تكريم الدكتور مصطفى حجازي
المقدِّم
د. كمال بكداش
أستاذ ورئيس قسم سابق لعلم النفس في الجامعة اللّبنانية، له مؤلّفات وأبحاث في المجال منها: مدخل إلى علم النّفس التجريبي، علم النّفس ومسائل اللُّغة (مؤلّفات)؛ اكتساب اللُّغة، الجمل العربيّة والذاكرة، التّثنية والجمع لدى الأطفال (أبحاث).
مُستشار تطوير للموارد البشريّة، ومصمِّم ومدير للعديد من البرامج التدريبيّة في مجال الإدارة بوجه عام والإدارة التربويّة بوجه خاص منها: تنمية الموارد البشريّة، إدارة التدريب، تدريب المدرِّبين، تنمية القيادة لمديري المدارس.
مُعِدّ دراسة حول "العلاقة بين إدارة المدرسة والأهل والمُجتمع المحلي"، ومُشارِك في دراسة "تقييم تدريب المعلِّمين على المناهج التعليميّة الجديدة"، ومُشرف حاليًّا على إعداد مناهج وسلسلة كتب "مهارات الحياة".
تقديم
د. مصطفى حجازي
المقدِّم: د. كمال بكداش
إنشغل المشتغلون بعلم النّفس بأمورٍ عديدة وانشغلوا عن أمور وأهملوها. من بين الأمور المُهْمَلة مسائل من نوع البؤس الاجتماعي وتجلِّياته النّفسانية، التّسلُّط السياسي والاجتماعي وتداعياته في النّفس، تصوُّرات الجماعات الأهليّة عن نفسها وعن غيرها وما شابه. واضحٌ أنّ هذا النوع من المسائل يُؤْلِمُ الرُّوح، ولذا- على ما نعتقد- وقع إهمالُه وإنكارُه.
كان لدى مصطفى حجازي- أستاذي وزميلي في قسم علم النّفس بالجامعة اللُّبنانية- ما يكفي من الحساسيّة الاجتماعيّة ليكتبَ عن بعض هذه المسائل، وخاصّةً في كتابيْه اللَّذين صادفا قرّاءً من خارج الدائرة الجامعيّة الضيّقة، وهما: التخلُّف الاجتماعي- مدخل إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور (12 طبعة منذ عام 1976) والإنسان المهدور (2005). وهذا ما صنع تميُّزَه بين المشتغلين بعلم النّفس. فمن هو مصطفى حجازي؟
من مواليد صيدا عام 1936 وحائز على دكتوراه الدولة في علم النّفس من جامعة ليون – فرنسا (وهو بالمُناسبة من أوصى أن أُعِدَّ رسالتي للدُّكتوراه في الجامعة الفرنسية نفسِها) أستاذ علم النفس في الجامعة اللبنانية (من 1983 إلى 1990) وأستاذ الصحة النفسيّة والإرشاد النفسي في جامعة البحرين (من 1991 إلى 2006)، مارس – خارج الإطار الجامعي- خبرات مهنيّة لا يتيسَّر في الوقت المُتاح سردَها في مجال رعاية الطفولة والنّاشئة، وفي مجال التدريب والتطوير الإداري والاستشارات مع المنظَّمات العربيّة والدوليّة، وأسهم في تنظيم وحضور عدد كبير من المؤتمرات والنّدوات.
أمّا مؤلِّفاته وترجماته التي تربو على ثلاثين كتابًا، وأبحاثه ومقالاته التي تُقارِبُ الخمسين بحثًا ومقالةً، فسوف أسمح لنفسي- وفق تفضيلاتي- أن أُبْرِزَ البعض منها. وفي المقدَّمة من هذه المؤلِّفات كتابيْه اللَّذيْن سبق ذكرهما (سيكولوجيّة الإنسان المقهور والإنسان المهدور) واللَّذين اخترقا- إذا جاز القول- السِّياج الجامعي وبلغا قرّاءً ُمتعطِّشين على ما يبدو لفهم واقعهم الاجتماعي من منظور علم النّفس الاجتماعي. وفي تقديري أنّ الانتفاضات العربيّة أضفت نوعًا من المصداقيّة على تشخيص هذيْن الكتابيْن، بما هي انتفاضات ضدّ القهر الاجتماعي والسِّياسي وضدّ هدر الكرامات.
