تكريم الروائيّة علويّة صبح
كلمة الأستاذ جورج أسطفان مدير اللقاء
في تكريم الروائية علوية صبح خلال فعاليات المهرجان اللبناني للكتاب
4/3/2023 في الحركة الثقافية-أنطلياس
كان ذلك قبل الضَياع. قبل انهيار القيَم وموت الضمير. قبل الهويات القاتلة (لا أشير هنا الى عمل أمين معلوف). قبل الغرق كلياً في مواخير السياسة وعرض الوطن والمواطنين للبيع بأبخس الأثمان في أسواق النِخاسة وعلى أبواب السفارات. يومها كان الأمل ما زال يلمع، ولو كقشة تبنً في حظيرة Verlaine وثبات العبقرية في مركب ريمبو التائه، وتعددية مقاربة التحولات في شعر أدونيس، ونوستالجيا جماهيرية قصائد محمود درويش وكل ما نُسج حول "القضية"، والرومنسيات الممسرحة حول بطولات مكبوتة في أميركا اللاتينية و"غيفاريات" أخرى. كانت أفكارنا اليسارية الحقة تقود خطانا بثبات، بعيداً من "ثورجيات" الجهل والتهوّر.
لم أكن يومها أشك، في خضم البناء الصعب للجامعة اللبنانية وقيامها، والمتقدمة بقوة على شهرة غيرها من الجامعات الخاصة، بعزم طلابها ونضالهم، والتي دخلتُها مع مجموعة من المغامرين "نكاية" بالجامعات الخاصة وما كان يحكى عن انتماءاتها، لم أكن أشك في ان مخططات تُحضّر لإيقاظ غرائز نائمة، نجح المخططون في إشعالها ولو رويداً. ولم أكن على دراية مثلاً، ان علوية صبح قد تكون أكثر من لبنانية فقط، أي مسلمة شيعية، بل وأن أكون أنا شخصياً، أكثر من لبناني فقط، أي مسيحي أنتمي الى طائفة الروم الملكيين الكاثوليك.
هكذا التقينا، صديقتنا المكرّمة وأنا، في كلية التربية، في تلك الأجواء المفعمة بالأمل والتناقضات. هكذا لفتني سريعاً حسها الفكاهي وخفة ظلها، "على رغم" انتمائها، في ذلك الوقت، الى أحد الأحزاب اليسارية الذي كان، في نظر الكثيرين، "البعبعَ"، لكن المتربصَ لوحده، في رأي آخرين، بتجاوزات الإمبريالية العالمية في سعيها الى السيطرة على العالم. ولم أكن أنظر يومها او آبه، الى ان علوية صبح ستكون، في المستقبل، أكثر من أستاذة للغة العربية وآدابها، او الإنكليزية ربما. تأكدت لاحقاً أنني لم أكن أعرفها جيداً.
فرّقتنا الحرب، وكان ليلٌ طويلٌ طويل. ثم جاءت الصحافة التي انتميت اليها ولم تكن في الأصل هدفي المنشود. بدأ إسم علوية صبح يظهر في يومياتنا، من نصوص قصصية في البداية أيقظت الأيام من نومها (نوم الأيام)، ، تزامناً مع عملها الصحافي في الصحف والمجلات ( النداء، النهار، الحسناء...)، لتتوالى الأعمال الإبداعية وصولاً الى الشهرة العربية والعالمية. فكانت "مريم الحكايا" مفصلاً في الرواية العربية الحديثة، ثم "دنيا" و"اسمه الغرام" و"ان تعشق الحياة"، وأخيراً وليس آخراً، "افرح يا قلبي".
لن أستعرض هنا انجازات علوية صبح ومآثرها، وتألقها ومشاركتها في مؤتمرات دولية، وتكريمَها في الكثير من الدول والمناسبات، وترجمة رواياتها الى لغات عدة في بلدان متعددة، بخاصة أوروبية، وفوزَ عدد من رواياتها في لوائحَ لجوائز عربية ودولية، ونشاطاتها المستمرة حتى في أصعب الظروف، فهذا كله منشور في كتيّب تصدره الحركة الثقافية عن المكرّمين. وكذلك في منشورات عدة عن سيرتها الذاتية ونتاجها الأدبي، إن في الصحافة او في الرواية او الدراسات النقدية. وسأترك في المجال النقدي والتقديمي المفصل، المجال للصديقة الأديبة والصحافية مايا الحاج للخوض أعمق في عالم علوية صبح الروائي. وحسبي ان أكون هنا هذا المساء، في هذا اللقاء المستعاد، لتكريم هذه السيدة المثقفة، المبدعة والمتعددة، الجريئة الخارجة عن نطاق ما اعتدناه من الأديبات والروائيات في عالمنا العربي، الخارجة عن المألوف في عاداتنا وتقاليدنا المألوفة.
