الثقافية التي واكبتني منذ ثلاثة عقود؛ وللأستاذ نائل أبو شقرا الذي أغنى المكتبة العربية بمصنّفات في التاريخ ارتكزت على الوثائق وأفصحت عن الحقائق؛ وللدكتورة فاتن المرّ صاحبة التآليف التي تستلهم التاريخ، فتغذّي به الذاكرة الجماعية من خلال السردية الروائية؛ وللمهندس حسام ملاعب صاحب كتاب ألم القادم من بيصوره ليقول فيّ كلمة حقّ؛ وللأستاذ وليد رافع الآتي من قريته البقاعية البعيدة ليضيء كل مساء من مساءاتي بشهادته؛ وللدكتورة نجاة الطويل التي شاءت أن تكون في عِداد الشهود أسوة بالدكتورة هدى رِزق، وقد كانتا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مورداً للعلم، ومحفِّزاً على الإنفتاح الثقافي والإنساني، تشجعان على نَهل هذا والجرأة على ذاك بإيماة صادقة مؤمنة بأن لبنان لا يكون إن لم يكن معقِلاً للحرية والإبداع.
لم يكن ليَ عُرس يوماً، وجَمْعُكُم هذا عُرْسِي. وإن وافتني المَنِيّة غداً، قلت لها: «هَلُمّي»، فأنا وُفّيت أكثر من حقي، لما شاءت الحركة الثقافية - إنطلياس، بإيعاز من الدكتور عصام خليفة وتزكية من كل من السيدات الدكتورة هدى رِزق والدكتورة نجاة الطويل والدكتورة تيريز الدويهي، تكريمي الذي أهديه لمن فتحت لي آفاق البحث في مجاهل أدب إفريقيا السوداء ومجتمعاتها، أي للدكتورة سعاد شيخاني غلمية.
كيف لا تكون الهدية الكبرى للدكتورة غلمية التي كانت في قسم اللغة الفرنسية وآدابها، في الفرع الاولكلية الآداب، تمسِك بيد كل منا، نحن طالباتها، فتسدّد خُطانا في طريق البحث، وتزوّدنا بالكتب المُنتقاة من خزانة كتبها الخاصة، وتفتح لنا أبواب بيتها، وترافقنا في مصاعبنا الشخصية، مُصْغِةً الى قلقنا ومخفِّفَة عنا؟ انها رمز للجامعة اللبنانية، هذا الصرح الأكاديمي الذي لا يقيم السدود بينه وبين المجتمع المدني، بل الذي يفعِّل دوره فيه لما فيه خير اللبنانيين، وهو يبقى في مساري الشخصي، نقطة البداية والإرتكاز والنهاية.