تتمحور معظم مؤلِّفات وأبحاث مصطفى حجازي حول مسائل علم النّفس التّطبيقي ولا سيَّما الصحَّة النفسيّة والإرشاد الأُسَري وقضايا الطُّفولة والشَّباب والجُنوح وغيرها، وحاول في هذه المؤلّفات بنجاح مميَّز تأصيل علمٍ وافد- هو علم النّفس- في البيئة المحليّة العربيّة، وهو مَهمَّة على درجة من الصُّعوبة وسط شيوع نزعتيْن إغترابيّتيْن عندنا في علوم الإنسان والمجتمع: نزعة نسخ أو استنساخ الوافد من هذه العلوم (وهو ما دُعِيَ بالاغتراب في المكان) ونزعة تأصيل هذا الوافد لا في البيئة المحليّة بل في التراث (وهو ما دُعِيَ بالاغتراب في الزمان).
هذا من ناحية. من ناحية أخرى، حاول مصطفى حجازي في مؤلّفاته أن يسير بالاتجاه المعاكس للمناخ السّائد في مؤلّفات علم النّفس بوجهٍ عام وللمناخ السّائد في منطقتنا. فالمعلوم أنّ الجانب الأعظم من مؤلّفات علم النفس تتناول موضوعات كئيبة (أمراض، اضطرابات، صعوبات، مشكلات ... إلخ). كما يسود مناخَ منطقتِنا مزاجٌ كئيب. وعلى الضّدِّ من ذلك نجد كتابات حجازي تطفح بروحٍ إيجابيّة ومتفائلة قد نجد مصدرَها في شخصيّته ومبرَّرها في الاستراتيجيّة التي أختارها للتّأثير إيجابًا في القارئ (وكأنّ لسان حاله يقول: ما الجدوى من إحباط القارئ وتيئيسه). واللاّفت أنّه خصَّص مؤخَّرًا (عام 2012) كتابًا مستقلاًّ حول "قراءات في علم النفس الإيجابي".
في مجال التّرجمة فلْيُسْمَح لي أن أُبْرِزَ له ترجمتيْن لا أعرف أيّةَ طاقة أو أيّةَ قدرة عانته على إنجازهما وهما: مُعجم مصطلحات التّحليل النفسي (1985 عن الفرنسيّة) وعلم النّفس التطوّري (2009 عن الإنكليزيّة). الكتابان ضخمان، تكتنفهما صعوبات مصطلحيّة ولغويّة ومضمونيّة جمّة، وبالرُّغم من ذلك حصلنا نحنُ القرّاء على كتابيْن يُمكن قراءتهما بالعربيّة دون إحساس بالعُجْمة ودون الحاجة إلى إعادة ترجمة ما نقرأ إلى لغته الأصليّة لكي نفهمَ المقصود.
وبالطَّبع لا حاجة للتّنويه بالأهميّة الفائقة لهذيْن المؤلّفيْن، الأول لفهمٍ دقيق للمصطلح التحليلي (الفرويدي واللاكاني) وتطوُّرِه، والثاني للاطِّلاع على ما يشبه الثّورة في علم النّفس بإعادة البحث في مسائله (كالعدوان، والأنانيّة والإيثار، والتواصل والتعلُّق العاطفي ... إلخ) في ضوء نظريّة التطوُّر الداروينيّة.
هذا بعضُ ما يُمكن قولُه عن مصطفى حجازي، وبعض ما نَدينُ به له. فلا عجب إذًا أن تكرِّمَه هيئةٌ كريمة.
