نظمت "الحركة الثقافيّة- أنطلياس" ندوة تحيّة للمؤرخَين الأخوين الدكتورين عادل ومنير اسماعيل، اللذين غابا في بحر العام الماضي، وشارك في إحيائها العميد الدكتور أحمد حطيط، والدكتور الياس القطار، والدكتورة سعاد أبو الروس سليم، وأدارها الدكتور أنطوان ضومط.
رحّب الدكتور ضومط بالحضور قائلاً إنالحركة الثقافية -انطلياس درجت على تكريم أهل الفكر وفاءً وتقديرًا لهم. فتكريم المثقف المبدّعهو اجلال للفكر. واعتبر أنّ التكريم الذي تحتفل به مؤسسات المجتمع المدني يظلّ أفعل من نظيره الرسمي. وذكر أنّ المؤرّخَين تركا عددًا وافرًا من المؤلفات يتمحور معظمها حول تاريخ لبنان الحديث والمعاصر، وتشاركا أحيانا بإصدار المؤلفات معًا. ولم تكن مهمتهما سهلة. فعلى المؤرّخ أنّ يتبحر بالوثائق والاصول والمصادر لإعادة رسم الحدث لا إعادة تكوينه تبعا لأهوائه وميوله. وترك الكلام للعميد أحمد حطيط والدكتورين سعاد ابو الروس سليم والياس القطار لإلقاء الضوء على بعض من سيرة المغفور لهما ومؤلفاتهما ودورهما التأريخي.
فتناول الدكتور الياس القطار في كلمته سيرة الدكتور عادل اسماعيل من خلال مؤلفاته ومن معرفته وصداقته معه. وذكر أنّ هذا المؤرّخ منذ بداياته الثقافيّة، اعتنق مفهوم الكيان اللبنانيّ من دون إكراه أو غاية، قادته إليه ثقافته العقلانيّة فعمل على إبرازه من خلال الوقائع التاريخيّة. وكان لبنان أحد المحاور الرئيسة في كتاباته، فترك في الفرنسية كتابًا من أربعة أجزاء بعنوان تاريخ لبنان من القرن السابع عشر إلى اليوم. وهو ينظر إلى لبنان على أنّه يشكّل خصوصيّة قديمة منذ خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. ففينيقيا برأيه هي غير الحضارات الأخرى المجاورة. ولم يخجل من اعتبار لبنان ملجأ للأقليات المضطهدة. وهو يعتبر بداية الكيان اللبنانيّ كانت مع فخر الدين المعني الثاني الذّي كان أول من سعى لوحدة لبنان المستقلّ الحر. ويٌستشفّ من هذا الأمير ما يتمنّى أن يكون عليه الحكّام في لبنان. وكتب الدكتور عادل لكلّ اللبنانيين بدون تفرقة طائفيّة، وهو أوّل مؤلّف يكتب بصورة أكاديميّة جديّة عن لبنان ، وقد سبق المؤرّخ الشهير فيليب حتي بسنتين. ويضيف الدكتور القطار أنّ الدكتور اسماعيل لقّح التراث التأريخيّ اللبنانيّ والعربي بمناهج البحث التاريخيّ المبني على النقد والتقميش الجيّد والخلاصات التحليليّة والعرض العلمي الدقيق الموضوعي. فيروي قصته برشاقة بدون تكلّف، فالتاريخ عنده جزء من الماضي ومن الماضي فقط. ويبقى همّه الأوّل بناء وطن يقوم على ترصد الترقيّ العلميّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والحضاريّ، وطن يقوم على التسامح والحريّة.
أمّا عميد كلية الآداب في الجامعة الإسلاميّة في لبنان، الدكتور أحمد حطيط فقد تناول سيرة الدكتور منير اسماعيل، فأضاء بعضًا من جوانبها وأشاد بشخصيته المميّزة: فهو كريم المعاشرة، ووفيّ لجامعته اللبنانيّة ولعمله الأكاديمي وبحوثه ويتميّز باتساع ثقافته. فهو أستاذ لامع، ومحاضر غزير الانتاج، نشر كتبًا قيّمة وبحوثًا مميّزة ودراسات تجمع بين دقّة التأريخ، والأدب الرفيع. ولم يعتبر قط أن التعليم مجرّد مهنة بل رسالة، وعمل جاهدًا على بثّ الروح الجامعيّة في نفوس الطلاب، فبرأيه مهمة الجامعة هي النهوض بالثقافة العليا وإيقاظ الروح العلمية. وذكر الدكتور أحمد حطيط بعضًا من مؤلّفات الدكتور منير: "تاريخ لبنان من العهد القديم حتى اليوم"، و" تاريخ لبنان" و"الصراع الدولي في المشرق العربي" بالإشتراك مع شقيقه عادل، وأزمة الفكر اللبنانيّ في كتابة التّاريخ. وتوقف عند ثلاثة جوانب في رحلة الدكتور اسماعيل أولها موقفه من أزمة كتابة تاريخ لبنان حيث شعر أن معظّم قضايا تاريخ لبنان لم تنل بعد حظّها من الكتابة العلمية. ثمّ موقفه في الدراسات التي أرّخت واقع لبنان قائلا إنّها ليست موضع ثقة تامة، فهي تختلط أخبارها بالأساطير والتصورات. وثالثًا انفتاحه على الحضارة الغربية نظرًا لما فيها من جوانب نافعة. وختم الدكتور حطيط كلمته معتبرًا أنّ الدكتورين عادل ومنير اسماعيل كانا في طليعة المؤرّخين اللبنانيين العرب المحدثين الذين أخضعوا البحث التاريخي للواقع بغية استنباط ما ليس مذكورًا في الكتب لمكافحة الاستنتاجات المغلوطة.
أمّا الدكتورة سعاد أبو الروس سليمفشملت بحديثها المؤرخَيّن معًا اللذين نادرًا ما انفصلا في حياتهما الخاصة وفي مسيرتهما العلميّة، معتبرة أنّ الحديث عنهما يعني الحديث عن لبنان القديم قبل الحرب. فهما مثل لبنان، عصاميان، معطاءان، وطنيان، يوليان العلم أهميّة كبرى. فقد نالا شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون، ولكنّ هذه الشهادة لم تكن نهاية المسار البحثيّ عندهما على الرغم من ان عادل نالها في سن السابعة والثلاثين، ومنير في السابعة والخمسين بل كانت منطلقًا للخوض في مجالات أبحاث عدّة. وفي كلمتها ذكرت كيف انخرط الدكتور عادل في السلك الدبلوماسيّ بعد أن اعطاه الرئس فؤاد شهاب حريّة اختيار الوظيفة التي يريدها في الدولة لأنّ الطائفيّة في طائفته وطائفة أخرى منعته من تبوؤ منصب مدير عام في وزارة التربيّة. وشدّدت على أهميّة كتاباتهما التاريخيّة وبصورة خاصة كتاب عادل: "ثمانون" المخصص للحرب اللبنانيّة، والذي يسجّل فيه كلّ تحذيراته للمسؤولين العرب والأجانب من اندلاع الحرب في لبنان، ويسرد بعد ذاك أحداثها، ولكنّه لا يزعج القارئ نظرًا للنوادر التي ينقلها بتهكّم مرير عنها. فكلا المؤرخيّن كانا مولعين بالنكات. وختمت كلمتها شاكرة "الحركة الثقافيّة" لاحيائها هذه الذكرى الغالية، مشيرة إلى أن لا فرق بين عالم الأحياء والأموات إذ إنّ كتبهما ستبقى مرجعًا في متناول الجميع.