وأزيد. لا يمكن ان تطغى رواية من روايات الصديقة الأديبة المكرمة اليوم، على مجمل نتاجها. لا يجب ان تكون "مريم الحكايا" "الروايةَ - الفصل"، انها حلقة من سلسلة روايات هي مثابة أعمال أدبية بارزة، تتداخل فيها النصوص في ما يسميه الفرنسيون Intertextualite'، للحرب وما أنتجته من مآسٍ وجود واضح فيها، ولطليعية الأديبة أثر مبهر. أما المسرح فهو الحياة وما حولها وما ثبت من العادات اليومية في اللاوعي المحرّر او الوعي المكبوت، من مكامن قوة الى بروز مراحل ضعف يلامس الانهيار.
أثْرت علوية صبح الأدب العربي، والعالمي عبر ترجمة أعمالها، بنقاط قوة اعتُبرت طويلاً نقاط ضعف في الأدب والرواية العربيين، خصوصاً لدى الأديبات والروائيات. وكان لمهنيتها وملكتها الفريدة ربما للغة وإدارة الحبكة والتجديد في تناول المواضيع الكثيرة والحساسة عادة، مكانة أكيدة في ما وصلت اليه، على رغم العقبات.
كم نحن بحاجة اليوم، الى لقاءات مماثلة، تبعدنا عن قهرنا اليومي الذي أوصلنا اليه من هم مؤتمنون علينا وعلى هذا الوطن. ولا شك في ان الثقافة والكتاب، مفتاحان للخروج من الجهل المدقع الذي نحن سائرون اليه، بجهد من وُلّيَ علينا، فاستباح الوطن واستباحنا، ولم يعد من مجال للقول، كما اعتدنا القول لأنفسنا مرددين ومُعزّين:
للفقر قلنا استرح للمستبد أشح غداً على الرمل لا يبقى سوى الدِمنِ
نتاج علوية صبح، وهي شخصياً، يستحقان حلقات دراسية موسعة. ما أضافته الى الرواية والأدب والثقافة، يحتاج أكثر كثيراً من جوائز واستضافات. وليس هذا اللقاء التكريمي، الذي أرادته حركتنا الثقافية ضرورياً لإثراء هذا النشاط الثقافي السنوي، الا عربون محبة يكون مدخلاً للقاءات أخرى، بعيداً من عالم الأضواء والجوائز والأوسمة.
أهلاً بكِ أيتها الصديقة، اليوم ودائماً، في الحركة الثقافية- أنطلياس.
__________________________________________________
كلمة عقل عويط
السيدات والسادة،
صديقتي علوية،
أيها الجمع الكريم،
يؤلمني أنْ يحدث هذا التكريم المستحقّ، وأنا لا أتمكن – لأسباب خاصة - من تقديم هذه الشهادة بنفسي، بصوتي، بحضوري، وبكامل كياني، لأقول لكِ، يا أختي وصديقتي وكاتبتي علوية صبح، كم أنّ أعمالكِ الروائية طليعيّة وخلّاقة وجوهريّة ورائية.
وهي كذلك لماذا؟
لأنّها تنبثق من أحشائكِ ومن أحشاءِ مجتمعكِ وناسكِ وبلادكِ وأرضكِ، ولأنها تجد مبتغاها ومداها في مواهبكِ الجمّة وثقافتكِ العميقة، وقدرتكِ على الربط بين الخاصّ والعامّ، حتى لتبدو هذه الروايات ملاحم تؤرّخ للحياة وللمجتمع، بقدر ما تخلق عوالم فذّة ، تجعلها من صنوف الروايات القادرة على أنْ تكون ملك العالم.
يؤلمني أن المعايير النقدية مهتزة، وأن الحقوق – حقوقَكِ – شبه منهوبة.
كم تستحقين كامرأة وكاتبة، بل كامرأةٍ روائيةٍ حرّةٍ سيّدةٍ مستقلّة، ذات تفرّدٍ ساطع، مشغولة بقضايا وهواجس تختص بالفرد وبالجماعة، مضمّخة ومضفورة بالآلام والأوجاع والمرارات والهزائم والخيبات والطموحات والأحلام والثورات...