______________________________
تكريم د. مصطفى حجازي
2016/3/15
كلمة التقديم: د. نجاة الصليبي الطويل
أيها الحفل الكريم،
ليس من باب الصدفة ان يقع الاختيار على الدكتور مصطفى حجازي لتكريمه كاحد اعلام الثقافة في لبنان والعالم العربي. ترتكز الحركة الثقافية انطلياس على معايير محددة من التفوّق المهني والبحثي لصاحب التكريم، انطلاقاً من قناعاتها باهمية المؤلفات المنشورة له والتي تعمّم الفائدة على الآخرين وتساهم في اغناء حضارة البلاد وديمومتها، كما تُعلي من قيمة الانسان؛ فيستغلّ "الوزنات" كما في احد امثال الانجيل، لمضاعفتها، لتصبح أهم وأقطع فتفيض خيراً وفائدة على كل طالب معرفة. فمن عرف حق قدر المواهب التي يتمتع بها حماها وطوّرها، مكرّساً وقته وجهوده لتصبح كنزاً عاماً يُعزى للوطن من جهة ولعظمة الانسان من جهة أخرى.
يسعدُني في هذا المساء أن التقيَ معكم حول تكريم الدكتور مصطفى حجازي وهو المجلّ في اختصاصه.
إن بدا لنا علمُ النفس مجالاً ضيّقاً للتحرك في بلادنا، والعملُ به شاقاً غير محدّد الأطر، وشقُّ طريقٍ مختلفٍ وواضحٍ فائقَ الصعوبة، غير انه يصبحُ ممكناً ومؤكداً عند الاطلاع على انجازات د. حجازي وعلى مؤلفاته.
أثبت د. حجازي بمشواره المهني والحياتي ان علم النفس ليس نظرياً صعب المنال والتطبيق كما يتصوّره معظمنا، ربما من جاهلي هذا الاختصاص، انما هو نقطة الانطلاق لتدجينه والاستفادة منه ميدانياً في ممارسةٍ عمليةٍ، ليس في العلاج فقط، وانما في استباق الحالات المرضية، الخاصة والاجتماعية، والحماية منها.
اضافة الى نشاطه العلمي والاكاديمي، وهو طبعاً استاذ مشرف على طلاب الماجيستير والدكتوراه واستاذ زائر في العديد من الجامعات، اهتم بقضايا الطفولة والأسرة والمدرسة وقام بعشرين دراسة في هذا الموضوع، وساهم في حلقات تدريبية ودراسية متعددة حول الاثارة الزائدة وتشتت الانتباه لدى الأطفال.
التفت الى التنمية المجتمعية في مجال رعاية الطفولة والناشئة، في مؤسسات الرعاية الاجتماعية مع الايتام والجانحين. عمل في مراكز رعاية الأحداث غير المتكيفين في فرنسا ولبنان، كما في محاكم الأحداث، وفي مؤسسات رعاية الأيتام وابناء الأسر المفككة (مؤسسات الرعاية الاجتماعية وقرى الاطفال S.O.S). وهو خبير علاج نفساني مدرسي (مدارس المقاصد والفرير – لبنان). رئس العديد من لجان تطوير برامج علم النفس في عدة جامعات عربية (البحرين- الكويت...).
له باع طويل في تدريب العاملين الاجتماعيين والمربين المتخصصين للعمل مع الطفولة غير المتكيفة والناشئة، خبير تدريب وارشاد الأمهات البديلات في قرى الأطفال S.O.S.والمربيات العاملات في مؤسسات الرعاية – بيروت ودمشق. خبير تدريب المدراء ورؤساء الوحدات في مؤسسات الرعاية الاجتماعية وروضات الأطفال – بيروت. كما اقام ورشة مهارات القيادة والعمل في الفريق وأساليب التعامل مع ضغوط العمل ورعاية الأطفال مجهولي الأبوين في لبنان وفي دول ومدن عربية متعددة كالبحرين والمنامة ومسقط ودبي...
