مقالة الدكتور جورج فيليب زخور بمناسبة حفل تكريم البروفسور إبراهيم فضل الله
في الحركة الثقافية – انطلياس
تاريخ 3/6/2020
حضرة الرؤساء القضاة،
أصحاب المقامات الفكرية والثقافية،
أيها الحفل الكريم،
بينما أنا هامٌّ بالدخول إلى مبنى الجامعة العريقة Panthéon-Assasفي باريس، يوم مناقشة أطروحتي في القانون، وإذ بسيارة ٍ تتوقّف، وينزل منعن المقعد الخلفيّ، رجلٌ ذو سلطان، تقف الشموس على حدود جبينه، وتتلألأ على رأسه أكاليل الغارِ، وفي عينيه يسطعُ نورٌ سخيٌ، وتزيّن صدره الرّحب أوسمةٌ رفيعةٌ غالية.
ورُبَّ سائلٍ يسأل: من هو هذا الذي يرتدي ثياب المعرفة، ويتأبّط العلم في تنقّله، ويتّكأ على عصا فضّية هي أشبهُ بالصولجانْ، وساعةَ يمشي تهتَزُّ الأرض تحت قدميه؟
فأجيب: إنّه البروفسور إبراهيم فضل الله، جوهرة تاج المملكة القانونية، ولؤلؤة التحكيم الدولي، ومُجدّدُ أُطُرِ القانون الوضعيّ، وباعث الروح في النصوص الساكِنَة، ومحدّث القواعد المفسّرة للاجتهاد، وراصف درر الفِكرِ في الفقه المعاصر. فمن سماء الليالي المقمرات، يقطف النجوم تباعاً، ليضعها نقاطاً ماسيّةً، على حروف الكلمات القانونية المذهّبة. ومن خُدْرَةِ الليالي العاصفات، يُدني كلّ شهابٍ بارقٍ، أو شعاعٍ تائهٍ، ليضيء النصّ القانوني الغامض أو البند الاتفاقيّ المختلف عليه.
وكأنّي بِهِ، من خلال مسيرته القانونية المظفّرة، وبعد أن وصل الليل بالنهار، بل الفصل بالفصل، قد عبرَ إلى أرفع مراتب القانون والتحكيم، فصاغَ موادها صياغةً راقيةً، وشرح نصوصها، وفنّد تطبيقاتها الشتّى، وأحاطَ اللّثام عن غُموضها، ومَنَحَ مضامينها المعنى المناسب بحسب طُرُقِ التفسير وأساليبه، حتى أصبحت خلفه قِمَمٌ من المجدِ، موشّاةٌ بالتِبْر والعسجد، كتب عليها بمداد الفخر ( اسم البروفسور إبراهيم فضل الله) بأحرفٍ من ذهب، وسطّر على سفوحها، مقالاتٍ قانونيةٍ خالدة، لا يَقدرُ الزمن أن يسدل عليها ستارهُ، لأنّها جواهرٌ نفيسةٌ، لا يخبو ضياؤها، ولا يخفتُ نورها، ولا يتلاشى سِحرها بفعل الأيام أو السنين.
وقد عاينت قُدرة البروفسور إبراهيم فضل الله، في سبر أغوار النصّ القانونيّ، والبند الاتفاقيّ بمهارةٍ فائقة، وخَبِرتُ مزاياهُ الفكريّة الباهرة، وإبداعه الرائع في تطوير المبادئ القانونية، وقواعد التفسير والأصول، بعد ان تفضّل وشاركَ في اللجنة المشرفة على أطروحتي.
فأُتيحَ لي أن أكون بالقُربِ منهُ، خاصةً في فصل الصيف، حين كنتُ أقوم بزيارتهِ في دارتهِ في بعبدات، وأنهَلُ من منابعَ فكرِهِ، ومن حكمتهِ الوافرةِ الوارفةِ الأغصان فيقودُني نحو النجاح، مُسَدّداً خُطايَ، مُقيلاً عثراتي، مزوّداً إيّايَ بإرشاداتهِ القيّمة، مُثنياً على جهدي ومثابرتي وثباتي الجادَّ والمضني، واضعاً بالنهاية أطروحتي على الطريق الصحيح.
وقد علّمني ايضاً، حُسْنَ مقاربة المسائل الشائكة، في ضوء المنطق العلميّ السليم، الذي لا يعترف بالميول الذاتية، أو العواطف الشخصية، أو الأهواء المتقلّبة، بل يهتمّ بالسعي إلى الوصول إلى الحقيقة القانونية المجرّدة، عن طريق البحث العلمي البحت، حيثُ لا محاباة ولا مواربة ولا مجاملة ولا مداراة، بل اجتهادٌ وعناءٌ وشغفٌ بعالم القانون والتحكيم.
وبفضل وَزَناتِهِ الكثيرة، التي كنتُ شاهداً عليها على مدى سنوات، ومقتبساً منها، غدا البروفسور فضل الله، أستاذي ومعلّمي، رايةً خفاقةً في فَلَكِ القانون الدولي، ومرجعاً إلزامياً من مراجع التحكيم، وطوداً شاهقاً من اطوادِهِ. كما أضحى، فخرُ لبنان في فرنسا، بل وفي أوروبا والعالم أجمع، ومصدرُ إِلهامٍ لكلِّ باحثٍ في القانون أو التحكيم.
وهكذا، لقد أنشأ البروفسور فضل الله، مرافئ فكريّة وقانونيّة، ترسو فيها مراكبُ درّيَةٌ ذهبيةُ الأشرعة، وأقام أسواراً، تُرَصِّعها يواقيت القانون الفريدة، وبنى القصور الساحرة القائمة على أُسُسِ العدالةِ والحقّ، والقيم الانسانيّة الكبرى، والمُثُلِ الأخلاقية العليا.
لقد كنتُ بالفعل وافِر الحظِّ، وسعيداً في آنٍ معاً، عندما قُيّضَ لي أن ألتقي بهذه القامةِ القانونيّةِ الشامخة، صاحب الفضائل الفكرية الوازِنة، الفقيه الذائع الصّيت، الذي شرّفني ودعاني لإلقاء هذه الكلمة في حفل تكريمه.
وفي هذه المناسبة الجليلة، أتوجهُ إليه، من على هذا المنبر، بأسمى آيات الشّكر والتقدير وعُرفانِ الجميل.
وإنّي ما حَييْتُ، لن أنسى فضلهُ عليَّ.
الدكتور جورج فيليب زخور