كم تستحقّين أنْ تُعقَد من أجلكِ، ومن أجل رواياتكِ، الطاولات والندوات والمؤتمرات والدراسات، لتمكين هذا الأدب الحقيقي من أن يأخذ حقه في الوصول إلى أيدي القراء وأهل الجامعات، إلى قلوبهم وأرواحهم، ومن أن يُقرأ كما يستحق أن يُقرأ، تحت شمس النزاهة النقدية والتحليلية المطلوبة.
كم تستحقين ذلك وغيره كثير.
لماذا؟
هذا كلّه لأنكِ، في الأساس وفي الجوهر، امرأة صادقة، وكاتبة صادقة، وحقيقية، ولأنكِ موهوبة، ومتمرّسة، وخبيرة، ومتمكنة من النفاذ إلى البواطن إلى الأعماق، إلى المناطق المعتمة والمنسية والمهملة والمسكوت عنها من الذات الفردية والجماعية، لالتقاط ما لا يُلتقَط، وللتعبير عمّا لا يعرف كثيرون أنْ يعبّروا عنه، بمَلَكاتكِ ومواهبكِ الكثيفة.
وها هنا تكمن فرادتكِ يا سيدتي يا آنستي يا كاتبتي الرائعة.
وإذ يُطلَب من النقد الأكاديمي والأدبي والإعلامي أن يقوم بدوره المتعدد، فمن أولى واجباته أن يكشف النقاب عن طبائع عملك الروائي، عن نوعه، عن مقوماته، في اللغة، في الشكل والأسلوب والبنية والرؤية والمقاربة، وفي الموضوع، وعن مساهمتكِ العميقة في استجلاء بواطن هذه الروايات، وأعماقها وخصوصياتها، وفي إبراز الإضافات النوعية التي تؤرّخ روائيا وفنيا وثقافيا وانسانيا واجتماعيا لمكانتكِ، ولمرحلة مهمة من حياتنا ومجتمعنا وأدبنا.
أغتنم هذه الفرصة، لأدعو إلى مؤتمرٍ بحثي حول أدبكِ يضمّ نقاداً وأساتذةً وأكاديميين وأدباء، من لبنان والعالم العربي، على أن تصدر أبحاث هذا المؤتمر في كتاب، لإعطاء روايتكِ مكانتها في هذا العالم.
_________________________________________
تقديم: د. رفيف رضا صيداوي
هل يكفي القولُ إنّ علويّة صبح هي مثقّفةٌ عربيّة مارَست مهنةَ التدريس، ومناضلةٌ انتسبت في شبابِها إلى الحزب الشيوعيّ اللّبنانيّ، وصحافيّةٌ ترأَّست تحريرَ مجلّةٍ من أبرز المجلّاتِ النسائيّةِ العربيّة، أعني مجلّة "الحسناء"، وأسَّست مجلّةَ "سنوب الحسناء" وترأَّست التحريرَ فيها...؟ كلّ هذه الخبرات غير كافية للتعريف بها، على الرّغم من أهمّيّتها في إغناء الحكايا التي حَكَتْها علويّة صبح عبر مَسارها الإبداعيّ الروائيّ القيِّم حتّى غدت جزءاً تأسيسيّاً من هويّتها الذاتيّة. لذا فإنّ شهادتي لن تخرج عن إطارِ مَسارِها الإبداعيّ الروائيّ هذا لكونه يشكِّل بالفعل شهادةَ حياة.
لعلّه المسار الذي يُشير إليها كروائيّة بالقوّة قبل أن تكون روائيّة بالفعل، وكمُبدِعة لديها عقل الغريزة أو الفطرة الذي قرّبها من لغةِ الناس العاديّين ونَثرهم العاميّ حين كانت تقتضي الحاجةُ الفنيّةُ ذلك، وسمح لها تراكمُ خبراتِها الحياتيّة والعلميّة والمهنيّة ببناءِ أرشيفٍ شفويٍّ يحفظ الذاكرة، ولاسيّما النِسويّة، من التبدُّد والنسيان. ذاكرة محمَّلة بتفاصيل حيّة عن الناس، رجالاً ونساءً، عن الشباب والكهولة، والعجز والمرض، والحياة والموت، عن الحبّ والكراهيّة والهجران، عن المُدن والأوطان، عن النضال والعنف والحرب، عن العروبة وتحوّلاتها، وعن الأصوليّات وأوجُهِها...إلخ.