لم يستطع المفكّر أن يعزل خبرته عن التنمية الاجتماعية فساهم في مجال التطوير الاداري في مراكز وقطاعات الادارة الحكومية والأهلية والصناعية في كل من لبنان والسعودية- مصر – الأردن – العراق – الكويت- ليبيا – تونس – المغرب- الجزائر. كما كان مستشاراً وخبير تدريب للعاملين في رعاية الطفولة – اليونيسف- لبنان، ومع الاسكوا لغرب آسيا، ومع الأمم المتحدة، ولدى اليونسكو ومع وزارات عربية متعددة كالمملكة العربية السعودية.
شارك في مؤتمرات وندوات متخصصة. له العديد من الدراسات والمؤلفات ونال جوائز عديدة.
مسار حافل في لبنان والعالم العربي: اكاديمي، فكري وميداني.
يشغل بال د. حجازي واقع انساننا فيدرسه ويربطه بالتنمية المجتمعية من خلال توطين علم النفس، كما يقوم بدراسة خصائص ومقومات التنشئة المستقبلية ومتطلباتها لإعداد الانسان العربي المستقبلي، محاولاً دائماً بثَّ روح التفاؤل بمجتمعنا وحضارتنا.
فهنيئاً لك هذا التكريم، فإننا نُكرَّمُ نحنُ بوجود أمثالِك من المتخصصين البارزين والمواطنين المتفاعلين مع مجتمعهم بصورة منفتحة وفعّالة.
________________________________________________
كلمة حفل التكريم
أ.د. مصطفى حجازي
2016/3/15
الحركة الثقافية – انطلياس
أولاً: كلمة الشكر:
الشكر الجزيل لما غمرت به في حفل التكريم هذا من ود ومحبة. الشكر للزميل الصديق الدكتور بكداش على تقديمه المميز حقا، والشكر موصول للأصدقاء الذين تكرموا بتقديم هذه الشهادات التي تستحث همتي لتقديم الممكن من العطاء الذي قد يفيد، والشكر للحضور أصدقاءً وزملاءً ومشاركين. إنها نخبة مميزة من المرجعيات الفكرية والعلمية والمهنية.
ويتوج ذلك كله الشكر للحركة الثقافية – أنطلياس الرائدة في العطاء الثقافي المميز ولجنتها الإدارية التي قررت تكريمي ضمن الرعيل الحادي والثلاثين. إنها إحدى المنابر المميزة في هذا المجال في نوعية أنشطتها وكثافتها، جنباً الى جنب مع منابر أخرى كثيرة. إنها وسواها من المنابر والكفاءات الفكرية والعلمية والأدبية والفنية تمثل جميعاً وجه لبنان المشرق، الزاخر بطاقات الحياة المجددة لذاتها. والشكر أخيراً للزميلة الأستاذة الدكتورة نجاة الطويل مديرة الجلسة على قيادتها الرشيدة.
يملك لبنان ثروة من الكفاءات والقدرات. يقال عن بلاد النفط أنها تملك الذهب الأسود، لبنان كان ومازال يملك الذهب الرمادي Matière Grise (القشرة الدماغية المفكرة والعالمة والمبدعة). وهي أثمن وأكثر دواماً من الذهب الأسود. وحتى أثمن من الذهب ذاته. ويقال أن هناك ذهباً أسوداً في لبنان ولكنه مهدد بالهدر هو والذهب الرمادي بسبب الممارسات السياسية الجارية، وهو ما سيتم التوقف عنده في هذه المداخلة السريعة.
فالبلد لازال حياً، ولكن ليس بفضل السياسيين بل بفضل قواه الحية المعطاءة، ولولا هذا الذهب الرمادي المتجدد والذي لا ينضب، على عكس النفط، لانقرض لبنان منذ عقود.
ثانياً: علم النفس:
قبلاً وبمثابة مدخل للتشخيص ولاقتراح رؤى للعمل لابد من كلمة عن مهام اختصاصيي علم النفس وعلمائه ممن أنتمى إليهم.
علم النفس المتداول راهناً، والذي استوردناه ونستهلك نظرياته وتقنياته هو نتاج المجتمع الصناعي الغربي، وأنشئ لخدمة احتياجاته. وهو كبقية العلوم الانسانية (اجتماع/أنثروبولوجيا/ ليس كونياً كالفيزياء والكيمياء، بل إن نظرياته وتقنياته وممارساته هي بنت مجتمعاتها وتوظف لخدمة احتياجاتها: التشخيص والتصنيف، التعليم والاعداد والتأهيل، التسيير وتوظيف الطاقات، وصيانة الطاقات المنتجة.
لابد إذن من النظر في هذه النظريات والممارسات وتكييفها لخصائص مجتمعنا وخدمة احتياجاته وليس استيرادها وإعادة إنتاجها وتشغيلها في حالتها الأصلية. لابد إذن من توطين علم النفس والتفكير بتأسيس علم نفس بلدي Indigenous. تلك مهمة يتعين علينا القيام بها نحن اختصاصيي علم النفس.
كما أن علينا أن ننكب على دراسة ظواهرنا المجتمعية العامة والخروج من قواقعنا. ذلك ما حاولت القيام به منذ البدء وقدمت فيه بعض الاسهامات: الكتب الفكرية. ولابد أن ننكب وبشكل ملح على دراسة واقعنا الراهن بكل فوراته وتحولاته وممارسات الفاعلين السياسيين، وخصائص لا وعينا الثقافي الجماهيري في علاقته بالزعامات السياسية، وخصوصاً الاهتمام بملف الشباب اللبناني في واقعه المتفجر. إنهما القضيتان التي سألمح إليها في هذا المقام.
ثالثاً: الشباب:
الشباب ظاهرة معاصرة. قديماً كان يتم الانتقال من المراهقة الى الرشد خلال مدة زمنية قصيرة. لدينا علم نفس طفولة ومراهقة وعلم نفس راشدين، أما الآن فتبرز محلياً وعالمياً ظاهرة الشباب التي تشكل كتلة متزايدة من السكان وتطرح اشكالات حامية مع تزايد الوعي لدى الشباب من ناحية، وتزايد طول مدة الدخول في الأهلية الاجتماعية الكاملة (تعليم وإعداد مهني، دخول سوق العمل، تأسيس أسرة، ومشاركة في الشأن العام) من الناحية الثانية.
ولابد لنا بالتالي من إنشاء علم خاص بالشباب متعدد الاختصاصات وتكاملها: علم نفس، اجتماع، أنثروبولوجيا، علوم معلومات واتصال، اقتصاد وسياسية واعلام.
الشباب هو بالتعريف تجديد الحياة لذاتها وتجديد طاقاتها الوثابة. وهو الرصيد الاستراتيجي المستقبلي المضمون، وهو قوام كل بناء ونماء وتجديد. من خلال الشباب الحياة تجدد بذاتها. وهي بالأصل تقوم على قانون النقض وصولاً الى التجاوز، مما يضمن تفتح آفاق المستقبل.
الحياة تجدد طاقاتها الحية من خلال قتل الأب رمزياً بمعنى النقد والنقض والتجاوز للسلوكات والعلاقات والعلوم والتقنيات. التقنيات الحديثة (المعلوماتية والاتصال على سبيل المثال) تنقض التقنيات السابقة، وأبطالها هم الشباب تحديداً (بيل غيت وزوكر مثالاً وسواهم) العلم يعرف طفرات متسارعة في مختلف مجالاته بفضل ابداعات الشباب وخروجهم عن المألوف والمعتاد.