تسأل مُواطناً عربيّاً عن علويّة صبح فيُجيبك مباشرةً: أليست صاحبة "مريم الحكايا"؟
لكنّ "مريم الحكايا" لم تعُد عنواناً لإحدى رواياتها فحسب، بل غدت دلالة على النساء وحكاياتهنّ التي تختصر حيواتِهنّ وحياةَ علويّة صبح نفسَها؛ قصّة حياتها وحياة مجتمعها الصغير والكبير الموزَّعة في فصولٍ وعبر تعدُّدِ الأصوات والشخصيّات والأسماء. علويّة، مريم، دنيا، فريال، أنيسة، بسمة وغيرها وغيرها من الأسماء تتعدّد وتتقاطع كشخصيّاتٍ نسائيّة تُطلِق العنان لسردها اليومي المعاش، فتملأ ذاكرةً مثقوبة في أنظمتنا العربيّة الدكتاتوريّة والأبويّة، لتؤسِّس ذاكرةً تاريخيّةً روائيّةً أوسع مدىً من ذاكرةِ التاريخ الرسميّ.بهذا المعنى أصبح توليد الحكايا لدى علويّة صبح هو هو "هويّتها السرديّة" المتحقِّقة في الزّمن وبه،وعبر وجودها بين شخوصها ومعهم، في حركةٍ دائمةٍ بين الماضي والحاضر والمستقبل، في مجتمعٍ سَبَقَ بتقاليدِه وأنظمتِهِ ومعاييره وجودَها ووجودَ شخوصِها. فكان ذلك يفضي بعلويّة صبح إلى ارتيادِ المستوياتِ الدفينةِ من الوعي الفرديّ والجماعيّ، وإلى إعادةِ صَوْغِ ذاكرة جيلِ الأمّهات والآباء والجدّات والأجداد.
تُبصر المرأة في هذا العالَم، عالَم علويّة صبح، ذاتَها وذاتَ الرجل من منظورٍ إنسانيّ يهدم المزيَّف في العلاقات الاجتماعيّة المسكوت عنها؛ منظور يُعيد النَّظر في معنى الأنوثة والذكورة، والجنس، والحبّ، والزواج،..إلخ، وفي إشكاليّة أن تكون المرأةُ مرأةً، وأن يكون الرجلُ رجلاً في شرطِنا التاريخيّ- الاجتماعيّ. ثمّة مقاربةٌ لحقيقةِ المرأة ولحقيقةِ الرجل من خارج المنظور الأبويّ الذكوريّ، ومن خارج دائرة تصوّرات الرجل، ما يُقرِّبنا من فهْمِ أسباب ما يصيب تلك العلاقات بين الذكورة والأنوثة من خَيبات.
خطاب علويّة صبح موجَّهٌ ضدّ كلّ عناصر التخلّف في مجتمعنا العربيّ، وضدّ تاريخ التهميش الذي طاولَ نساءه، بالتزامُنِ مع تعميقِ ذكوريّة الرجال وجعْلهم ضحايا الذكوريّة تلك. وقد تجلّت سِعةُ الأُفقِ هذه في روايتها الصادرة حديثاً، وأقصد بذلك رواية "افرح يا قلبي"، حيث نتعرّف إلى بطلها الرئيسيّ الذكر غسّان، وإلى حكايته المتشكِّلة من حكاية مدينتِه وعائلتِه وموروثِه الاجتماعيّ؛ ما يجعل من أدب علويّة صبح إخباراً عن "الحالة الإنسانيّة" بعموميّتها،وتجاوزاً للسطحي والعابر نحو خصوصيّة المعيش وخفاياه وثقوبه وجروحه وانهياراته، ولاسيّما في مجتمعاتِنا العربيّة المتغيّرة والمتحوِّلة، المنذورة للحروب، والتي تشهد اختلاطَ القيَمِ والمعاني، وانفتاحَ الذاكرة اليوميّة فيها على حداثةٍ عالَميّة ملغومة.
بالحكايا لم تؤسِّس علويّة صبح هويّتَها كامرأةٍ وكمُبدعةٍ فحسب، بل روت قصّتَها كمناضِلةٍ قاومتِ المرضَ وتغلّبت على الموت، وناصرتِ الحبَّ وانتصرت للحياة.
فهنيئاً للحياة بكِ وهنيئاً للرواية العربيّة بما أضفتِهِ إليها.