أما في لبنان والعالم العربي عموماً فإن الآباء يقتلون الأبناء (يخنقون طاقات الحياة المتجددة). ذلك ما يفعله سياسيونا المتجذرين المعتقين في مناصهم. إننا بصدد هدر الشباب بسبب ممارساتهم. هدر النخب المتميزة علمياً ومهنياً من خلال ظاهرة التهجير المكثف للنخب الشابة عالية الاختصاص. أشبه ما يكون لبنان على هذا الصعيد بمشتل ينبت شتولاً منتقاة ولكن حين يأتي وقت غرسها كي تثمر لا تجد، على الأغلب، سوى أرضاً جدباء قاحلة طاردة. ويتلقف أميركا والغرب وسواه هذه الشتول فيغرسها ويستثمرها بعد أن يكون الأهل والاقتصاد الوطني دفع كلفة حسن إعدادها الباهظة.
إنها أكبر خسارة مستقبلية تصيب لبنان. مردودها المالي الذي يتباهى به اقتصادنا أقل مما يمكن أن يكسبه البلد فيما لو وظفت واستثمرت طاقاتها وعطاءاتها فيه، تبعاً لقول صديقنا عالم اقتصاد التنمية د. نجيب عيسى.
طبعاً هناك هدر شباب الشريحة الوسطى وطاقاتهم من خلال الوقوع في البطالة ذات الأرقام المقلقة (25% جلهم من الشباب).
وهناك هدر شريحة الشباب المحظي من خلال رضاعة التسلية والاثارة وفرط الاستهلاك واستعراضاته إضافة الى تسطيح وعيه.
وهناك أخيراً هدر شباب الظل المحروم منذ البدء من فرص الصحة والرعاية والحماية والتعليم والثقافة (حرمانات خمساً). وهو الذي يشكل جل وقود العنف والتطرف تبعاً لصيغة كنا أطلقناها منذ زمن: شباب الظل وقود العنف. وبالتالي هناك تحول لبنانياً وعربياً من قتل الأب (تجديد الحياة لذاتها) الى قتل الأبناء (تأزيل سلطة الكبار وحجرهم على المقدرات).
ليس الشباب وحده هو من يهدر، بل كذلك الشريحة الكبرى من النخب الفكرية والعلمية والمهنية، غير المرتهنة لسلطة الزعامات العصبية، هي التي تتعرض للهدر بدورها من خلال تهميشها. من خلال: قولوا ما شئتم واكتبوا ما شئتم ونحن نفعل ما نريد. الطاقم السياسي المتمرس في مواقعه صار خبيراً بفن التزحيط الناعم لكل كلام أو احتجاج أو حركة معارضة (بدنا نحاسب نموذجاً). ليس هناك من جدوى لجل الكتابات والدراسات التي تنفذ. وليس هناك من جدوى لكل أفكار الخبراء المخلصين لبلدهم والتي تقدم لحل مشكلاته ومعضلاته (النفايات نموذجاً). كل ذلك وصولاً الى الارغام على الاستزلام أو على الأقل الانضواء تحت عباءة ذوي النفوذ السياسي.
ليست الكفاءات وحدها هي التي تهدر ولا يعترف بالأساس بإنسانيتها وحقوقها ومواطنيتها، بل إن الوطن وكيانه كاد يتم هدره. يتمتع لبنان بدستور وقوانين ونظم إدارة وسياسة متقدمة. إلا أنه تم إبطال مفعولها، من خلال قوانين ودساتير خفيه ضمنية هي التي تحرك اللعبة السياسية وإدارة البلد. وحين يتراخى الإطار الكياني الجامع ويتم إبطال سلطاته القانونية تبرز العصبيات السياسية (الطائفية والمذهبية والمناطقية) ويعود الكيان الى حالة بداوة ما قبل الدولة الجامعة.
رابعاً: العصبيات السياسية:
ألا يذكرنا المشهد السياسي اللبناني الراهن بالبداوة وقبائلها المتصارعة والمتنازعة على النفوذ وفرض الغلبة والاستئثار بالأرض وخيراتها؟
من الشائع القول بأن لبنان تحول الى مزرعة لذوي النفوذ السياسي على اختلاف مشاربهم. ونحن نقول ليته يعامل من قبل هؤلاء بمثابة مزرعة. فالمزرعة أنت بحاجة الى أن تخدمها كي تعطيك موسمها، وإلا فلا قطاف. وقيل لنا ولكن ما هو عليه الحال إذاً؟ فكنا نردد القول لقد تحول لبنان الى مرعى في بادية لا يحتاج الى خدمة. وتحولت الزمر الحاكمة الى قبائل تتقاتل على الكلأ والماء. كل قبيلة تحاول، تبعاً لقوتها، أن تحصل على أفضل مناطق الرعي وعيون الماء لرعاية قطعاتها. وإلا فما معنى قضاء كل هذا الوقت لتأليف أي حكومة جديدة نتيجة للصراع على وزارات الخدمات (المراعي الأكثر خصوبة وماءً)؟ وعندها تتحول الوزارات الى مضارب بني تميم ومضارب بني هلال، حيث يتم التعامل معها من قبل رئيس العشيرة التي يشغلها بمثابة ملكية خاصة. وكل قبيلة تترك قطعانها ترعي وترتوي بقدر ما تتمكن وتستطيع.
ليس هناك متسع في هذا المقام للخوض في تحليل علم نفس العصبيات وبنيتها وآليات عملها. فذلك يتطلب بحثاً بذاته يتوسل المنهج الخلدوني في دراسة العصبيات، والذي نعتقد أنه الأصلح لفهم واقعنا السياسي الاجتماعي؛ إذ تبقى المقاربات الماركسية والرأسمالية فوقية لا تمس العصب الحي للموضوع.
نقتصر على القول بعجالة، بأنه عندما يتراخى الكيان الوطني الجامع فإن ما يبرز هو العودة الى الانقسامات العصبية السابقة على قيامه، على اختلاف مسمياتها، مما هو جار حالياً في البلد. العصبية أياً كان لونها توفر الحماية والمغانم لأعضائها لقاء الخضوع لشيخ العصبية (الزعيم السياسي) والانتماء والولاء المطلق لها وله، بناء للمعادلة التي درجنا على تكرار قولها في هذا الصدد: تخضع = ترضع. أن تنتمي وتتعصب وتفدي الزعيم "بالروح والدم" تبعاً للهتاف الشائع، فتحظى بالحماية ويطلق لك العنان برعاية المغانم (مما يسمى الفساد على ألوانه). وتحاسب على الولاء للربع وللزعيم وليس على الأداء أو السلوك. إذا كنت محمياً ومسنوداً لا تقرب إليك محاسبة قانونية، أو تفتيش، وتظل محمياً طالما أثبت ولاءك.
وتقوم لعبة خبيثة تتمثل باقتسام مغانم المرعى من خلال ارتهان الطوائف وأبنائها لسلطة الزعيم. من هنا السؤال الذي تواجه به عندما يكون لك أمر تقضيه في أحد إدارات الدولة: أنت من حصة من؟ ومن هو واسطتك؟ وإذا لم تكن كذلك فلا أمل لك بتحقيق حاجتك، وأخذ نصيبك المستحق موضوعياً.
ولا يقتصر الأمر في سيكو- سوسيولوجية العصبية عند هذا الحد، إذ يتدخل هنا الموروث الثقافي كي يعزز بنية العصبية وتأزيل زعامتها. حيث تتحول القيادة السياسية الى زعامة، وتتحول الزعامة من ثم الى سلالة حاكمة بالتوارث. فمن كان له دور اجتماعي/اقتصادي/سياسي/خدماتي في مجتمعه يصبح نائباً يؤدي الخدمات لربعه أساساً، وتتكرس نيابته وبالتالي زعامته نائباً طوال العمر، ومن بعده يورث ابناءه بالتدريج من خلال اشتغال مخيال السلالات الحاكمة. وتصر الجماهير على تحول الزعامة الى سلالة حاكمة بالتوارث من خلال اشتغال الموروث الثقافي للإمارة والملكية. وينبني بذلك نظام يزداد ترسخاً من التوقعات بقوة العصبية وعزوة زعامتها وأَمْثَلَةْ هذه الزعامة من خلال رفعها الى مرتبة التقديس أحياناً، حيث يعتبر أي مساس بها أو نقد لها من قبيل المحرمات التي تجابه بالعنف. وبمقدار ترسخ الزعامة وعلو شأنها يتعزز شعور أعضاء العصبية بالقوة والمنعة والعزوة والرفعة تجاه العصبيات الأخرى المنافسة، والتي يتم الحط من شأنها.
هذه الانتماءات العصبية تجعل من الانتماء الى الوطن مسألة شكلية محض، حيث تحل الهوية العصبية والولاء لها محل الهوية الوطنية والولاء لها. أليس مما يلفت النظر تكرار استخدام تعابير الشراكة في الوطن، والميثاقية وحقوق الطوائف؟ هل ترد مثل هذه التعابير على لسان السياسيين في البلاد ذات الكيان الراسخ؟ ألا تُذَكِّرْ هذه المفردات بالتوافق بين القبائل ومواثيقها والتفاهم على مناطق النفوذ؟ وهل هناك في البلاد ذات الكيان الوطني الراسخ طاولات حوار لا تتوافق على شيء وإنما تذكر بتجمعات ممثلي القبائل؟ وهل هناك لجان لا يتجاوز همها سوى الحفاظ على المهادنة؟ أين الوطن وكيانه وإطاره الجامع في كل ذلك؟
وهكذا هو حال اللقاءات التلفزيونية المتكاثرة على مختلف القنوات، والتي تتحول الى سجالات حوار طرشان. هل رأى أحدكم مرة أو أكثر طرفاً استطاع اقناع الطرف الآخر، أو اقتنع بوجهة نظره. أم أنها تحولت الى تكرار شعراء القبائل ومساجلاتهم: مديح القبيلة الذاتية وهجاء القبيلة الخصم؟ سياسونا هم أقرب ما يكونون في ممارساتهم الحالية من بدوٍ يلبسون بدل لانفان أو Signe. هذا كله لا يعدو كونه الوجه المظلم من كياننا الوطني، إنما لابد من التأكيد على وجهه المشرق.
خامساً: وقفة ودعوة:
لبنان يذخر بالطاقات الحية والكفاءات على اختلافها. ذلك ما يشكل درعه الحصين ورصيده الاستراتيجي الذي يتعين تنميته وتثميره، ولا مجال للتشاؤم على هذا الصعيد، وإنما العمل على إيقاف نزيف الذهب الرمادي.
لابد من رفع الصوت عالياً وتحذير السياسيين من أخطار الشطط في تأجيج عصبياتهم التي تهدد الكيان الوطني بشكل جدي، وخصوصاً مع ما يجري في المحيط من تفتيت للكيانات الوطنية وهدر طاقاتهم (العراق، ليبيا، سوريا، اليمن). وليس من حماية للبنان مع استمرار هذه اللعبة السياسية إلا باستعادة الكيان الوطني الجامع.
لابد من قيام الكفاءات الفكرية والعلمية والمهنية بدورها النشط. ورفض ترك الساحة للعبة السياسية المهددة للكيان. فإمكانيات الفعل لازالت قائمة، ولا بد من ابتداع وسائلها من خلال التفكير الإيجابي والإصرار والمثابرة. ولدينا في ذلك نماذج تحتذي في تجربة بعض المشاركين في هذا اللقاء.
لابد من قيام الاختصاصيين في العلوم الانسانية على اختلافهم من تكوين فرق بحثية متعددة الاختصاصات للقيام بمشاريع دراسة ظواهرنا الاجتماعية والسياسية وسواها، وكشف مضامينها وديناميتها والقوى الفاعلة فيها، وصولاً الى تخطيط مسارات التعامل الفاعل معها من خلال إبراز القوى الحية وتثميرها، ووصولاً الى تغيير الموروثات الثقافية المعيقة للتنمية.